قصص

أنيس الجليس… حين يختبر القدر إخلاص القلوب..الليلة٣٢

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزِّين الخامس قال: ثم أطرقتُ إلى الأرض، ولم أزل كذلك حتى يتمَّ جلاءُها، ثم إني آمر بعض الخدم أن يَرمي كيسًا فيه خمسمائة دينار للمواشط، فإذا أخذته المواشط آمرهن أن يُدخلنني عليها، فإذا أدخلْنَني عليها لا أنظر إليها ولا أكلِّمها احتقارًا لها؛ لأجل أن يُقال إني عزيز النفس، حتى تجيء أمُّها فتقبِّل رأسي ويدي، وتقول لي: يا سيدي، انظر جاريتك فإنها تشتَهي قُربَك، فاجبُر خاطرَها بكلمة. فلا أَرُدّ عليها جوابًا، ولم تزل كذلك تستعطفني حتى تقوم فتقبِّل يدي ورجلي مرارًا، ثم تقول: يا سيدي، إن ابنتي صبية مليحة ما رأت رجلاً، فإذا رأتْ منك هذا الانقباض انكسر خاطرُها، فَمِلْ إليها وكَلِّمْها.

ثم إنها تقوم وتحمل إليَّ قدحًا فيه شراب، ثم إن ابنتها تأخذ القدح لتعطيني، فإذا جاءتني تركتُها قائمة بين يديَّ وأنا متكئ على مخدةٍ مزركشةٍ بالذهب، لا أنظر إليها من كِبَر نفسي وجلالة قدري، حتى تظنَّ في نفسها أني سلطان عظيم الشأن، فتقول: يا سيدي، بحق الله عليك لا تردَّ القدحَ من يد جاريتك، فإني جاريتك. فلا أكلِّمها، فتُلِحُّ عليَّ وتقول: لا بد من شربه، وتقدِّمه إلى فمي، فأنفُض يدي في وجهها وأرفُسها، وأفعل هكذا. ثم رفسَ أخي برجله فجاءت في قفص الزجاج، وكان في مكان مرتفع، فنزل إلى الأرض فتكسَّر كل ما فيه، ثم قال أخو الخياط: هذا كله من كِبَر نفسه، ولو كان الأمر إليَّ يا أمير المؤمنين لجلدته ألف سوط وأشهرته في البلد.

ثم بعد ذلك صار أخي يلطم على وجهه، ومزَّق ثيابه، وجعل يبكي ويلطم، والناس ينظرون إليه وهم رايحون إلى صلاة الجمعة، فمنهم من يرمقه، ومنهم من لم يفكر فيه وهو على تلك الحالة، وراح منه رأس المال والربح، ولم يزل جالسًا يبكي، وإذا بامرأة مقبلة إلى صلاة الجمعة، وهي بديعة الجمال تفوح منها رائحة المسك، وتحتها بغلةٌ برذعتها من الديباج مزركشة بالذهب، ومعها عدد من الخدم.

فلما نظرت إلى الزجاج وحال أخي وبكائه، أخذتها الشفقة عليه، ورقّ قلبها له، وسألت عن حاله، فقيل لها: إنه كان معه طبق زجاجٍ يتعيَّش منه، فانكسر منه، فأصابه ما تنظرين إليه. فنادت بعض الخدم وقالت له: ادفع الذي معك إلى هذا المسكين. فدفع له صُرّة، فأخذها، فلما فتحها وجد فيها خمسمائة دينار، فكاد أن يموت من شدة الفرح، وأقبل أخي بالدعاء لها، ثم عاد إلى منزله غنيًا، وقعد متفكرًا، وإذا بطارقٍ يطرق الباب، فقام وفتح، فإذا بعجوزٍ لا يعرفها.

فقالت له: يا ولدي، اعلم أن الصلاة قد قَرُب زوال وقتها، وأنا بغير وضوء، وأطلب منك أن تُدخلني منزلك حتى أتوضأ. فقال لها: سمعًا وطاعة. ثم دخل أخي، وأذِن لها بالدخول، وهو طائر من الفرح بالدنانير. فلما فرغت أقبلت إلى الموضع الذي هو جالس فيه، وصلّت هناك ركعتين، ثم دعت لأخي دعاءً حسنًا، فشكرها على ذلك وأعطاها دينارين.

فلما رأت ذلك قالت: سبحان الله، إني لأعجب ممن أحبك وأنت بِسِمَةِ الصعاليك! فخذ مالك عني، وإن كنت غير محتاج إليه، فاردده إلى التي أعطتك إياه لما انكسر الزجاج منك. فقال لها أخي: يا أمي، كيف الحيلة في الوصول إليها؟ قالت: يا ولدي، إنها تميل إليك، لكنها زوجة رجل موسر، فخذ جميع مالك معك، فإذا اجتمعتَ بها فلا تترك شيئًا من الملاطفة والكلام الحسن إلا وتفعله معها، فإنك تنال من جمالها ومن مالها جميع ما تريده.

فأخذ أخي جميع الذهب، وقام ومشى مع العجوز وهو لا يصدّق بذلك، فلم تزل تمشي وأخي يمشي وراءها حتى وصلا إلى باب كبير، فدقّته، فخرجت جارية رومية فتحت الباب، فدخلت العجوز وأمرت أخي بالدخول، فدخل دارًا كبيرة.

فلما دخلها رأى فيها مجلسًا كبيرًا مفروشًا، وستائر مسبلة، فجلس أخي ووضع الذهب بين يديه، ووضع عمامته على ركبته، فلم يشعر إلا وجارية أقبلت ما رأى مثلها الراؤون، وهي لابسة أفخر القماش، فقام أخي على قدميه، فلما رأته ضحكت في وجهه وفرحت به، ثم ذهبت إلى الباب وأغلقته، ثم أقبلت على أخي وأخذت يده، ومضيا جميعًا إلى أن أتيا إلى حجرة منفردة فدخلاها، وإذا هي مفروشة بأنواع الديباج.

فجلس أخي وجلست بجانبه، ولاعبته ساعة زمانية، ثم قامت وقالت له: لا تبرح حتى أجيء إليك. وغابت عن أخي ساعة، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه عبدٌ أسود عظيم الخلقة، ومعه سيف مجرد يأخذ لمعانه بالبصر، وقال لأخي: يا ويلك! من جاء بك إلى هذا المكان يا أخسَّ الإنس، يا ابن الزانية وتربية الخنا؟ فلم يقدر أخي أن يرد عليه جوابًا، بل انعقد لسانه في تلك الساعة، فأخذه العبد وأعرَاه، ولم يزل يضربه بالسيف صَفْحًا ضرباتٍ متعددة أكثر من ثمانين ضربة حتى سقط من طُوِّلَ على الأرض، فرجع العبد عنه واعتقد أنه مات، وصاح صيحة عظيمة بحيث ارتجّت الأرض من صوته، ودَوَّى له المكان، وقال: “أين المليحة؟”
فأقبلت إليه جارية في يدها طبق مليح فيه ملح أبيض، فصارت الجارية تأخذ من ذلك الملح وتحشو الجراحات التي في جلد أخي حتى تهوّرت، وأخي لا يتحرك خوفًا أن يعلموا أنه حيّ فيقتلوه.
ثم مضت الجارية، وصاح العبد صيحة مثل الأولى، فجاءت العجوز إلى أخي وجرّته من رجله إلى سرداب طويل مظلم، ورمته فيه على جماعة مقتولين، فاستقرّ في مكانه يومين كاملين، وكان الله سبحانه قد جعل الملح سببًا لحياته؛ لأنه قطع عروق الدم.

 

فلما رأى أخي في نفسه القوة على الحركة، قام من السرداب، وفتح طاقة في الحائط، وخرج من مكان القتلى، وأعطاه الله عز وجل الستر، فمشى في الظلام واختفى في ذلك الدهليز إلى الصبح.
فلما كان وقت الصبح، خرجت العجوز في طلب صيدٍ آخر، فخرج أخي في إثرها وهي لا تعلم به، حتى أتى إلى منزله، ولم يزل يعالج نفسه حتى بَرِئ، ثم جعل يتعهد العجوز وينظر إليها كل وقت وهي تأخذ الناس واحدًا بعد واحد وتوصلهم إلى تلك الدار، وأخي لا ينطق بشيء.

ثم لما رجعت إليه صحته وكملت قوته، عمد إلى خرقة وعمل منها كيسًا، وملأه زجاجًا، وشده في وسطه، وتنكر حتى لا يعرفه أحد، ولبس ثياب العجم، وأخذ سيفًا وجعله تحت ثيابه.
فلما رأى العجوز قال لها بكلام العجم:
“يا عجوز، هل عندك ميزان يسع تسعمائة دينار؟”
فقالت العجوز: “لي ولد صغير صيرفي، عنده سائر الموازين، فامضِ معي إليه قبل أن يخرج من مكانه حتى يزن لك ذهبك.”
فقال أخي: “امشي أمامي.”

فسارت وسار أخي خلفها حتى أتت الباب فدقته، فخرجت الجارية وضحكت في وجهه، فقالت العجوز: “أتيتكم بلحمة سمينة.”
فأخذت الجارية بيد أخي وأدخلته الدار التي دخلها سابقًا، وقعدت عنده ساعة، ثم قامت وقالت له: “لا تبرح حتى أرجع إليك.”
فراحت، ولم يستقر أخي إلا والعبد قد أقبل ومعه السيف المجرّد، فقال لأخي: “قم يا مشؤوم.”
فقام أخي، وتقدّم العبد أمامه، وأخي وراءه، ومدّ يده إلى سيفه الذي تحت ثيابه، وضرب به العبد فرمَى رأسه، وسحبه من رجله إلى السرداب، ونادى: “أين المليحة؟”

فجاءت الجارية بيدها الطبق الذي فيه الملح، فلما رأت أخي والسيف بيده، ولّت هاربة، فتبعها أخي وضربها فرمَى رأسها، ثم نادى: “أين العجوز؟”
فجاءت، فقال لها: “أتعرِفِينَنِي يا عجوز النحس؟”
قالت: “لا يا مولاي.”
فقال لها: “أنا صاحب الدنانير الذي جئتِ وتوضأتِ عندي وصلّيتِ، ثم تحيّلتِ عليَّ حتى أوقعتِني هنا.”
فقالت: “اتقِ الله في أمري.”
فالتفت إليها وضربها بالسيف فصَيَّرها قطعتين.

فخرجت عليه اللصوص فعَرَّوه وضربوه وقطعوا أذنيه.

ثم خرج في طلب الجارية، فلما رأته طار عقلها وطلبت منه الأمان، فأمَّنها.
ثم قال لها: “ما الذي أوقعك عند هذا الأسود؟”
فقالت: “إني كنت جاريةً لبعض التجار، وكانت هذه العجوز تتردد عليّ، فقالت لي يومًا من الأيام: إن عندنا فرحًا ما رأى أحدٌ مثله، فأحب أن تنظري إليه.
فقلت لها: سمعًا وطاعة.
ثم قمت ولبست أحسن ثيابي، وأخذت معي صُرّة فيها مائة دينار، ومضيت معها حتى أدخلتني هذه الدار، فلما دخلتُ ما شعرتُ إلا وهذا الأسود أخذني، ولم أزل عنده على هذا الحال ثلاث سنين بحيلة العجوز الكاهنة.”

فقال لها أخي: “هل له في الدار شيء؟”
قالت: “عنده شيء كثير، فإن كنت تقدر على نقله فانقله.”
فقام أخي ومشى معها، ففتحت له صناديق فيها أكياس، فبقي أخي متحيّرًا، فقالت له الجارية: “امضِ الآن ودعني هنا، وهات من ينقل المال.”
فخرج واكترى عشرة رجال وجاء، فلما وصل إلى الباب وجده مفتوحًا، ولم يرَ الجارية ولا الأكياس، وإنما رأى شيئًا يسيرًا من المال وبعض القماش، فعلم أنها خدعته.

فأخذ المال الذي بقي، وفتح الخزائن، وأخذ جميع ما فيها من القماش، ولم يترك في الدار شيئًا، وبات تلك الليلة مسرورًا.
فلما أصبح الصباح وجد بالباب عشرين جنديًا، فلما خرج إليهم تعلّقوا به وقالوا له: “إن الوالي يطلبك.”
فأخذوه وذهبوا به إلى الوالي، فلما رآه قال له: “من أين لك هذا القماش؟”
فقال أخي: “أعطني الأمان.”
فأعطاه منديل الأمان، فحدّثه بجميع ما وقع له مع العجوز من الأول إلى الآخر، ومن هروب الجارية.
ثم قال للوالي: “والذي أخذته خذ منه ما شئت، ودع لي ما أتقوّت به.”

فطلب الوالي جميع المال والقماش، وخاف أن يعلم به السلطان، فأخذ البعض وأعطى أخي البعض، وقال له: “اخرج من هذه المدينة وإلا أشنقك.”
فقال: “السمع والطاعة.”
فخرج إلى بعض البلدان، فخرجت عليه اللصوص فعَرَّوه وضربوه وقطعوا أذنيه، فسمعت بخبره فخرجت إليه، وأخذت إليه ثيابًا، وجئت به إلى المدينة مسرورًا، ورتبت له ما يأكل وما يشرب.

 

حكاية الأخ السادس

وأما أخي السادس يا أمير المؤمنين، وهو مقطوع الشفتين، فإنه كان فقيرًا جدًّا لا يملك شيئًا من حطام الدنيا الفانية، فخرج يومًا من الأيام يطلب شيئًا يسدّ به رمقه، فبينما هو في بعض الطرق إذ رأى دارًا حسنة ولها دهليز واسع مرتفع، وعلى الباب خدم وأمر ونهي، فسأل بعض الواقفين هناك، فقيل له: “هي لإنسان من أولاد الملوك”.

فتقدَّم أخي إلى البوابين وسألهم شيئًا، فقالوا له: “ادخل باب الدار تجد ما تحب من صاحبها”. فدخل الدهليز، ومشى فيه ساعةً حتى وصل إلى دارٍ في غاية من الملاحة والظرف، وفي وسطها بستان ما رأى الراؤون أحسن منه، وأرضها مفروشة بالرخام وستورها مسبولة. فصار أخي لا يعرف أين يقصد، فمشى نحو صدر المكان، فرأى إنسانًا حسن الوجه واللحية، فلما رآه قام إليه ورحب به وسأله عن حاله، فأخبره أنه محتاج.

فلما سمع كلام أخي أظهر غمًّا شديدًا، ومد يده إلى ثيابه فمزقها، وقال: “هل أكون أنا في بلدٍ وأنت فيها جائع؟ لا صبر لي على ذلك!” ووعده بكل خير، ثم قال: “لا بد أن تمازحني.”
فقال له أخي: “يا سيدي، ليس لي صبر، وإني شديد الجوع.”

فصاح: “يا غلام، هات الطشت والإبريق!” ثم قال له: “يا ضيفي، تقدم واغسل يديك.”
ثم أوما كأنه يغسل يديه، ثم صاح على أتباعه أن قدّموا المائدة. فجعل أتباعه يغدون ويروحون كأنهم يهيئون السفرة، ثم أخذ بيد أخي وجلس معه على تلك السفرة الموهومة، وصار صاحب المنزل يومئ ويحرك شفتيه كأنه يأكل، ويقول لأخي: “كل ولا تستحِ، فإنك جائع، وأنا أعلم ما أنت فيه من شدة الجوع.”

فجعل أخي يومئ كأنه يأكل، وهو يقول له: “كل وانظر هذا الخبز وبياضه.” وأخي لا يُبدي شيئًا.
ثم إن أخي قال في نفسه: “إن هذا الرجل يحب أن يهزأ بالناس.”
فقال له: “يا سيدي، عمري ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز، ولا ألذ من طعمه.”
فقال له الرجل: “هذه خبزتها جارية لي كنت اشتريتها بخمسمائة دينار.”

ثم صاح صاحب الدار: “يا غلام، قدم لنا السكباج الذي لا يوجد مثله في طعام الملوك!”
ثم قال لأخي: “كل يا ضيفي، فإنك جائع شديد الجوع، ومحتاج إلى الأكل.”

فصار أخي يدور حنكه ويمضغ كأنه يأكل، وأقبل الرجل يستدعي لونًا بعد لون من الطعام، ولا يُحضَر شيء إلا ويأمر أخي بالأكل. ثم صاح: “يا غلام، قدم لنا الفِراريج المحشوة بالفستق، فكل ما لم تأكل مثله قط!”

فقال له أخي: “يا سيدي، إن هذا الأكل لا نظير له في اللذة.” وأقبل يومئ بيده إلى فم أخي كأنه يلقمه بيده، وكان يعدّد هذه الألوان ويصفها له بهذه الأوصاف، وأخي جائع، فاشتدّ جوعه وصار يشتهي رغيفًا من شعير.

ثم قال له صاحب الدار: “هل رأيت أطيب من أبازير هذه الأطعمة؟”
فقال له أخي: “لا يا سيدي.”
فقال: “أكثر الأكل ولا تستحِ.”
فقال: “قد اكتفيت من الطعام.”

فصاح الرجل على أتباعه أن قدموا الحلويات، فحرّكوا أيديهم في الهواء كأنهم قدّموها، ثم قال صاحب المنزل لأخي: “كل من هذا النوع، فإنه جيد، وكل من هذه القطايف بحياتي، وخذ هذه القطيفة قبل أن ينزل منها الجلاب!”
فقال له أخي: “لا عدمتك يا سيدي.”

وأقبل أخي يسأله عن كثرة المسك الذي في القطايف، فقال له: “إن هذه عادتي في بيتي، فدائمًا يضعون لي في كل قطيفة مثقالًا من المسك ونصف مثقال من العنبر.”

هذا كله وأخي يحرك رأسه وفمه يلعب بين شدقيه كأنه يتلذذ بأكل الحلويات.
ثم صاح صاحب الدار على أتباعه أن أحضروا النقل، فحرّكوا أيديهم في الهواء كأنهم أحضروه، وقال لأخي: “كل من هذا اللوز، ومن هذا الجوز، ومن الزبيب…” وراح يعدّد له أنواع النقل، ويقول له: “كل ولا تستحِ.”

فقال له أخي: “يا سيدي، قد اكتفيت ولم يبقَ لي قدرة على أكل شيء.”
فقال له: “يا ضيفي، إن أردت أن تأكل وتتفَرّج على غرائب المأكولات، فالله الله، لا تكن جائعًا!”

ثم فكر أخي في نفسه، وفي استهزاء ذلك الرجل به، وقال: “والله لأعملن فيه عملًا يتوب بسببه إلى الله عن هذه الفعال.”

ثم قال الرجل لأتباعه: “قدّموا لنا الشراب.” فحرّكوا أيديهم في الهواء حتى كأنهم قدّموه، ثم أوما صاحب المنزل كأنه ناول أخي قدحًا، وقال: “خذ هذا القدح فإنه أعجبك.”
فقال له: “يا سيدي، هذا من إحسانك.” وأومأ أخي بيده كأنه يشربه.
فقال له: “هل أعجبك؟”
قال: “يا سيدي، ما رأيت ألذّ من هذا الشراب!”
فقال له: “اشرب هنيئًا وصحة!”

ثم إن صاحب البيت أوما وشرب، ثم ناول أخي قدحًا ثانيًا، فخيّل أنه شربه، وأظهر أنه سكران.
ثم إن أخي غافله ورفع يده حتى بان بياض إبطه، وصفعه على رقبته صفعةً رنّ لها المكان، ثم ثنّى عليه بصفعة ثانية!

فقال له الرجل: “ما هذا يا أسفل العالمين؟!”
فقال: “يا سيدي، أنا عبدك الذي أنعمتَ عليه، وأدخلتَه منزلك، وأطعمته الزاد، وسقيته الخمر العتيق، فسَكر وعربد عليك، ومقامك أعلى من أن تؤاخذه بجهله!”

فلما سمع صاحب المنزل كلام أخي، ضحك ضحكًا عاليًا، ثم قال له: “إن لي زمانًا طويلًا أسخر بالناس، وأنت أول من غلبني وسخر بي!”

 

وأهزأ بجميع أصحاب المزاح والمجون، فما رأيت منهم من له طاقة على أن أفعل به هذه السخرية، ولا من له فطنة يدخل بها في جميع أموري غيرك. والآن عفوت عنك، فكن نديمي على الحقيقة ولا تفارقني.
ثم أمر بإخراج عدة من أنواع الطعام المذكورة أولًا، فأكل هو وأخي حتى اكتفيا، ثم انتقلا إلى مجلس الشراب، فإذا فيه جوارٍ كأنهن الأقمار، فغنين بجميع الألحان، واشتغلن بجميع الملاهي، ثم شرِبا حتى غلب عليهما السكر، وأُنس الرجل بأخي حتى كأنه أخوه، وأحبّه محبة عظيمة، وخلع عليه خِلعة سنيّة.

فلما أصبح الصباح، عادا لما كانا عليه من الأكل والشرب، ولم يزالا كذلك مدة عشرين سنة، ثم إن الرجل مات، فقبض السلطان على ماله واحتوى عليه، فخرج أخي من البلد هاربًا.
فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب، فأَسروه، وصار الذي أسره يعذبه ويقول له: “اشترِ روحك مني بالأموال، وإلا قتلتك.”
فجعل أخي يبكي ويقول: “أنا والله لا أملك شيئًا يا شيخ العرب، ولا أعرف طريق شيء من المال، وأنا أسيرك وأسير في يدك، فافعل بي ما شئت.”

فأخرج البدوي الجبار من حزامه سكينًا عريضة، لو نزلت على رقبة جمل لقطعته من الوريد إلى الوريد، وأخذها بيده اليمنى، وتقدّم إلى أخي المسكين فقطع بها شفتيه، وشدّد عليه بالمطالبة. وكان للبدوي زوجة حسناء، وكانت إذا خرج البدوي تتعرض لأخي وتراوده عن نفسه، وهو يمتنع حياءً من الله تعالى. فاتفق أن راودت أخي يومًا من الأيام، فقام ولاعبها وأجلسها في حجره، فبينما هما على ذلك إذ بزوجها يدخل عليهما، فلما نظر إلى أخي قال له: “ويلك يا خبيث! أتريد الآن أن تفسد عليّ زوجتي؟”
وأخرج سكينًا وقطع بها ذكره، ثم حمله على جمل وطرحه فوق جبل وتركه وسار في سبيله.

فمرّ عليه المسافرون فعرفوه، فأطعموه وسقوه، وأعلموني بخبره، فذهبت إليه وحملته، ودخلت به المدينة، ورتبت له ما يكفيه. وها أنا قد جئت عندك يا أمير المؤمنين، وخشيت أن أرجع إلى بيتي قبل إخبارك فيكون ذلك خطأ، وورائي ستة إخوة، وأنا أقوم بأمرهم.

فلما سمع أمير المؤمنين قصتي، وما أخبرته عن إخوتي، ضحك وقال: “صدقتَ يا صامت، أنت قليل الكلام، ما عندك فضول، ولكن الآن اخرج من هذه المدينة واسكن غيرها.” ثم نفاني من بغداد.
فلم أزل سائرًا في البلاد حتى طفت الأقاليم، إلى أن سمعت بموته وخلافة غيره، فرجعت إلى المدينة فوجدته قد مات، ووقعت عند هذا الشاب، وفعلت معه أحسن الفعال، ولولا أنا لَقُتِل، وقد اتهمني بأمرٍ ما هو فيَّ، وكل ما نقلوه عني من الفضول، وكثرة الكلام، وكثافة الطبع، وعدم الذوق؛ باطلٌ يا جماعة.

ثم قال الخياط لملك الصين:
“فلما سمعنا قصة المزين وتحققنا فضوله وكثرة كلامه، وأن الشاب مظلوم معه، أخذنا المزين وقبضنا عليه وحبسناه، وجلسنا حوله آمنين، ثم أكلنا وشربنا، وتمّت الوليمة على أحسن حالة. ولم نزل جالسين إلى أن أذّن العصر، فخرجت وجئت منزلي وغشيت زوجتي، فقالت: أنت طول النهار في حظّك، وأنا قاعدة في البيت حزينة، فإن لم تخرج بي وتفرّجني بقية النهار، كان ذلك سبب فراقي منك.”
فأخذتها وخرجت بها، وتفرجنا إلى العشاء، ثم رجعنا فلقينا هذا الأحدب والسكر طافح منه، وهو ينشد هذين البيتين:

رَقَّ الزجاجُ وراقَتِ الخمرُ ** فَتَشابها وتشاكلَ الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ** وكأنما قدحٌ ولا خمرُ

 

فعزمتُ عليه فأجابني، وخرجت لأشتري سمكًا مقليًّا، فاشتريت ورجعت، ثم جلسنا نأكل، فأخذت زوجتي لقمةً وقطعةَ سمك، وأدخلتهما فمه فمات. فحملته وتحايلتُ حتى رميته في بيت هذا الطبيب، فتحايل الطبيب حتى رماه في بيت المباشِر، وتحايل المباشِر حتى رماه في طريق السمسار. وهذه قصة ما لقيته البارحة، أما هي أعجب من قصة الأحدب؟

فلما سمع ملك الصين هذه القصة أمر بعض حجّابه أن يمضوا مع الخياط ويحضِروا المزين، وقال لهم: “لا بد من حضوره لأسمع كلامه، ويكون ذلك سببًا في خلاصكم جميعًا، وندفن هذا الأحدب ونواريه في التراب، فإنه ميت من أمس، ثم نعمل له درياحًا؛ لأنه كان سببًا في اطلاعنا على هذه الأخبار العجيبة”.

فما كان إلا ساعة حتى جاء الحجاب ومعهم الخياط بعد أن مضوا إلى الحبس، وأخرجوا منه المزين، وساروا به حتى أوقفوه بين يدي الملك. فلما رآه تأمّله، فإذا هو شيخ كبير جاوز التسعين، أسود الوجه، أبيض اللحية والحاجبين، مقرطم الأذنين، طويل الأنف، في نفسه كِبَر. فضحك الملك من رؤيته وقال: “يا صامت، أريد أن تحكي لي شيئًا من حكاياتك”.

فقال المزين: “يا ملك الزمان، ما شأن هذا النصراني، وهذا اليهودي، وهذا المسلم، وهذا الأحدب بينكم ميتًا؟ وما سبب هذا الجمع؟” فقال له ملك الصين: “وما سؤالك عن هذا؟” فقال: “سؤالي عنهم حتى يعلم الملك أني غير فضولي، ولا أشتغل إلا بما يعنيني، وأني بريء مما اتهموني به من كثرة الكلام، وأن لي نصيبًا من اسمي، حيث لقّبوني بالصامت، كما قال الشاعر:

وقلّما أبصرت عيناك ذا لقبٍ
إلا ومعناه إن فتّشتَ في لقبه

فقال الملك: “اشرحوا للمزين حال هذا الأحدب، وما جرى له في وقت العشاء، واشرحوا له ما حكى النصراني، وما حكى اليهودي، وما حكى المباشِر، وما حكى الخياط”. فحكوا له حكايات الجميع، وليس في الإعادة إفادة.

فحرّك المزين رأسه وقال: “والله إن هذا الشيء عُجاب! اكشفوا لي عن هذا الأحدب”. فكشفوا له عنه، فجلس عند رأسه وأخذ رأسه في حجره، ونظر في وجهه، وضحك ضحكًا عاليًا حتى انقلب على قفاه من شدة الضحك، وقال: “لكل ميتة سبب من الأسباب، وميتة هذا الأحدب من عجب العجاب، يجب أن تُؤرَّخ في السجلات ليعتبر بها من هو آتٍ”.

فتعجب الملك من كلامه، وقال: “يا صامت، احكِ لنا سبب كلامك هذا”. فقال: “يا ملك، وحق نعمتك، إن الأحدب فيه الروح”. ثم إن المزين أخرج من وسطه مِكحلة فيها دهن، ودهن رقبة الأحدب وغطّاها حتى عرقت، ثم أخرج كَلاّبتين من حديد، ونزل بهما في حلقه، فالتقط قطعة السمك بعظمها، فلما أخرجها رآها الناس بأعينهم، ثم نهض الأحدب واقفًا على قدميه، وعطس عطسة، واستفاق في نفسه، ومسح بيديه على وجهه وقال: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله ﷺ”.

فتعجب الحاضرون مما رأوه وعاينوه، فضحك ملك الصين حتى غُشي عليه، وكذلك الحاضرون. وقال السلطان: “والله إن هذه قصة عجيبة، ما رأيت أغرب منها! يا مسلمون، يا جماعة العسكر، هل رأيتم في عمركم أحدًا يموت ثم يحيى بعد ذلك؟ ولولا رزقه الله بهذا المزين لكان اليوم من أهل الآخرة، فإنه كان سببًا لحياته”. فقالوا: “والله إن هذا من عجب العجاب!”

ثم إن ملك الصين أمر أن تُسطّر هذه القصة، فسطّروها، ثم جعلوها في خزانة الملك. ثم خلع على اليهودي والنصراني والمباشِر، وخلع على كل واحد خِلعة سنية، وجعل الخياط خياطَه ورتب له الرواتب، وأصلح بينه وبين الأحدب، وخلع على الأحدب خِلعة سنية مليحة ورتب له الرواتب وجعله نديماً له، وأنعم على المزين وخلع عليه خِلعة سنية ورتب له الرواتب وجعل له جامكية، وجعله مزين المملكة ونديمه.

ولم يزالوا في ألذ عيش وأهناه إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات. وليس هذا بأعجب من قصة الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس.
قال الملك: “وما حكاية الوزيرين؟”

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بالبصرة ملك من الملوك يحب الفقراء والصعاليك، ويرفق بالرعية، ويهب من ماله لمن يؤمن بمحمد ﷺ.
وكان كما قال فيه بعض واصفيه:

جَعَلَ القِنَا أَقْلَامَهُ وَطُرُوسَهُ *** مُهَجَ العِدَى وَرَأَى المِدَادَ دِمَاءَهَا
وَأَظُنُّ أَنَّ الأَقْدَمِينَ لِذَا رَأَوْا *** أَنْ يَجْعَلُوا خَطًّا لَهُ أَسْمَاءَهَا

وكان يُقال لهذا الملك محمد بن سليمان الزيني، وكان له وزيران:
أحدهما يُقال له المعين بن ساوى، والآخر الفضل بن خاقان.
وكان الفضل بن خاقان أكرم أهل زمانه، حسن السيرة، قد اجتمعت القلوب على محبته، واتفق العقلاء على مشورته، وكل الناس يدعون له بطول مدته؛ لأنه محبٌّ للخير، مزيلٌ للشر والضير.

أما الوزير المعين بن ساوى، فكان يكره الناس ولا يحب الخير، وكان محبًّا للسوء، كما قال فيه بعض واصفيه:

تَجَمَّعَتْ مِنْ نُطَفٍ ذَاتُهُ *** فَرُكِّبَتْ مِنْ عُنْصُرٍ فَاسِدِ
لَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ *** أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدِ

فلكلٍّ من هذين الوزيرين نصيبٌ من قول الشاعر:

لُذْ بِالكِرَامِ بَنِي الكِرَامِ فَإِنَّمَا *** تَلِدُ الكِرَامَ بَنُو الكِرَامِ كِرَامَا
وَدَعِ اللِّئَامَ بَنِي اللِّئَامِ فَإِنَّمَا *** تَلِدُ اللِّئَامَ بَنُو اللِّئَامِ لِئَامَا

وكان الناس على قدر محبتهم للفضل بن خاقان يبغضون المعين بن ساوى بقدر القادر.

ثم إن الملك محمد بن سليمان الزيني كان جالسًا يومًا من الأيام على كرسي مملكته، وحوله أرباب دولته، فنادى وزيره الفضل بن خاقان وقال له:
“إني أريد جاريةً لا يكون في زمانها أحسنُ منها، بحيث تكون كاملةً في الجمال، فائقةً في الاعتدال، حميدةَ الخصال”.

فقال أرباب الدولة:
“وهذه لا تُوجد إلا بعشرة آلاف دينار”.

فعند ذلك صاح السلطان على الخازندار وقال له:
“احمل عشرة آلاف دينار إلى دار الفضل بن خاقان”.

فامتثل الخازندار أمر السلطان، ونزل الوزير بعدما أمره السلطان أن يعمد إلى السوق كل يوم، ويُشرف على السماسرة على ما ذُكر، وألا تُباع جاريةٌ ثمنها فوق الألف دينار حتى تُعرض عليه.

فلم يبع السماسرة جاريةً حتى يعرضوها عليه، فامتثل الوزير أمره، واستمر على هذه الحال مدةً من الزمان، ولم تُعجبه جارية.

واتفق يومًا من الأيام أن بعض السماسرة أقبل على دار الوزير الفضل بن خاقان، فوجده راكبًا متوجهًا إلى قصر الملك، فقبض على ركابه وأنشد هذين البيتين:

يَا مَنْ أَعَادَ رَمِيمَ المُلْكِ مَنْشُورًا *** أَنْتَ الوَزِيرُ الَّذِي لا زِلْتَ مَنْصُورًا
أَحْيَيْتَ مَا مَاتَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ كَرَمٍ *** لا زَالَ سَعْيُكَ عِندَ اللهِ مَشْكُورًا

ثم قال:
“يا سيدي، إن الجارية التي صدر بطلبها المرسوم الكريم قد حضرت.”

فقال له الوزير: “اعرضها عليّ”.
فغاب ساعة، ثم حضر ومعه جاريةٌ رشيقة القد، دقيقة الخصر، كحيلة الطرف، أسيلة الخد، نحيلة الخصر، ثقيلة الردف، وعليها أحسن ما يكون من الثياب.

رُضابها أحلى من الجلاب، وقامتها تفضح غصون البان، وكلامها أرقُّ من النسيم إذا مرّ على زهر البستان.
كما قال فيها بعض واصفيها هذه الأبيات:

لَهَا بَشَرٌ مِثْلُ الحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ *** رَخِيمُ الحَوَاشِي لَا هُرَاءٌ وَلَا نَذْرُ
وَعَيْنَانِ قَالَ اللهُ كُونَا فَكَانَتَا *** فَعُولَانِ بِالأَلْبَابِ مَا تَفْعَلُ الخَمْرُ
فَيَا حُبَّهَا زِدْنِي جَوًى كُلَّ لَيْلَةٍ *** وَيَا سَلْوَةَ الأَيَّامِ مَوْعِدُكِ الحَشْرُ
ذَوَائِبُهَا لَيْلٌ وَلَكِنْ جَبِينُهَا *** إِذَا أَسْفَرَتْ يَوْمًا يَلُوحُ بِهِ الفَجْرُ

فلما رآها الوزير أعجبته غاية الإعجاب، فالتفت إلى السمسار وقال له:
“كم ثمن هذه الجارية؟”

فقال السمسار:
“وقف سعرها على عشرة آلاف دينار، وقد حلف صاحبها أن العشرة آلاف دينار لم تجئ ثمن الفراخ التي أكلتها، ولا ثمن الخُلع التي خلعها على معلّميها؛ فإنها تعلمت الخطَّ والنحوَ واللغةَ والتفسيرَ وأصولَ الفقهِ والدينِ والطبَّ والتقويمَ والضربَ بالآلات المطربة.”

فقال الوزير:
“اعرض عليَّ سيدها.”

فأحضره السمسار في الوقت والساعة، فإذا هو رجلٌ أعجمي عاش زمنًا طويلًا حتى صيره الدهر عظمًا في جلد، كما قال الشاعر:

أَرْعَشَنِي الدَّهْرُ أَيَّ رَعْشٍ *** وَالدَّهْرُ ذُو قُوَّةٍ وَبَطْشِ
قَدْ كُنْتُ أَمْشِي وَلَسْتُ أَعْيَا *** وَالْيَوْمَ أَعْيَا وَلَسْتُ أَمْشِي

 حكاية أنيس الجليس وعناية القدر

قيل — والله أعلم — إنه كان في بلاد البصرة ملك من الملوك العادلين، يُعرف بالملك محمد بن سليمان الزيني، وكان معروفًا بين الناس بحبه للفقراء والمحتاجين، ورقّته على الرعية، وعدله في الحكم.
كان كريم اليد، سخي النفس، يُكرم من يؤمن برسالة النبي ﷺ، ويهديهم من ماله، وقد وصفه الشعراء بقولهم:

جَعل القَنا أقلامَه وطروسَهُ
مهجَ العِدى والمدادَ دماءَها

وكان لهذا الملك وزيران، أحدهما يُدعى الفضل بن خاقان، وهو رجل عاقل، حليم، حسن السيرة، قد اجتمعت القلوب على محبته، والعقول على صواب رأيه، وكان الناس يدعون له بطول العمر لما رأوا من خيره وعدله.
أما الوزير الآخر، فكان يُدعى المعين بن ساوى، رجل قاسٍ الطبع، شديد الكراهية للناس، يميل إلى الشر ويمقت الخير، وقد وصفه أحد الشعراء فقال:

تجمعتْ من نُطفٍ ذاتهُ فَرُكِّبتْ
من عنصرٍ فاسدٍ غيرِ سديدِ

وكان الناس يحبون الوزير الفضل كما يكرهون الوزير المعين، حتى صار حب أحدهما يقابله بغض للآخر، كأن القلوب قد انقسمت بين النور والظلام.

وذات يوم جلس الملك على عرشه تحفّ به أركان دولته، فقال لوزيره الفضل بن خاقان:

“يا فضل، إني أريد جارية كاملة الحسن، فائقة الجمال، تكون عفيفة الخصال، مهذبة اللسان، لم يُرَ في زمانها مثلها.”

فأجابه أحد الحاضرين:

“يا مولاي، مثل هذه الجارية لا تُشترى إلا بعشرة آلاف دينار.”

فقال الملك لخازنه:

“احمل عشرة آلاف دينار إلى دار الوزير الفضل، وليبحث عن الجارية كما أمرت.”

فأطاع الخازن الأمر، وأخذ الفضل بن خاقان في البحث، يزور الأسواق وينظر في وجوه الجواري، فلا يجد فيهن ما يرضي ذوق الملك ولا ما يحقق الوصف المطلوب.

ومضى زمن طويل وهو على تلك الحال، حتى جاءه يوماً أحد السماسرة وقد بدت على وجهه علامات السرور، فاستوقف الوزير وهو في طريقه إلى قصر الملك، وقال له:

“يا مولاي، لقد وجدت الجارية التي طلبها السلطان، ولن ترى مثلها في حسنها وخلقها وأدبها.”

فأمره الوزير أن يأتيه بها.
وبعد قليل عاد السمسار ومعه فتاة كأنها قمـر بين البشر، معتدلة القوام، رقيقة الملامح، تتحدث بلباقة وأدب، يرتاح القلب لنظرتها قبل أن تسمع صوتها.
وكانت لَبِقةَ الحديث، عارفةً بأدب المجالس، تحفظ الشعر والنحو واللغة والتفسير، وتجيد الخط والغناء، وتعرف شيئًا من الطب والحكمة.

فلما رآها الوزير أُعجب بها غاية الإعجاب، وسأله عن ثمنها فقال:

“سيدي، ثمنها عشرة آلاف دينار، وقد أقسم صاحبها أن هذا المبلغ لا يبلغ قيمتها لما فيها من علمٍ وأدب.”

فأرسل الوزير في الحال إلى سيدها ودعاه للحضور، فإذا هو رجل عجوز قد أنهكه الدهر، فقال له الوزير:

“لقد بلغني عن جاريتك ما يُدهش، فما قصتها؟”

فأجابه العجوز بصوتٍ متهدّجٍ حزين:

“يا مولاي، هذه الجارية التي تراها هي ثمرة حياتي كلها. ربّيتها منذ صغرها وعلمتها القراءة والكتابة وحفظ القرآن والشعر، وأدّبتها على مكارم الأخلاق، لكنها كبرت في زمنٍ قاسٍ، واشتدت بي الحاجة، فاضطررت لبيعها رغم قلبي الذي ينزف فراقها.”

تأثر الوزير بكلام الشيخ، وأمر له بالعطاء والكرامة، ثم اشترى الجارية وأرسل بها إلى قصر الملك.

فلما رآها السلطان محمد بن سليمان، بُهِت من جمالها، وازداد إعجابه حين كلّمته، فوجد فيها عقلًا راجحًا ولسانًا فصيحًا وأدبًا جمًّا.
ومن يومها لقّبها الملك “أنيس الجليس”، إذ وجد في حديثها ورفقتها سلوى تملأ قلبه وتبدّد عنه وحشة الملوك.

عاشت أنيس الجليس في القصر مكرّمةً، محبوبة من الجميع، لما كانت عليه من علمٍ وتواضعٍ ولطفٍ في المعاملة.
وكانت تحب الخير وتعين الضعفاء، حتى صارت سيرتها مضرب المثل في البصرة، يتغنى بها الشعراء وتتناقل أخبارها النساء في المجالس.

وفي ذات ليلة، حدث ما غيّر مجرى القصة، إذ دسّ الوزير المعين بن ساوى وشاية إلى الملك، أوهمه فيها أن أنيس الجليس تخفي عنه أسرارًا أو تميل بحديثها إلى غيره.
فغضب السلطان في لحظةٍ من الشك، وأمر بإبعادها عن القصر، فخرجت وهي تبكي، لا تحمل معها سوى يقينها ببراءتها.

ومرت الأيام، واشتد ندم الملك حين اكتشف زيف الوشاية، فأرسل في طلبها في كل مكان حتى وجدها في أحد بيوت العبادة، قد نذرت حياتها للعلم والعبادة.
فأعادها إلى قصره معتذرًا إليها، وأكرمها كما لم يُكرم أحدًا قبلها، وعادت سيرتها الأولى في العلم والنصح ومجالس الأدب، حتى صار اسمها رمزًا للوفاء والعقل والحكمة.

وهكذا كانت أنيس الجليس مثال المرأة الفاضلة التي جمعت بين الجمال والعلم، وبين الأدب والخلق، فخلّد التاريخ حكايتها لتكون درسًا في الوفاء، وعبرةً في أن الصدق والنقاء ينتصران مهما طال الزمان.

 

ودخل على الجارية أنيس الجليس، وتقدَّم إليها وكان في حال السُّكر.
ونتف لحيته، فقالت له زوجته:
لا تقتل نفسك، أنا أعطيك من مالي عشرة آلاف دينار ثمنها.

فعند ذلك رفع رأسه إليها وقال لها:
ويحكِ، أنا ما لي حاجة بثمنها، ولكن خوفي أن تروح روحي ومالي.

فقالت له:
يا سيدي، ما سبب ذلك؟

قال لها:
أما تعلمين أن وراءنا هذا العدو الذي يُقال له المعين بن ساوى؟ ومتى سمع هذا الأمر تقدَّم إلى السلطان وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

 

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى