أوتو لوي: الطبيب الذي همس لحلم في مختبر، فغيّر علم الأعصاب إلى الأبد

المقدمة: الرجل الذي حلم بالنواقل العصبية
في إحدى ليالي عام 1921، استيقظ الطبيب والعالم الألماني أوتو لوي (Otto Loewi) من نومه مذعورًا، لا من كابوس… بل من حلم علمي. أسرع إلى مختبره في قلب الليل، ينفذ تجربة خطرت له وهو نائم. لم يكن يدرك حينها أن ما فعله تلك الليلة سيُخلّد اسمه في صفحات الطب الحديث.
فمن ذلك الحلم وُلد اكتشاف النواقل العصبية، أحد أهم إنجازات القرن العشرين في علم الأعصاب.
النشأة والتكوين: من قلب ألمانيا إلى عقل العالم
وُلد أوتو لوي في 3 يونيو 1873 بمدينة فرانكفورت، في ألمانيا، وسط أسرة يهودية مثقفة من الطبقة الوسطى. منذ صغره، أظهر ميلًا شديدًا إلى المعرفة والعلوم، فكان يقضي وقت فراغه في قراءة الكتب العلمية، وتفكيك الأشياء لفهم كيفية عملها.
أظهرت ملامح العبقرية عليه منذ سنواته الأولى، خاصة في طريقة طرحه للأسئلة التي لم تكن عادية بالنسبة لطفل صغير. كان يسأل: “كيف يتحدث العقل مع القلب؟” و”لماذا نشعر بالخوف أو الحب في الصدر؟”. أسئلة ستقوده لاحقًا لاكتشاف أحد أعظم أسرار الجسد البشري.
التعليم وبداية التكوين المهني: من الحبر إلى المخبر
التحق لوي بجامعة ستراسبورغ لدراسة الطب، وتخرّج منها عام 1896. هناك تأثر بمجموعة من الأساتذة الرائدين في علم الفسيولوجيا، خاصة فرانز فون برندنبورغ، الذي شجّعه على البحث في تفاعل الجسم البشري مع المؤثرات الكيماوية.
لم يكن لوي طالبًا تقليديًا، بل كان يتمتع بروح تمرد علمي. فحين كانت النظرية السائدة تقول إن الإشارات العصبية تُنقل بالكهرباء فقط، بدأ يشكّ في هذا الافتراض. كان يعتقد أن هناك “رسولًا كيميائيًا” يحمل الإشارة بين الأعصاب.
لكنه لم يكن يملك الدليل… بعد.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
عقب تخرجه، عمل في عدد من المستشفيات الجامعية، ثم التحق بمؤسسة أبحاث في ماربورغ، ثم في غراتس (النمسا)، حيث بقي فيها معظم حياته المهنية. آنذاك، بدأت تتبلور أفكاره حول “النقل الكيميائي العصبي”، وهي فرضية لم يكن المجتمع العلمي مستعدًا لقبولها بسهولة.
في بداية القرن العشرين، كان علم الأعصاب لا يزال يخطو خطواته الأولى. وكان من الصعب إثبات وجود مواد كيميائية تنقل الإشارات العصبية، خاصة وأن الأدوات التقنية لم تكن متطورة.
واجه لوي السخرية والتشكيك، حتى من زملائه، الذين وصفوا أفكاره بأنها “غريبة” و”غير مثبتة”. لكنه استمر في البحث، حتى جاء الحلم الكبير.
الإنجازات الرئيسية: لحظة الحلم والتجربة الخالدة
في ليلة عيد الفصح 1921، حلم لوي بتصميم تجربة بسيطة لكنها عبقرية. استيقظ في الثالثة فجرًا، أسرع إلى مختبره، وجلب قلبين لضفدع، أحدهما موصول بالعصب المبهم، والآخر غير موصول.
قام بتحفيز العصب المبهم في القلب الأول، فلاحظ تباطؤ نبضه، ثم أخذ السائل المحيط بالقلب ونقله إلى القلب الثاني… وفجأة، بدأ القلب الثاني ينبض ببطء، دون أي تحفيز مباشر!
كان هذا دليلاً حاسمًا على وجود مادة كيميائية تُفرز عند تحفيز العصب، وتنقل التأثير إلى خلايا أخرى.
أطلق لوي على هذه المادة اسم “Vagusstoff”، أي “مادة العصب المبهم”، والتي عُرفت لاحقًا بأنها الأسيتيل كولين (Acetylcholine)، أول ناقل عصبي يُكتشف في التاريخ.
“لقد حلِمت، وها أنا أُثبت، أن بين العصب والعضلة لغة كيميائية، لا كهربائية فقط.”
— أوتو لوي
التكريمات والجوائز الكبرى: نوبل الحلم
لم يمرّ وقت طويل حتى نال لوي التكريم الذي يستحقه. ففي عام 1936، حصل على جائزة نوبل في الطب، مناصفةً مع زميله البريطاني السير هنري هاليت ديل (Henry Dale)، الذي أثبت وجود نفس الناقل العصبي في الثدييات.
قالت لجنة نوبل:
“لقد أظهر الدكتور لوي أن الحديث بين الخلايا العصبية ليس كهربائيًا فقط، بل هو كيميائي أيضًا. اكتشافه فتح أبواب علم الأدوية العصبية الحديث.”
كانت جائزة نوبل لحظة انتصار… لكنها لم تكن النهاية.
التحديات والمواقف الإنسانية: بين النازية والمنفى
رغم شهرته، لم يسلم لوي من السياسة القاتلة في بلاده. مع صعود النازية، بدأت حملات اضطهاد اليهود والعلماء المعارضين. وفي عام 1938، وبعد وفاة زوجته بيوم واحد، تم اعتقاله من قبل الجستابو.
أُطلق سراحه فقط بعد أن “تبرع” بكامل ثروته للرايخ الثالث، وفرّ إلى إنجلترا ومنها إلى الولايات المتحدة، حيث عُين أستاذًا في جامعة نيويورك، وعاش فيها حتى وفاته.
لم يكن ما حدث له مجرد حادث شخصي، بل شاهد حيّ على كيفية سحق الديكتاتوريات للعقل والعبقرية. ومع ذلك، لم يتوقف عن البحث، وألّف عدة أوراق علمية مهمة حتى في سنواته الأخيرة.
الإرث والتأثير المستمر: إرث الكيمياء العصبية
بعد عقود من تجربة “القلبين”، أصبح اكتشاف لوي حجر الأساس لكل ما نعرفه اليوم عن النواقل العصبية مثل:
- الدوبامين (المرتبط بالسعادة والمكافأة)
- السيروتونين (المزاج والنوم)
- النورإبينفرين (الانتباه والاستجابة للضغط)
ويُعتبر اكتشافه النواة الأولى لعلم الأدوية العصبية، والذي أدى إلى تطوير أدوية مهمة لعلاج:
- الاكتئاب
- الفصام
- مرض الزهايمر
- اضطرابات الحركة مثل مرض باركنسون
“سيرة أوتو لوي” هي قصة رجل غيّر فهمنا للدماغ، وحوّل الكيمياء إلى لغة الحياة العصبية.
الجانب الإنساني والشخصي: القلب الذي رفض الكراهية
كان لوي إنسانًا متواضعًا رغم شهرته. كان يردد دومًا أن حلمه لم يكن “معجزة”، بل نتيجة لعقود من التفكير. وعُرف عنه حبه لتلاميذه، وتعامله الإنساني معهم.
رفض استخدام اكتشافه في الحروب، وكان من أول العلماء الذين نادوا بأخلاقيات البحث العلمي، قائلاً:
“العلم يجب أن يحرّر الإنسان… لا أن يستعبده.”
ورغم نجاته من الاضطهاد، لم يتبنّ أبدًا خطاب كراهية ضد الألمان، بل ظلّ مؤمنًا بقدرة الشعوب على تجاوز الكراهية.
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
إن حياة أوتو لوي تروي حكاية أكثر من مجرد اكتشاف. هي قصة فضول لا ينطفئ، وحلم يتحول إلى علم، وشجاعة في وجه الطغيان.
في عالم تهيمن عليه السرعة والتقنيات، تُذكّرنا سيرة لوي بأن العلم العظيم يولد أحيانًا من تأمل، أو حلم، أو لحظة هدوء في مختبر مهجور.
ترك أوتو لوي لنا إرثًا لا يُقدّر بثمن: لغة جديدة لفهم أنفسنا، وعبرة أن الحلم العلمي، مهما بدا بسيطًا، قد يغيّر مصير البشرية.