سير

من زقاق إلى المجد: سيرة ألبرت مايكلسون، أول أمريكي ينال جائزة نوبل في الفيزياء

في زقاق ضيق من شوارع شترلنو، بروسيا، وُلد حلم صغير سيغير العالم إلى الأبد. في 19 ديسمبر 1852، أبصر النور ألبرت أبراهام مايكلسون، الفتى الذي سيقود ثورة علمية صامتة تقيس سرعة الضوء بدقة لم يعرفها البشر من قبل. من بدايات متواضعة هاجرت أسرته فيها إلى أمريكا، إلى لحظة وقوفه على منصة جائزة نوبل عام 1907، تروي سيرة مايكلسون قصة نبوغ استثنائي قادته لأن يصبح أول أمريكي يفوز بنوبل في العلوم.

من أحلام الطفولة إلى عظمة نوبل

النشأة والطفولة: ملامح التكوين

وُلد ألبرت مايكلسون في بلدة شترلنو ببروسيا (الآن ستريزلو، بولندا)، لعائلة يهودية فقيرة. هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة عام 1855، واستقرت في البداية في مدينة فرجينيا بولاية نيفادا، حيث عمل والده في مجال التعدين. وسط أجواء الغرب الأمريكي المتقلبة، بدأت ملامح نبوغ ألبرت تتضح منذ طفولته، حين كان يُبهر مدرسيه بأسئلته عن الضوء والظلال، ويقضي ساعات في تفكيك المرايا والعدسات الصغيرة.

أثّرت والدته بشكل خاص على تكوينه، حيث شجعته على التعليم والقراءة، رغم أن الأوضاع المالية للأسرة لم تكن ميسورة. كذلك، ترك أحد أساتذته في المرحلة الثانوية – وكان عالم طبيعة سابق – بصمة كبيرة في شخصيته، حين أهداه كتابًا عن البصريات فتح له أبواب عالم جديد.

التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة

في عام 1869، تم تعيين مايكلسون في الأكاديمية البحرية الأمريكية في أنابوليس بفضل توصية خاصة من الرئيس يوليسيس غرانت. هناك، تفوّق في مجالات الفيزياء والكيمياء والرسم الفني. بعد تخرجه عام 1873، أُرسل في مهمات بحرية، لكنه عاد ليعمل مدرسًا في الأكاديمية حتى عام 1879.

في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر، حصل مايكلسون على منحة لدراسة البصريات في أوروبا، حيث زار جامعات هايدلبرغ وبرلين، بالإضافة إلى المدرسة المتعددة التقنيات في باريس. هناك، انغمس في دراسات الضوء، وتأثر بعمالقة مثل هيلمهولتز وفوكو.

الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير

عقب عودته إلى أمريكا، بدأ مايكلسون بتصميم أدوات لقياس سرعة الضوء. أول اختراعاته البارزة كان جهاز مقياس التداخل (Interferometer)، الذي قسم شعاع الضوء وقارنه في اتجاهات مختلفة.

وفي عام 1887، بالتعاون مع الكيميائي إدوارد مورلي، أجرى واحدة من أكثر التجارب تأثيرًا في تاريخ الفيزياء: تجربة مايكلسون-مورلي، التي سعت لإثبات وجود “الأثير” الذي كان يُعتقد أنه وسط يحمل الضوء. جاءت النتائج مخالفة للتوقعات، ما مهّد الطريق لاحقًا لنظرية النسبية الخاصة لأينشتاين.

الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي

1. تجربة مايكلسون-مورلي (1887)

  • الفكرة الأساسية: قياس الفارق في سرعة الضوء حسب اتجاه حركته بالنسبة للأرض.
  • النتيجة: لم يُرصد أي فرق في السرعة، ما نسف فرضية الأثير.
  • الأثر: تعتبر التجربة من أسس الفيزياء الحديثة، وواحدة من أكثر التجارب شهرة في تاريخ العلم.

2. تحديد طول المتر باستخدام الضوء (1892)

  • استخدم مايكلسون أطوال موجات الضوء الأحمر للكادميوم لتحديد المتر بدقة أكبر.
  • ساهم ذلك في تطوير علم القياسات الدقيقة (Metrology).

3. قياس أقطار النجوم باستخدام التداخل البصري (1920)

  • باستخدام جهاز تداخلي مُطور، قاس قطر نجم “منكب الجوزاء” لأول مرة.
  • فتح هذا الباب أمام علم “الفيزياء الفلكية المرئية”.

ألبرت مايكلسون منحنا الضوء لا فقط كظاهرة بصرية، بل كأداة لقياس الكون. – معهد كاليفورنيا للتقنية

لحظة نوبل: القمة المنتظرة

في 10 ديسمبر 1907، منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم جائزة نوبل في الفيزياء إلى مايكلسون، تقديرًا “لأجهزته البصرية الدقيقة وأبحاثه الطيفية والمترولوجية”. وقد كان أول أمريكي يفوز بجائزة نوبل في أي مجال من مجالات العلوم.

في ذلك الوقت، كان العالم العلمي يعيش فترة توتر بين النظريات الكلاسيكية وصعود المفاهيم الجديدة حول الضوء والزمن. واعتُبر عمل مايكلسون نقطة تحول، حيث قاد العلماء إلى إعادة النظر في أسس الفيزياء الكلاسيكية.

التحديات والإنسان وراء العبقرية

واجه مايكلسون صعوبات عدة: فقد كانت تجربته غير مفهومة لدى الكثيرين، واضطر للبحث عن تمويل مستقل في بداياته، كما رفضت بعض المجلات العلمية في البداية نشر نتائجه.

ومع ذلك، احتفظ بإيمانه بعمله، وكان يقول: “الحقيقة لا ترتبك من مقاومة الناس، بل تقوى”. وبدعم من زوجته مارغريت، وأصدقائه في الأوساط الأكاديمية، تابع تطوير أدواته وتحسين دقة قياساته.

الجوائز والإرث: ما تركه للعالم

  • جائزة نوبل في الفيزياء – 1907
  • ميدالية هنري درابر – 1916
  • ميدالية كولومبوس – 1893
  • وسام كوبلي من الجمعية الملكية – 1907

نشر مايكلسون أكثر من 50 بحثًا علميًا، وسجّل براءات لاختراعات بصريّة دقيقة. وتُعد أجهزته أساسًا للعديد من التجارب في علم الضوء حتى اليوم.

الجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز

خارج المختبر، كان مايكلسون يحب الرسم والموسيقى، ويحرص على قضاء وقت مع عائلته. كما دعم مبادرات تعليم العلوم في المدارس، وساهم في تأسيس برامج بحثية جامعية.

قال مرة:

الضوء هو لغة الكون… من يقرأه، يفهم أسراره.

ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود

ظل مايكلسون نشطًا في أبحاثه حتى سنواته الأخيرة. تولى مناصب أكاديمية في جامعة شيكاغو، وتعاون مع العديد من العلماء الشباب.

في 9 مايو 1931، رحل عن العالم في باسادينا، كاليفورنيا. بعد وفاته، تم تكريمه بإطلاق اسمه على فوهة قمرية (Michelson Crater)، وسُمي العديد من المعاهد والأجهزة البحثية باسمه.

الخاتمة: أثر خالد

من زقاق فقير في بروسيا إلى منصة نوبل في ستوكهولم، تروي سيرة ألبرت مايكلسون قصة نادرة عن الإيمان بالعلم، والمثابرة في وجه التحديات، والرغبة في سبر أسرار الكون.

إنجازاته في البصريات لم تُغيّر فقط مفاهيمنا عن الضوء، بل شكلت أساسًا للعديد من الاكتشافات التي تلته. واليوم، تظل سيرته مصدر إلهام لكل من يحلم بتغيير العالم، شعاعًا ضوء يقود الباحثين في الظلام نحو الحقيقة.

الجدول الزمني لأبرز محطات مايكلسون

السنة الحدث
1852 وُلد في شترلنو، بروسيا
1869 التحق بالأكاديمية البحرية الأمريكية
1881 اخترع أول جهاز تداخل ضوئي
1887 أجرى تجربة مايكلسون-مورلي
1907 حصل على جائزة نوبل في الفيزياء
1920 قاس قطر نجم “منكب الجوزاء”
1931 توفي في كاليفورنيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى