سير

ألبرت زينت – جورجي رائد فيتامين C… من ظلمة الحرب إلى نور الاكتشاف

النشأة وبداية الطريق

في صباح خريفي هادئ من عام 1893، وُلد في مدينة بودابست الهنغارية طفل حمل اسم “ألبرت زينت – جيورجي”، لم يكن أحدٌ يعلم حينها أن هذا الصبي، الذي نشأ في قلب أوروبا المضطربة، سيغيّر مجرى الطب والعلوم الحيوية في القرن العشرين. وُلد ألبرت لعائلة مثقفة تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية المتعلمة؛ فوالده كان مهندسًا زراعيًا، وجدّه أستاذًا جامعيًا، مما شكّل بيئة مشبعة بالعلم والانضباط.

أظهر الطفل ألبرت ميلًا منذ صغره نحو الملاحظة والتجريب. لم يكن يهوى الألعاب الصاخبة بقدر ما كان يسحره مراقبة أوراق النباتات وهي تتنفس، أو تحليل تأثير الضوء على الماء. ولأن الطب كان آنذاك ذروة التخصصات العلمية، فقد قرر أن يسلك هذا الطريق، وبدأ دراسته في كلية الطب بجامعة بودابست في عام 1911.

بين شظايا الحرب وغموض المجهول

اندلعت الحرب العالمية الأولى، فاضطر ألبرت إلى الانخراط في الجيش كطبيب ميداني. لم تكن هذه التجربة سهلة، بل تركت في روحه أثرًا عميقًا، وجعلته يدرك بمرارة هشاشة الإنسان أمام قسوة الظروف. أُصيب خلال إحدى المعارك، لكنه نجا، وكان للشفاء الذي مرّ به دور كبير في تشكيل اهتمامه بالجوانب الدقيقة في وظائف الجسد وقدرته على مقاومة المرض.

بعد الحرب، قرر ألبرت أن يستكمل دراسته العلمية، فانتقل إلى ألمانيا، ثم إلى جامعة كامبريدج في إنجلترا، حيث عمل مع كبار علماء الكيمياء الحيوية. كان يحمل داخله شغفًا لا يُحدّ، ورغبة عنيدة في فهم “سر الحياة”.

اكتشاف فيتامين C: رحلة الضوء خلف القناع

في ثلاثينيات القرن العشرين، وبينما كانت أوروبا تترنح تحت وطأة الكساد الاقتصادي، انشغل ألبرت في مختبره الصغير في جامعة سيغد بالمجر بدراسة تفاعلات الأكسدة داخل الخلايا. كانت تلك الدراسات معقدة ومبهمة، لكنها قادته إلى نتيجة مذهلة: مادة كيميائية موجودة في الفلفل الحلو والكبد الطازج، لها القدرة على مقاومة مرض الأسقربوط، وهو مرض ناتج عن نقص في فيتامين غير معروف آنذاك.

بكل دقة، تمكن ألبرت من عزل هذه المادة وتحديد بنيتها الكيميائية، وأطلق عليها اسم حمض الأسكوربيك – وهو ما نعرفه اليوم باسم فيتامين C.

لم يكن هذا الاكتشاف مجرد إنجاز علمي، بل فتح الباب أمام فهم جديد لدور الفيتامينات في الوقاية والعلاج. لقد أعاد ألبرت تعريف العلاقة بين التغذية والصحة، وبين الوقاية والعلاج، وكان بذلك سابقًا لعصره بسنوات طويلة.

جائزة نوبل: الاعتراف الدولي

في عام 1937، حصل ألبرت زينت – جيورجي على جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء عن اكتشافه لفيتامين C ودوره في سلسلة تفاعلات الأكسدة داخل الخلية. كانت الجائزة تتويجًا مستحقًا لرحلة مضنية من العمل والبحث، واعترافًا عالميًا بعطائه الفذ.

لكن المدهش أن ألبرت لم يتوقف عند هذا الإنجاز. بل اعتبر أن الجائزة ليست نهاية، بل بداية حقيقية لمسؤولية أعمق تجاه البشرية.

التحديات والمواقف الأخلاقية

رغم المجد العلمي، عاش ألبرت حياته محاطًا بالتوترات السياسية والاجتماعية. في الحرب العالمية الثانية، رفض التعاون مع النظام النازي، وانضم إلى المعارضة السرية ضد الاحتلال الألماني في المجر. لم يكن مجرد عالم مختبرات، بل صاحب موقف إنساني أخلاقي لا يساوم عليه.

بعد الحرب، عُرض عليه مناصب رسمية في الحكومة، لكنه رفض، مفضّلًا الاستقلال والحرية الفكرية. وعندما شعر بأن الأجواء السياسية في المجر لم تعد ملائمة للبحث، قرر في عام 1947 الهجرة إلى الولايات المتحدة، حيث أسس مركز أبحاث خاصًا في ماساتشوستس لمواصلة عمله العلمي.

إرث علمي يتجاوز المختبر

في أميركا، بدأ ألبرت فصلاً جديدًا من أبحاثه، لكنه لم يعد يركّز فقط على الفيتامينات. بل انتقل إلى دراسة السرطان، وأطلق نظريات جريئة تتحدى الفهم التقليدي لنمو الخلايا. كان يؤمن أن هناك طاقات كامنة في الإنسان – جسدية وعقلية وروحية – لم تُكتشف بعد، وأن المستقبل العلمي يجب أن يتوجه نحو فهم العلاقة بين الفكر والجسد.

ورغم أن بعض أفكاره قوبلت بالجدل، إلا أن أحدًا لم ينكر على ألبرت شجاعته الفكرية وروحه الريادية. لقد علّم أجيالًا من العلماء كيف يكون الشغف طريقًا إلى الحقيقة.

الجانب الإنساني: تواضع الكبار

بعيدًا عن المختبرات، كان ألبرت زينت – جيورجي إنسانًا بسيطًا، مرحًا، يعشق الموسيقى، ويحب الطبيعة. كان يمشي يوميًا لساعات في الحدائق، متأملًا في شكل الغيوم وتفتّح الزهور. لم يكن يحب المظاهر، وكان يحتقر الشهرة إن لم ترتبط بالمسؤولية.

كتب ذات مرة:

“أعظم اكتشاف في حياتي ليس فيتامين C، بل فهمي أن المحبة طاقة علاجية أعظم من أي دواء.”

وفاته… وخلود الرسالة

في الأول من أكتوبر عام 1986، توفي ألبرت زينت – جيورجي عن عمر ناهز 93 عامًا. لكن وفاته لم تكن نهاية، بل بداية لحضور أبدي في قلوب من ألهمهم. فاليوم، يُعتبر “أب فيتامين C”، وتُدرّس أعماله في كبرى الجامعات، وتُنسب إليه ثورات طبية لا تزال مستمرة.

بل إن إرثه تجاوز الطب والكيمياء، ليصبح رمزًا للشجاعة العلمية والنزاهة الأخلاقية.

أثره العالمي في الطب والصحة

  • أحدث اكتشافه لفيتامين C نقلة نوعية في الطب الوقائي.
  • ساعدت أبحاثه على تطوير فهم أعمق للتغذية ودورها في مناعة الإنسان.
  • ألهم أجيالًا من الباحثين لتجاوز حدود ما هو تقليدي في الطب.
  • رسّخ فكرة أن العالم الحقيقي لا يكتفي بما هو قائم، بل يسأل دائمًا: “لماذا؟ وماذا بعد؟”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى