أوتو شتيرن: رائد الفيزياء التجريبية الذي أثبت أن العالم يدور حول الذرّة

المقدمة: جذب الانتباه
في بدايات القرن العشرين، حين كانت الفيزياء تقف على حافة ثورة كبرى، وبينما كانت مفاهيم الذرّة والموجة لا تزال موضع جدل، خرج عالم ألماني هادئ يُدعى “أوتو شتيرن” بتجربة واحدة غيّرت مجرى العلم الحديث. ليست تجربته “شتيرن-غيرلاش” مجرد تفاعل بين جسيمات ومجال مغناطيسي، بل إعلانٌ صامت بأن الطبيعة أكثر غرابة مما نعتقد. لم يكن شتيرن يسعى للشهرة، بل للحقيقة. ومع كل خطوة على طريق الاكتشاف، كان يُنقّب عن أسرار الكون بصمت المؤمن بالعلم.
النشأة والتكوين
وُلد أوتو شتيرن في 17 فبراير 1888 في مدينة سوبوت (التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الألمانية وتُعرف الآن بجزء من بولندا). نشأ في أسرة يهودية ميسورة الحال. كان والده تاجرًا ناجحًا، أما والدته فكانت مثقفة ذات ميول فلسفية، مما ساهم في نشأة أوتو في بيئة تقدّر العلم والمعرفة.
في طفولته، أظهر شتيرن شغفًا بالعلوم الطبيعية، وكان يقضي ساعات طويلة وهو يراقب الظواهر الطبيعية، يقرأ بشغف كتب الكيمياء والفيزياء التي كانت موجهة للبالغين، ويطرح أسئلة لا تنتهي على معلميه. كانت نهمه للمعرفة أشبه بلهب لا ينطفئ، لكن ما ميزه أكثر هو صمته العميق، وتفكيره المستقل.
التعليم وبداية التكوين المهني
التحق شتيرن بجامعة فروتسواف ثم جامعة ميونخ، حيث درس الفيزياء والرياضيات والكيمياء، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1912 بإشراف أرنولد سومرفيلد، أحد أعظم علماء الفيزياء النظرية آنذاك. في بداية مسيرته، عمل مساعدًا للفيزيائي الكبير ألبرت أينشتاين، وهي تجربة شكلت منعطفًا عظيمًا في حياته.
لم يكن مجرد طالب علم، بل مشاركًا نشطًا في صياغة بعض المفاهيم الكبرى مثل نظرية الحركة الحرارية. وجوده بجانب أينشتاين مكنه من فهم العلاقة بين النظرية والتجربة، وكان هذا التوازن هو ما سيجعله لاحقًا من أهم التجريبيين في القرن العشرين.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى، بدأ شتيرن العمل بشكل مستقل، وانجذب أكثر إلى الفيزياء التجريبية. انتقل إلى جامعة فرانكفورت حيث التقى بالفيزيائي “فالتر غيرلاش”، وهناك بدأ أهم فصل في حياته العلمية.
جدول زمني مبسط:
السنة | الحدث |
---|---|
1912 | حصوله على الدكتوراه في ميونخ |
1913 | مساعد لأينشتاين في براغ ثم زيورخ |
1920 | أستاذ مساعد في جامعة فرانكفورت |
1922 | تنفيذ تجربة شتيرن–غيرلاش الشهيرة |
1933 | مغادرة ألمانيا بسبب النازية |
1943 | حصوله على جائزة نوبل في الفيزياء |
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
تجربة شتيرن–غيرلاش (1922)
ربما تُعد هذه التجربة أعظم إنجاز في حياة أوتو شتيرن، إذ أثبتت للمرة الأولى الطبيعة الكمومية للّف المغزلي (Spin) للإلكترونات. حين قام بتوجيه شعاع من ذرات الفضة خلال مجال مغناطيسي غير متجانس، لاحظ أن الشعاع انقسم إلى مسارين بدلاً من الانتشار العشوائي، ما يدل على أن خاصية “اللف المغزلي” ليست مستمرة، بل كمومية، تأخذ قيماً منفصلة.
“لقد كانت لحظة إدراك عميقة: الكون لا يسير وفق خطوط كلاسيكية، بل يقفز.” – من محاضرات شتيرن
هذه التجربة كانت حاسمة في دعم ميكانيكا الكم، ومهدت الطريق لتطورات عظيمة في فهم الجسيمات، الحوسبة الكمية، والتصوير بالرنين المغناطيسي.
أول قياس لطول جزيء
في عام 1920، نجح شتيرن في قياس طول جزيء ثنائي الذرة باستخدام طريقة حيود الجزيئات، في وقت كان يُعتقد أن مثل هذا الأمر مستحيل تجريبيًا.
ابتكار تقنية حزم الذرات
هو أول من استخدم حزم الذرات في التجارب الفيزيائية، وهو ما أصبح لاحقًا أداة أساسية في مختبرات الفيزياء الذرية.
سيرة أوتو شتيرن هي قصة مَن آمن بأن “الذرة ليست مجرد فكرة، بل يمكن ملامستها بالأدلة”.
التكريمات والجوائز الكبرى
رغم أن شتيرن لم يكن يسعى خلف الأضواء، إلا أن إنجازاته العلمية نالت الاعتراف المستحق. حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1943، تكريمًا لتجاربه الرائدة في حزم الجسيمات وتحديد الخواص المغناطيسية للجزيئات.
كان شتيرن أول فيزيائي يُمنح نوبل على “سلسلة من التجارب”، وليس على نظرية واحدة، مما يبرز حجم تأثيره في الفيزياء التجريبية.
“في زمن كانت فيه الذرة مجرد رمز، جعلها شتيرن مادةً للتجربة.” – تعليق لجنة نوبل
التحديات والمواقف الإنسانية
كان على شتيرن أن يواجه أكثر من مجرد تحديات علمية. بصفته يهوديًا، اضطر إلى مغادرة ألمانيا عام 1933 بعد صعود النازية. هاجر إلى الولايات المتحدة حيث واصل عمله في جامعة كارنيجي ميلون.
رغم محن التهجير والقلق السياسي، لم يتوقف عن العمل، بل كان يقول لطلابه:
“العالم لا يتوقف عند حدود السياسة، والعقل لا يُهاجر إلا إذا استسلم.”
لم يكن يفضل التصادم، بل الرد بالعمل، والعلم.
الإرث والتأثير المستمر
سيرة أوتو شتيرن ليست فقط قصة اكتشاف، بل قصة طريقة جديدة للنظر إلى العالم. ترك إرثًا يتمثل في أدوات وأفكار لا يزال العلماء يستخدمونها حتى اليوم.
تجربته ألهمت مجالات مثل التصوير الطبي بالرنين المغناطيسي، وعلوم الحوسبة الكمية، وأسهمت في تطورات كبيرة في ميكانيكا الكم.
حتى اليوم، تُستخدم تجربة “شتيرن-غيرلاش” كنقطة انطلاق في كل محاضرة فيزياء كم، ويُعتبر اسمه مرادفًا للصرامة والتجريب الدقيق.
الجانب الإنساني والشخصي
كان شتيرن متواضعًا، هادئًا، قليل الكلام، لكنه عميق الفكر. لم يتزوج، وكرّس معظم وقته للبحث العلمي. كان يؤمن أن العلم يجب أن يُستخدم في خدمة السلام، وكان من الموقعين على عدة رسائل تطالب بعدم استخدام الفيزياء في صنع الأسلحة النووية.
قال ذات مرة:
“أنا لا أقاتل بالبندقية، بل بالشعاع.”
كان يُحب الموسيقى الكلاسيكية، ويحتفظ بصورة لأينشتاين على مكتبه حتى نهاية حياته، كتذكار لصداقة علمية وإنسانية عظيمة.
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
إن حياة أوتو شتيرن تعلّمنا أن الفيزياء ليست معادلات جامدة، بل مغامرة إنسانية. كان رجلًا يعمل في الظل، يخطّ أسطرًا من الضوء في كتاب العلم. لم يكن يسعى للنجومية، بل للحقيقة، ونجح في أن يجعل من ذاته مرجعًا للعلماء الذين تبعوه.
سيرة أوتو شتيرن لا تنتهي عند جائزة نوبل، بل تبدأ منها. لقد بيّن لنا أن الإصرار، حتى في وجه السياسة والطغيان، يمكنه أن يغيّر مسار المعرفة الإنسانية.