سير

أدولف أوتو راينهولد ويندوس: الكيميائي الذي أنقذ العالم بفيتامين الشمس

في مساء شتوي من يوم 25 ديسمبر 1876، في أحد أحياء برلين المتواضعة، وُلد طفل حمل في عينيه بريقًا مبكرًا لشغف سيقوده لاحقًا إلى منصة المجد العلمي. كان اسمه أدولف أوتو راينهولد ويندوس، ذلك الفتى الذي سيخوض رحلة علمية شاقة ليضع بصمته في عالم الكيمياء الحيوية، ويصبح أحد أبرز من اكتشف العلاقة بين المركبات العضوية والفيتامينات، خاصة فيتامين D، ممهّدًا بذلك لعلاج مرض الكساح وإنقاذ الملايين. من الطفولة إلى نوبل، قصة ويندوس ليست فقط عن الكيمياء، بل عن الإنسانية والإصرار على خدمة البشر من خلال العلم.

 النشأة والطفولة: ملامح التكوين

وُلد أدولف ويندوس في برلين، ألمانيا، لأسرة متوسطة الحال. كان والده يعمل في تجارة الأقمشة، وهي مهنة علمته معنى الدقة والالتزام. في أواخر القرن التاسع عشر، كانت ألمانيا تمر بمرحلة من التحولات السياسية والاجتماعية الهامة، وقد تركت هذه التغيرات أثرها في تكوين الطفل الصغير الذي نشأ في ظل قيم الانضباط والتعليم الصارم.

في مدرسته الثانوية، أظهر شغفًا مبكرًا بالعلوم، وخاصة الكيمياء. وقد روى أحد معلميه أنه كان يمضي ساعات طويلة في مكتبة المدرسة، يقرأ عن التركيبات الكيميائية ويحاول إجراء تجاربه الخاصة. هذا الشغف الصامت، والميل الطبيعي للتجريب، كانا بذرتين ستزهران لاحقًا في مختبرات الجامعات الكبرى.

 التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة

بدأ ويندوس دراسة الطب في جامعة برلين عام 1895، لكنه سرعان ما أدرك أن شغفه الحقيقي يكمن في الكيمياء. انتقل إلى جامعة فرايبورغ، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء عام 1899، بأطروحة تناولت موضوع “الديجيتاليس”، وهو أحد مركبات النباتات الطبية.

في عام 1903، حصل على مؤهل التدريس الجامعي (habilitation)، وبدأ بإعطاء محاضرات في الكيمياء. ثم انتقل إلى جامعة إنسبروك في النمسا أستاذًا للكيمياء، قبل أن يستقر أخيرًا في جامعة غوتنغن عام 1915، حيث شغل منصب أستاذ ومدير معهد الكيمياء العضوية.

خلال هذه السنوات، كان تأثيره الأكاديمي يتزايد، خاصة بعد أن تتلمذ على يديه عدد من العلماء الذين أصبحوا لاحقًا روادًا في مجالاتهم، ومنهم العالِم أدولف بوتينانت الذي نال لاحقًا جائزة نوبل أيضًا.

الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير

في مختبرات جامعة غوتنغن، بدأ ويندوس العمل على مركبات الكوليسترول والستيرولات، وهي مركبات دهنية لها علاقة بالبنية الخلوية والهرمونات. في تلك الفترة، كانت معرفة البشر بهذه المركبات محدودة، وكان الربط بينها وبين الصحة الجسدية لا يزال غامضًا.

استطاع ويندوس أن يكتشف الصلة بين الستيرولات والفيتامينات، خاصة فيتامين D، مبرهنًا أن الجسم يمكن أن يُنتج هذا الفيتامين عندما يتعرض الجلد لأشعة الشمس، من خلال تحول مركب يُدعى 7-ديهيدروكوليسترول إلى فيتامين D3.

الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي

– اكتشاف العلاقة بين الستيرولات والفيتامينات

في أبحاثه الرائدة، بيّن ويندوس أن الكوليسترول والستيرولات الأخرى ليست مجرد مواد دهنية، بل تلعب دورًا أساسيًا في إنتاج الفيتامينات، خاصة فيتامين D. هذا الفيتامين الضروري لصحة العظام والأسنان، والذي كان نقصه يتسبب في أمراض مثل الكساح، أصبح ممكنًا تصنيعه بطرق كيميائية بعد اكتشافاته.

– تحضير فيتامين D صناعيًا

في تعاون مع شركة “ميرك” للأدوية، تمكن من إنتاج فيتامين D صناعيًا، مما فتح الباب أمام علاجات حديثة للكساح، خصوصًا في المناطق التي تقل فيها أشعة الشمس.

لقد أضاء العلم ظلمة الكساح، وفُتح باب الحياة بفيتامين واحد – تعليق من أحد الأطباء البريطانيين عام 1930

لحظة نوبل: القمة المنتظرة

في 10 ديسمبر 1928، منحته الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم جائزة نوبل في الكيمياء، “تقديرًا لأبحاثه حول بنية الستيرولات وعلاقتها بالفيتامينات”. جاء ذلك في وقت كانت فيه الأمراض الناتجة عن نقص الفيتامينات تحصد أرواح الأطفال، وكان اكتشاف فيتامين D بمثابة إنقاذ جماعي.

وفقًا لمؤسسة نوبل (1928):

لقد مهد عمله الطريق لفهم بيولوجي جديد للفيتامينات، وفتح آفاقًا علاجية غير مسبوقة.

وكان من أبرز المتنافسين معه على الجائزة آنذاك علماء الكيمياء الحيوية من أوروبا وأمريكا، لكن دقة أبحاثه ونتائجها التطبيقية جعلته المرشح الأجدر.

 التحديات والإنسان وراء العبقرية

رغم كل هذا النجاح، لم تكن طريق ويندوس مفروشة بالورود. فقد واجه تحديات مالية في بداياته، كما عانى من ضغوط سياسية خاصة خلال الحقبة النازية، حيث رفض التعاون مع برامج الحكومة الألمانية التي كانت تسعى لاستخدام العلم في الأغراض العسكرية.

كان معروفًا بدعمه لطلابه من خلفيات مختلفة، ودافع عن عدد من زملائه اليهود، وهو موقف كلفه كثيرًا لكنه تمسّك بمبادئه.

 الجوائز والإرث: ما تركه للعالم

بالإضافة إلى جائزة نوبل، حصل ويندوس على العديد من الجوائز، منها:

  • وسام غوته عام 1941
  • الصليب الأكبر من وسام الاستحقاق الألماني عام 1952
  • الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات ألمانية وأوروبية

نشر أكثر من 150 بحثًا علميًا، وساهم في تطوير أول دواء يحتوي على فيتامين D يُستخدم طبيًا. كما تتلمذ على يديه عدد من العلماء الذين صاروا أعلامًا في الكيمياء.

الجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز

كان ويندوس متواضعًا، يحب العزلة، ويعشق الموسيقى الكلاسيكية. كان يؤمن بأن “العلم يجب أن يكون في خدمة الإنسان لا أن يتحكم فيه”. لذلك خصص جزءًا كبيرًا من وقته بعد التقاعد لتطوير مناهج تعليمية في الكيمياء للطلاب الصغار، مؤمنًا بأن التغيير يبدأ بالتعليم.

 ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود

بعد تقاعده عام 1944، لم يتوقف عن الكتابة والبحث. واستمر في دعم المشاريع الطبية والتعليمية حتى وفاته في 9 يونيو 1959. وقد أُطلق اسمه لاحقًا على عدة قاعات بحثية، ومُنحت ميداليات تكريمية باسمه.

 الخاتمة: أثر خالد

من بين ملايين البشر الذين درسوا الكيمياء، قلة هم من استطاعوا ربط العلم بالحياة كما فعل أدولف ويندوس. من زقاق برلين إلى قاعة نوبل، كانت رحلته نموذجًا للعلم الذي ينبع من ضمير حي، ويُثمر إنقاذًا للإنسانية.

قصته تظل حافزًا لكل باحث، بأن الإبداع يبدأ من التساؤل، وأن العلم لا يُقاس فقط بالمختبرات، بل أيضًا بأثره على الحياة نفسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى