أرني تيسيليوس: رائد التحليل الكهربائي الذي غيّر وجه الكيمياء الحيوية

المقدمة: رحلة العقل بين العلم والابتكار
في عالمٍ يتسارع فيه الاكتشاف والعلم، يبرز بين الحين والآخر علماء يتركون بصمة لا تُمحى في تاريخ الإنسانية، ومن بين هؤلاء كان أرني تيسيليوس (Arne Tiselius)، العالم السويدي الذي حمل راية البحث في الكيمياء الحيوية، وفتح أبوابًا جديدة أمام فهم البروتينات والمواد الحيوية في أجسادنا.
لم يكن تيسيليوس مجرد كيميائي بارع، بل كان رائدًا للبحث المنهجي الذي جمع بين النظرية الدقيقة والتطبيق العملي الثوري، حتى أصبح اسمه مقترنًا بأحد أهم إنجازات القرن العشرين في التحليل الكيميائي — التحليل الكهربائي (Electrophoresis) — الذي غيّر جذريًا مناهج البحث في الطب والبيولوجيا والكيمياء الحيوية.
النشأة والتكوين: طفل يلهث وراء المعرفة
وُلد أرني فيلهلم كيرت تيسيليوس (Arne Wilhelm Kaurin Tiselius) في 10 أغسطس عام 1902 في مدينة ستوكهولم بالسويد. كانت بيئته الأولى مشبعة بروح العلم والانضباط، فقد نشأ في أسرة تؤمن بأهمية التعليم والعمل الجاد. وفي سنواته المبكرة، أظهر شغفًا كبيرًا بالطبيعة والتجارب المنزلية البسيطة التي كان يجريها بنفسه، مما لفت انتباه والديه إلى ميله العلمي المبكر.
عندما بلغ العاشرة من عمره، فقد والده الذي كان من محبي العلوم والقراءة، فكان لذلك أثر بالغ في نفسه، إذ تعهّد بأن يكرّس حياته لإكمال المسيرة التي بدأها والده نحو المعرفة. وبعد انتقال الأسرة إلى مدينة أوبسالا (Uppsala)، التحق بالمدارس العليا هناك، حيث بدأ اهتمامه بالكيمياء يتبلور بوضوح، خاصة بعد أن تأثر بأستاذ الكيمياء الشهير ثيودور سفييدبرغ (Theodor Svedberg)، الذي سيصبح لاحقًا أحد أهم معلميه وأقرب الشخصيات إلى قلبه.
التعليم وبداية التكوين المهني
بدأ تيسيليوس دراسته الجامعية في جامعة أوبسالا، وهي واحدة من أعرق الجامعات في السويد وأوروبا. وفي عام 1925 حصل على درجة الماجستير في الكيمياء، ثم تابع أبحاثه العليا تحت إشراف سفييدبرغ، الذي كان في تلك الفترة يجري أبحاثًا رائدة في الترسيب الفائق للبروتينات (Ultracentrifugation).
خلال عمله المخبري المبكر، أظهر تيسيليوس براعةً استثنائية في تطوير الأجهزة وتحسين دقتها. كان يتمتع بقدرة تقنية نادرة على تحويل الأفكار النظرية إلى أدوات عملية. وفي عام 1930، حصل على درجة الدكتوراه برسالة علمية تناولت موضوع التحليل الكهربائي للبروتينات، لتكون تلك الرسالة الشرارة الأولى في مسيرته العلمية الخالدة.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
لم يكن طريق أرني تيسيليوس مفروشًا بالورود؛ فقد واجه في بداياته صعوبات تقنية ومالية كادت أن تعرقل مشاريعه البحثية. كانت الأجهزة التي يحلم بها لتطبيق نظرياته باهظة التكلفة، ولم يكن الدعم العلمي في تلك الحقبة متوفرًا بالشكل الكافي.
لكن شغفه بالعلم كان أكبر من كل عائق، فبدأ بتصميم جهازه الخاص للتحليل الكهربائي بمساعدة فريق صغير من طلابه. قضى ساعات طويلة في المختبرات، يعمل على تحسين حساسية الأجهزة ودقة نتائجها.
وبحلول عام 1937، تمكن من تطوير جهاز التحليل الكهربائي بالمخزون المتحرك (Moving Boundary Electrophoresis)، وهو ابتكار غير مسبوق في زمنه، مكّنه من فصل البروتينات والمركبات الحيوية بدقة مذهلة. كانت هذه التقنية بمثابة ثورة علمية، فتحت آفاقًا جديدة أمام دراسة الدم والأنزيمات والمكونات الحيوية الأخرى في جسم الإنسان.
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
شكل اكتشاف التحليل الكهربائي للبروتينات نقطة تحول محورية في الكيمياء الحيوية. فبفضل أبحاث تيسيليوس، أصبح بالإمكان دراسة تركيب البروتينات ومكوناتها بدقة لم يكن العلماء يتخيلونها من قبل.
كما ساعدت تقنياته على فهم أمراض الدم والمناعة، وأسهمت في تطوير طرق تشخيصية وطبية لاحقة ما زال أثرها قائمًا حتى اليوم.
وفي الأربعينيات، تولّى تيسيليوس منصب أستاذ الكيمياء الفيزيائية في جامعة أوبسالا، حيث أنشأ مختبرًا متكاملًا للبحث العلمي. كما أشرف على مجموعة من العلماء الشباب الذين أصبحوا لاحقًا من رواد الكيمياء الحيوية في أوروبا.
أما أبرز إنجازاته في تلك الفترة، فكان تطوير تقنيات التحليل الكروماتوغرافي ودمجها مع التحليل الكهربائي، مما أدى إلى تحسين فصل المركبات المعقدة.
وقد نُشرت أبحاثه في أرقى المجلات العلمية، وأحدثت تغييرًا جذريًا في مناهج البحث الطبي، خاصة في دراسة الأجسام المضادة ومكونات الدم.
يقول تيسيليوس في إحدى محاضراته:
“العلم ليس فقط بحثًا عن الحقيقة، بل هو أيضًا بحث عن الوضوح في فهم الإنسان لنفسه.”
التكريمات والجوائز الكبرى
توجت مسيرة أرني تيسيليوس بتكريم عالمي حين حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1948، عن “أبحاثه في التحليل الكهربائي وتحليل الامتزاز”، وهو الإنجاز الذي وُصف بأنه من أعظم الإسهامات في الكيمياء الحديثة.
وفي حفل تسلّمه للجائزة، أشار إلى أن الجائزة ليست له وحده، بل لكل من شاركه الشغف والسهر والعمل في مختبره المتواضع.
إلى جانب جائزة نوبل، نال أيضًا ميدالية بيركن (Perkin Medal)، وعضوية العديد من الأكاديميات العلمية مثل الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. كما شغل لاحقًا منصب رئيس الاتحاد الدولي للكيمياء الحيوية، حيث ساهم في بناء شبكات تعاون علمي بين الباحثين حول العالم.
التحديات والمواقف الإنسانية
على الرغم من شهرته العلمية، كان تيسيليوس معروفًا بتواضعه وإنسانيته الفائقة. كان يؤمن أن قيمة العالم لا تقاس بعدد الجوائز التي يحملها، بل بأثر علمه في خدمة الإنسان.
فقد عُرف عنه حرصه على دعم الباحثين الشباب، وتقديم المنح والدعم المالي لهم من أموال الجوائز التي حصل عليها. وكان يقول دائمًا:
“إن أعظم اكتشاف في حياة الإنسان هو اكتشاف ذاته، وما يستطيع أن يقدمه للعالم.”
كما واجه فترات عصيبة خلال الحرب العالمية الثانية، حين توقفت الكثير من الأبحاث، لكنه استمر في عمله بصمت داخل المختبر، محاولًا تطوير طرق تحليل يمكن أن تخدم في تشخيص الأمراض وسط النقص الحاد في الموارد الطبية.
الإرث والتأثير المستمر
لا يمكن الحديث عن تاريخ الكيمياء الحيوية دون ذكر اسم أرني تيسيليوس. فقد ترك إرثًا علميًا ضخمًا لا يقتصر على اكتشافاته، بل يمتد إلى منهجيته في البحث التي جمعت بين الإبداع والدقة.
أبحاثه فتحت الطريق أمام تطوير العديد من التقنيات الحديثة مثل التحليل الكهربائي للهلام (Gel Electrophoresis) المستخدم اليوم في علم الوراثة والـDNA.
كما أن تأثيره يمتد إلى مجالات أخرى كالكيمياء الطبية، والبيولوجيا الجزيئية، وحتى علم الأدوية، حيث شكّل أساسًا لفهم تفاعلات الجزيئات الحيوية.
الجانب الإنساني والشخصي
تزوج أرني تيسيليوس من السيدة Brita von Horn عام 1930، وكانت شريكة حياته الداعمة له في رحلته العلمية الطويلة. عُرف بحبه للطبيعة والموسيقى، وكان يقضي أوقات فراغه في تسلق الجبال والرحلات العلمية الميدانية، حيث كان يرى في الطبيعة “أعظم مختبر مفتوح للبشرية”.
في سنواته الأخيرة، كرّس وقته لدعم التعليم العلمي في السويد، وساهم في تأسيس برامج للمنح البحثية، معتبرًا أن العلم يجب أن يكون متاحًا للجميع.
توفي أرني تيسيليوس في 29 أكتوبر عام 1971، تاركًا وراءه إرثًا علميًا خالدًا، وشخصية تجمع بين ذكاء العالم وصدق الإنسان.
الخاتمة: دروس من حياة أرني تيسيليوس
إن سيرة أرني تيسيليوس ليست مجرد قصة نجاح علمي، بل هي حكاية إنسان آمن بأن المثابرة قادرة على تحويل الفكرة إلى اكتشاف، والاكتشاف إلى حضارة.
لقد علمنا أن الطريق إلى المجد العلمي لا يُعبّد بالموارد، بل بالإيمان بالهدف والقدرة على التغيير.
فمن معمل بسيط في أوبسالا، أضاء تيسيليوس للعالم طريقًا جديدًا نحو فهم أسرار الحياة، وبقي اسمه شاهدًا على أن العبقرية الحقيقية هي تلك التي تخدم الإنسان قبل أن تخدم المجد الشخصي.