أوتو فالاخ: كيميائي العطور الذي سحر نوبل

البداية: إشعال الفضول
في زقاق ضيق من شوارع كونيغسبرغ (إلى اليوم كالينينغراد الروسية)، وُلد حلم صغير فأمسى ثورة علمية ما غيّر وجه صناعة العطور والطب إلى الأبد. منذ طفولته في 27 مارس 1847، بدا لتوّ ما رُسم في أفق التاريخ، فما الذي كان يخبئه المستقبل لصبيٍّ عاشقٍ للعلوم؟ لم يكن يعلم حينها أنّه سيتسلّق قمة “جائزة نوبل”، بتكريمه بـ جائزة نوبل في الكيمياء عام 1910 لعمله الرائد في المركبات الأليقليّة (alicyclic compounds)، تحديدًا في مجال الترولبيرينات (terpenes) والمنطلق نحو صناعة العطور والطب الحديث.
النشأة والطفولة: ملامح التكوين
وُلِد أوتو فالاخ في 27 مارس 1847 في كونيغسبرغ، لعائلةٍ راقية؛ والده كان جيرهاد فالاخ مسؤولاً ساميًا. تُربى أوتو في مدينة الكليزيوم (Gymnasium) في بوتسدام، حيث عشق التاريخ والفنون، رغم غياب التعليم الكيميائي كمادةٍ أساسية.
كان يُمسك بالقوارير الصغيرة في المنزل، يخلطها في غرفته، شاهمًا في تجارب بدائية، تتفتح في داخله بذور العبقرية الكيميائية. دعم والده، ورعاية معلميه، زرعوا فيه حب الاستكشاف؛ ومع بداية شبابه، بدا الحافز العلمي واضحًا كأشعةٍ في سردابٍ مظلم.
التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة
في ربيع 1867، التحق أوتو بجامعة غوتنغن للدراسة مع فريدريش فيتتيغ. انتقل لفترة إلى برلين تحت إشراف أوغست كيفله، ثم عاد إلى غوتنغن ونال درجة الدكتوراه عام 1869 بعد خمسة فصول فقط. أطروحته ركّزت على الإيزومرات في سلسلة التولوين (toluene).
ثم عمل مساعداً في برلين، وخدم في حرب فرنسا–بروسيا 1870. بعد الحرب، عاد للتدريس في جامعة بون عام 1870، ليصبح أستاذًا غير مكلف عام 1876، ثم أستاذًا منتظمًا في علم الصيدلة عام 1879، حيث بدأ اهتمامه بالزيوت الطيارة.
الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير
في 1889، تولّى أوتو منصب مدير معهد الكيمياء بجامعة غوتنغن خلفًا لـ فيكتور ماير، وبقي حتى تقاعده 1915. عمله المنهجي في فصل وتنقية مركبات التربينات في المختبر كان استثنائيًا. كان يعكف لساعات طويلة—بعضها تحت ضوء الشموع.
السنة | المحطة |
---|---|
1867 | بدأ دراسته في غوتنغن |
1869 | نال الدكتوراه |
1870 | بدأ التدريس في بون |
1879 | أستاذ الصيدلة |
1889 | مدير معهد الكيمياء |
1915 | التقاعد |
الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي
- 1884: أول مقال حول تنوع مركبات C₁₀H₁₆ (التربينات).
- 1887: طرح “قاعدة الإيزوبرين” (Isoprene Rule).
- 1894: أثبت الهيكل الجزيئي للّيمونين (Limonene).
- 1909: نشر كتابه الشهير Terpene und Campher، موسوعة ضخمة عن التربينات.
كما عُرفت باسمه عدة تفاعلات واكتشافات، منها:
- قاعدة Wallach’s rule.
- Wallach degradation.
- Leuckart–Wallach reaction.
- Wallach rearrangement.
لحظة نوبل: القمة المنتظرة
في 1910، منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في الكيمياء، وجاء في حيثيات الجائزة:
تقديراً لخدمته في الكيمياء العضوية والصناعة الكيميائية من خلال عمله الرائد في مجال المركبات الأليقليّة.
كان تتويجًا لمسيرة علمية امتدت لأكثر من 40 عامًا من البحث والتجريب.
التحديات والإنسان وراء العبقرية
رغم إنجازاته، عانى فالاخ من مشاكل صحية كثيرة، وتأثر كثيرًا خلال فترة عمله في مصانع أنيلين عام 1872، كما فقد ستة من مساعديه خلال الحرب العالمية الأولى، ما دفعه إلى التقاعد عام 1915.
لكنّ عزيمته لم تخفت قط، فقد كتب لاحقًا:
حتى أكثر المركبات تعقيدًا، لا بد أن تكون لها بنية يمكن فهمها.
الجوائز والإرث
بالإضافة إلى نوبل، نال عدة جوائز وأوسمة، منها:
- ميدالية ديفي من الجمعية الملكية البريطانية (1912).
- وسام النسر الإمبراطوري.
- وسام التاج الملكي.
- درجات فخرية من جامعات مانشستر ولايبزيغ وبراونشفايغ.
نشر أكثر من 126 ورقة علمية، وأرسى الأساس لما يعرف اليوم بالكيمياء الحديثة للعطور والمستحضرات الطبية.
الجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز
كان محبًا للفنون والموسيقى، ولم يتزوج أبدًا، بل كرّس حياته للعلم. اعتبر الكيمياء فناً لا يقل جمالًا عن الرسم والموسيقى، وكان معروفًا بتواضعه الشديد.
ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود
بعد تقاعده عام 1915، استمر في مراجعة الأبحاث والكتابة حتى وفاته في 26 فبراير 1931 عن عمر ناهز 83 عامًا.
لا تزال أعماله تدرّس في الجامعات، وتُستخدم مبادئه في صناعة العطور والأدوية حتى اليوم. حتى أن فوهة قمرية سُميت باسمه تكريمًا له.
خاتمة: إرث لا يموت
من طفل يلعب بالقوارير في غرفته، إلى كيميائي غير وجه العطور، سطر أوتو فالاخ قصة عظيمة عن الإصرار والبحث والتفاني. لم يكن يبحث عن الشهرة، بل عن الحقيقة. ترك وراءه إرثًا خالدًا، وبصمة لا تُنسى في تاريخ الكيمياء والإنسانية.