سير

أنطونيو إيغاس مونيز: من تصوير الدماغ إلى جراحة النفس

 

المقدّمة: مفتاح العقل وكشف المجهول

عندما يُذكر اسم أنطونيو إيغاس مونِيز (António Caetano de Abreu Freire Egas Moniz)، يتبادر إلى الذهن “الطبيب الذي غيّر خريطة الدماغ” — إذ كان وراء ابتكار تصوير الأوعية الدماغية (Cerebral Angiography) وتجربة الجراحة النفسية المعروفة باللوثومي (leucotomy) أو ما عُرف لاحقًا باللوبوتومي. إنجازاته العلميّة وضعت حجر الأساس لعلوم الأعصاب الحديثة، وفتحّت آفاقًا كانت تبدو مستحيلة، حتى وإن صاحبها جدل أخلاقي وعلمي. حياة أنطونيو إيغاس مونِيز ليست مجرد سجلّ طبي، بل قصة إنسان قرّر أن يسبر أغوار الدماغ البشري، متحدّياً المحظورات، ومؤثّراً في حياة الملايين، إلى جانب تركه إرثاً مزدوجًا: الإعجاب والانتقاد معًا.

النشأة والتكوين

ولد مونِيز في 29 نوفمبر 1874 في قرية آفانسا (Avança)، التابعة لبلدية إستاريجيا (Estarreja) في البرتغال.
حمل الاسم الأصلي António Caetano de Abreu Freire, لكنّ عمه الكاهن، الأب Caetano de Pina Rezende Abreu e Sá، أصرّ على تبني لقب “Egas Moniz” بدعوى أن العائلة تعود نسبًا إلى النبيل البرتغالي القديم Egas Moniz o Aio.
كان نشأ في بيئة متواضعة مادياً رغم امتلاك العائلة لبعض الأراضي، وتوفّي والده مبكرًا مما اضطر العمّ إلى رعاية تعليمه.
في طفولته، نُشِر عنه حرصه على التعلم والقراءة، وكان العمّ يشجّعه على الفكر الحرّ والتساؤل، ما مهد لعقل اشتراكي منفتح على الأفكار السياسية قبل العلمية، إذ دخَل الجامعة وهو في سنّ السابعة عشرة تقريبًا (في العام 1891).
ورغم بداية متواضعة، فإنّ التكوين المبكّر في المدارس الكاثوليكية واليسوعيّة علّمه الانضباط والبحث، ما ساهم لاحقًا في انتباهه إلى قضايا التشريح والأعصاب.

التعليم وبداية التكوين المهني

في الجامعة، انتسب مونِيز إلى جامعة كويمبرا (University of Coimbra) لدراسة الطب، وتخرّج منها في العام 1899 عن عمرٍ يقارب 25 عامًا.
بعد التخرّج، حصل على شهادة الدكتوراه في العام 1901 ببحثٍ في «الحياة الجنسية من المنظور الفسيولوجي والمرضّي» (A Vida Sexual – Fisiologia e Patologia) التي أثارت ضجّة اجتماعية في البرتغال لأنّها تناولت موضوعاً حساساً في تلك الحقبة.
في العام 1902 تزوج من إلفيرا دي ماسيدو دياس (Elvira de Macedo Dias)، التي وفّرتها ماديًا سهلت له التفرّغ للبحث.
بدأ حياته المهنية كمُحاضر في كلية الطب في كويمبرا، حيث درّس التشريح، الفسيولوجيا، والطب العام. لكنه لم يكن راضيًا عن التدريس فحسب؛ بل راوده الشعور بأنّ الدماغ البشري، ذلك الكنز غير المرئي، يستحق استكشافًا أعمق.

إلى جانب العمل الأكاديمي، انخرط في الحياة السياسية، إذ انتُخب لعضوية البرلمان البرتغالي، والى السفارة الإسبانية، وعُمِد لتوقيع معاهدة فيرساي باسم بلاده بعد الحرب العالمية الأولى.
لكن في 1919 وبعد خيبة الأمل في السياسة، قرّر أن يتفرّغ للعلم تمامًا، فبدأ يستثمر جهده في علم الأعصاب بتركيز أكبر.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

الجدول الزمني المبسّط

السنةالحدث الأساسيملاحظات
1926َيترك السياسة ويتفرّغ للبحث العلميعمره نحو 52 عامًا
1927يُعلن نجاحه في تصوير الأوعية الدماغيةأول عرض عام لتقنية (Cerebral Angiography)
1935يبدأ تجاربه على ما سُمّي لاحقًا «اللوثومي»تعاون مع زميله أحمد ليما (Almeida Lima)
1949يُمنح جائزة نوبل في الطبمشاركةً مع والتر ر. هيِس

في بداياته البحثية، واجه مونِيز تحديات كبيرة: نقص التقنيات التصويرية، مقاومة من زملائه للأفكار الجديدة، والاعتماد على الحقن أو الإجراءات التجريبية على الحيوانات. لكن إصراره ومثابرته دفعاه لأن يجرب حقن المحاليل الإشعاعية في شرايين الدماغ، ليتمكّن من عرض نتائج تصوير الأوعية الدماغية في 1927 أمام الجمعية الفرنسية للطب العصبي، ما شكّل علامة فارقة للعلوم العصبية.
عند انطلاقه في مجال الجراحة النفسية (اللوثومي)، بدأ من ملاحظة بأن جرح الجبهة الأمامية لدى الجنود قد أحدث تغيُّرات في الشخصية. استغل هذه الملاحظة ليجرب قطعًا جزئيًا للألياف البيضاء في الفصّ الجبهي، باستخدام أداة اخترعها بنفسه — قاطع نسج أبيض (leucotome) — في أولى الجراحات عام 1935.
لكن هذه التجارب لم تخلو من نقاط ضعف وأثارت جدلاً حول الأخلاقيات والسلامة، وهو أمر يُناقشه الباحثون حتى اليوم.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

إنجاز مونِيز يمكن اختصاره في فرعين علميين:

  1. تصوير الأوعية الدماغية (Cerebral Angiography)
    باستخدام حقن محاليل مُعتّمة بالأشعّة، استطاع تصوير شرايين الدماغ لأول مرة، ما فتح أمام الأطباء إمكانية تشخيص أورام الدماغ، تمدّد الشريان (aneurysm)، وتشوّهات الأوعية.
    قبل هذا الإنجاز، كان الدماغ يُعدّ “صندوقًا أسود” لا يُرى إلا بالإشعاع السطحي. بعده، تغيّرت خارطة الجراحة العصبية والأشعّة بصورة جذرية.
  2. الجراحة النفسية / اللُوثومي (Prefrontal Leucotomy)
    حصل على جائزة نوبل في 1949 «لاكتشافه القيمة العلاجية لللوثومي في بعض حالات الذُهان».
    برغم أن الجراحة لاحقًا وُصِفت بأنها أثارت مخاطر كبيرة، فإنها مثّلت في زمانها خطوة جريئة لعلاج الحالات التي كانت تُعتبر ميؤوسًا منها، ما وفر أملًا جديدًا للطب النفسي.

«Prefrontal leukotomy is a simple operation, always safe, which may prove to be an effective surgical treatment in certain cases of mental disorder.» — مونِيز، 1948

من الناحية العالمية، بعد إنجاز أولى الصور الدماغية، انتشرت تقنية التصوير في أوروبا وأمريكا، وأصبحت الوسيلة التشخيصية الأولى لعدد من اضطرابات الدماغ حتى تطوّرت لاحقاً إلى الأشعة المقطعية (CT) والرنين المغناطيسي (MRI).
قبل إنجاز مونِيز وبعده، يظهر الفرق: كان التشخيص غامضًا، أما بعده فبدأ الأطباء يرون الداخل. بهذا، تغيّر “حياة أنطونيو إيغاس مونِيز” من مُحاضر وفكر سياسي إلى رائد في تصوير الدماغ، وخلق من “لامرئي” رؤية.

التكريمات والجوائز الكبرى

نال مونِيز العديد من الجوائز والتكريمات، أبرزها:

  • جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب عام 1949.
  • وسام الصليب الكبير لنظام القديس جايمس (Portuguese Military Order of Saint James of the Sword) عام 1945.
  • درجات فخرية من جامعات بوردو وتولوز وليون.
  • في البرتغال، ظهرت صورته على طوابع بريدية وعلى عملة تذكارية، وسُجّل اسمه في كتب التاريخ العلمي البرتغالية كأول برتغالي يحصل على نوبل.

ردود الفعل عند منحه نوبل كانت مزيجًا من الفخر الوطني والجدل العلمي؛ فبينما رأى البعض فيه رمزًا للابتكار الطبي، رأى آخرون في الجراحة النفسية التي طوّرها خطرًا بأبعاد أخلاقية. هذا التناقض – إن صحّ القول – هو ما جعل إرثه مركّبًا.

التحديات والمواقف الإنسانية

من أبرز المواقف الإنسانية في حياة أنطونيو إيغاس مونِيز: في نهاية الثلاثينات، تعرّض لإطلاق نار من مريض مصاب بالفصام، وأُصيب بشلل جزئي، ما اضطره لاستخدام الكرسي المتحرك.
رغم ذلك، لم يتخلّ عن عمله الخاص واستمر يمارس الطب حتى وفاته، حتى وإن قلّت قدرته الحركة.
من جهة أخرى، فإنّ مشروع اللُوثومي أُثير حوله جدل أخلاقي كبير، وقد نشأت دعوات لاحقة لسحب جائزة نوبل عنه أو إعادة النظر في أخلاقيات الجراحة التي ابتكرها.
لقد واجه مونِيز سؤالًا إنسانيًا عميقًا: إلى أي حد يُسمح بتدخّل الجراحة في العقل؟ وإلى أي حد يكون المريض شريكًا حقيقيًا في الاختيار؟ هذه الأسئلة، التي تبدو اليوم بديهيّة في الطب الحديث، كانت في زمانه شبه غير مطروحة.

الإرث والتأثير المستمر

تظلّ تقنية تصوير الأوعية الدماغية من إسهامات أنطونيو إيغاس مونِيز التي لا تزال آثارها باقية. حتى عهد الثمانينيات والتسعينيات، كانت بمثابة الخطوة الأولى لتصوير الدماغ قبل ظهور (CT) و(MRI) الحديثين.
والجانب الآخر من الإرث هو “الدروس الأخلاقية” التي تركها: فقد أظهرت تجربة اللُوثومي أنّ التقدّم العلمي لا يُعفي من مساءلة أخلاقية، وأنه يجب موازنة “الابتكار” بـ “الضمير”. كما قال أحد الباحثين:

«His work continues to influence the field of neuroscience… the legacy of Moniz highlights the intricate balance between medical advances, ethical considerations and public perceptions in the history of medicine.»
ومن الناحية الثقافية، يُحتفل به في البرتغال كبطل وطني، توجد له صفحة في متحف في مسقط رأسه في آفانسا، تذكّرُ بالأيام التي بدأ فيها حلمه بفهم الدماغ البشري.

الجانب الإنساني والشخصي

خلف العالِم والمُبتكر، كان أنطونيو إيغاس مونِيز إنسانًا بسيطًا؛ يحب القراءة والكتابة، نشر مؤلفات في الأدب والجنسانية، وكتب سيرته الذاتية، كما كان محبًا لعائلته.
كان يرى الحياة كـ «بحث عن الضوء في داخلنا»؛ في إحدى مقابلاته الأخيرة قال:

«من غير العقل لا نحيا، ومن غير الشك لا نكتشف، ومن غير الرحمة لا نُعافى.»
وقد تُرجم هذا التصريح لاحقًا في توصياته للطب النفسي بأنّ «المريض ليس جسماً، بل إنسان تحتاج عين الطبيب أن تراعيه قبل قُرص الدواء».
وعلى مستوى المبادرات، رغم أنه لم يترك وراءه مؤسسات خيرية ضخمة، إلا أن ممارسته الطبية بعد إصابته كانت تُوفّر للعلاج بأسعار أقل؛ وقد روى زميل له بأنّ مونِيز قبل إحدى الحالات الحرجة بمبلغ بسيط بدل أجر كبير، لأنه استشعر “أنّ الدماغ البشري ليس سلعة”.

الخاتمة: دروس من العِلم والضمير

قصة حياة أنطونيو إيغاس مونِيز هي درسٌّ في كيف يصنع الإنسان مكانه في التاريخ: من فتى ريفيّ إلى عالم أعصاب ونوبليّ، ومن سياسي إلى مبتكر علميّ ربما ستُناقش تجاربه للأبد. إن إنجازات أنطونيو إيغاس مونِيز تغيّرت وجه الطب العصبي، ولكن التحديات التي واجهها، والجدل الذي أثاره، أحدثا أيضًا فضاءً للتأمل في أخلاقيات البحث الطبي.
إذا عدنا إلى بداياته، نرى أنّه لم يختر طريق الشهرة بل الطريق الذي بدا له “صحيحًا” – فهم الدماغ، وعلاج المكارثيا العقلية، وتوسيع قدرات المعرفة. أما إذا نظرنا إلى اليوم، فنرى إرثًا مختلطًا: أدوات تصوير الدماغ المتطوّرة التي نعتمدها، وأسئلة أخلاقية ما زالت قائمة حول حدود التدخّل في العقل البشري.
لذا يمكن أن تقول: إنّه لم يكن مجرد “قصة نجاح” بالمعنى التقليدي، بل “قصة مسؤولية” – إنجازٌ مع سؤال، تقدّم مع مراجعة، وابتكار مع ضمير.
وفي زمننا الذي تتسارع فيه التكنولوجيا وتتغيّر فيه مفاهيم الإنسان، تبقى سيرة أنطونيو إيغاس مونِيز تذكيرًا بأنّ “العلم بلا إنسانية” لا يكمل، وأن «الدماغ أولاً إنسان، ثم آلة».

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى