أوجاع على رمال البادية: حكاية من ليالي شهرزاد.. الليلة ٥٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوقّاد اتفق هو وزوجته على السفر مع ضوء المكان، وعلى أنهما يمضيان معه إلى دمشق. ثم إن الوقّاد باع أمتعته وأمتعة زوجته، ثم اكترى حمارًا، وأركب ضوء المكان إياه وسافروا، ولم يزالوا مسافرين ستة أيام إلى أن دخلوا دمشق، فنزلوا هناك في آخر النهار. وذهب الوقّاد واشترى شيئًا من الأكل والشرب على العادة، وما زالوا على ذلك الحال خمسة أيام، وبعد ذلك مرضت زوجة الوقّاد أيامًا قلائل، وانتقلت إلى رحمة الله تعالى.
فعظم ذلك على ضوء المكان؛ لأنه كان قد اعتاد عليها، وكانت تخدمه، وحزن عليها الوقّاد حزنًا شديدًا. فالتفت ضوء المكان إلى الوقّاد فوجده حزينًا، فقال له: لا تحزن، فإننا كلنا داخلون في هذا الباب. فالتفت الوقّاد إلى ضوء المكان وقال له: جزاك الله خيرًا يا ولدي، فالله تعالى يعوّض علينا بفضله ويزيل عنّا الحزن. فهل لك يا ولدي أن تخرج بنا ونتفرج في دمشق لينشرح خاطرك؟
فقال له ضوء المكان: الرأي رأيك.
فقام الوقّاد ووضع يده في يد ضوء المكان، وسارا إلى أن أتيا تحت إصطبل والي دمشق، فوجدا جمالًا محمّلة صناديق، وفرشًا من الديباج وغيره، وجنائب مصرجة، وبخاتي وعبيدًا ومماليك، والناس في هرج ومرج. فقال ضوء المكان: يا تُرى، لمن تكون هؤلاء المماليك والجمال والأقمشة؟ وسأل بعض الخدم عن ذلك، فقال له المسؤول: هذه هدية من أمير دمشق يريد إرسالها إلى الملك عمر النعمان مع خراج الشام.
فلما سمع ضوء المكان هذا الكلام، تغرغرت عيناه بالدموع، وأنشد يقول:
إنْ شَكَوْنَا البِعادَ ماذا نقولُ
أو تَلِفْنَا شوقًا فكيفَ السَّبيلُ
أو رأينا الرَّسولَ ترجَمَ عنَّا
ما يُؤدِّي شكوى المُحِبِّ رسولُ
أو صَبَرْنَا فما من الصبرِ عندي
بعدَ فَقْدِ الأحبابِ إلا القليلُ
وقال أيضًا:
رَحَلوا غائبينَ عن جفنِ عيني
إنهم في الفؤادِ مني حلولُ
غابَ عني جمالُهم فحياتي
ليست تحلو ولا اشتياقي يحولُ
إن قضى اللهُ باجتماعي إليكم
أذكرُ الوجدَ في حديثٍ يطولُ
فلما فرغ من شعره بكى، فقال له الوقّاد: يا ولدي، نحن ما صدقنا أنك جاءتك العافية، فَطِبْ نفسًا ولا تبكِ، فإني أخاف عليك من النكسة. وما زال يلاطفه ويداعبه، وضوء المكان يتنهد ويتحسر على غربته، وعلى فراقه لأخته ومملكته، ويرسل العبرات، ثم أنشد هذه الأبيات:
تزوّدْ منَ الدُّنيا فإنك راحلٌ
وأيقِنْ بأنَّ الموتَ لا شكَّ نازلُ
نعيمُكَ في الدُّنيا غرورٌ وحَسرةٌ
وعيشُكَ في الدُّنيا محالٌ وباطلُ
ألا إنَّما الدُّنيا كمَنْزلِ راكبٍ
أناخَ عشيًّا وهوَ في الصبحِ راحلُ
ثم إن ضوء المكان جعل يبكي وينتحب على غربته، وكذلك الوقّاد صار يبكي على فراق زوجته، لكنه ما زال يتلطف بضوء المكان إلى أن أصبح الصباح.
فلما طلعت الشمس قال له الوقّاد: كأنك تذكّرت بلادك؟
فقال له ضوء المكان: نعم، ولا أستطيع أن أقيم هنا، وأستودعك الله، فإني مسافر مع هؤلاء القوم، وأمشي معهم قليلاً قليلاً حتى أصل إلى بلادي.
فقال له الوقّاد: وأنا معك؛ فإني لا أقدر أن أفارقك، فقد عملتُ معك حسنة، وأريد أن أتمّها بخدمتي لك.
فقال له ضوء المكان: جزاك الله عني خيرًا.
وفرح ضوء المكان بسفر الوقّاد معه، ثم إن الوقّاد خرج من ساعته، واشترى له حمارًا وهيّأ زادًا، وقال لضوء المكان: اركب هذا الحمار في السفر، فإذا تعبتَ من الركوب فانزل وامشِ.
فقال ضوء المكان: بارك الله فيك، وأعانني على مكافأتك، فإنك فعلتَ معي من الخير ما لا يفعله أحد مع أخيه.
ثم صبرا إلى أن جنّ الظلام، فحملا زادهما وأمتعتهما على ذلك الحمار، وسافرا.
هذا ما كان من أمر ضوء المكان والوقّاد.
أما ما كان من أمر أخته نزهة الزمان، فإنها لما فارقت أخاها ضوء المكان، خرجت من الخان الذي كانا فيه بالقدس، بعد أن التحفت بالعباءة لأجل أن تخدم أحدًا، وتشتري لأخيها ما اشتهى من اللحم المشوي.
نزهة الزمان في محنة الغربة
سارت نزهة الزمان باكيةً في الطريق لا تعرف أين تتوجّه، وقد امتلأ قلبها بالحزن، وعقلها مشغولٌ بأخيها المريض، تفكّر في الأهل والوطن البعيد، وقد غلبتها دموعها فرفعت كفّيها إلى السماء تدعو الله تعالى أن يفرّج عنها هذه البليّة، وأن يردّها إلى ديارها سالمة. ثم أنشدت بصوتٍ متهدّج أبياتًا حزينة تفيض وجعًا وشوقًا:
جنّ الظلامُ وهـاجَ الوجدُ في ألمي
والشوقُ حرّك ما في القلب من نَدَمِ
لوعةُ البينِ سكـنت في أحشائِ مضطرمٍ
والحزنُ أقـلقني، والشوقُ أضرمَ ناري
فدمعيَ انهمرَ حُبًّا لا انقطاعَ لهُ،
وليس لي حيلةٌ في الوصلِ تُنقذني
أقسمتُ بالحبِّ ما لي من سلوةٍ أبدًا
يا ليلُ، بلّغْ رواةَ الوجدِ عن خبري
واشهدْ بعلمِكَ أنّي فيك أحتَرِمِ
ثم واصلت سيرها، تلتفت يمينًا ويسارًا، حتى رآها شيخٌ من البدو يسير في الطريق ومعه خمسة من أصحابه. كانت ترتدي عباءةً بسيطةً ممزقة، لكن وجهها أضاء كالقمر في ظلمة الليل، فتعجّب الشيخ من حسنها، وقال في نفسه: “ما أجمل هذه الفتاة! لعلها من أهل المدينة أو غريبة ضلّت الطريق.”
اقترب منها وسألها برفق:
ـ يا بُنيّة، أأنتِ من أهل هذه الديار أم غريبة؟
فالتفتت إليه بعينين دامعتين وقالت:
ـ يا عم، لا تُجدّد عليّ أحزاني، فإن قلبي مكلوم، وغربتي أوجعتني.
قال الشيخ وقد رقّ لها:
ـ يا ابنتي، لقد فقدتُ خمسًا من بناتي، وبقيت لي واحدة صغيرة حزينة لا تجد من يؤانسها، فهل تأتين معي لتكوني في صحبتها؟ ستكونين عندي كابنتي، تجدين مني الرعاية والأمان.
فكّرت نزهة الزمان في كلامه، وقالت في نفسها:
“لعلّ الله أرسل هذا الشيخ رحمةً بي، أطمئنّ إليه حتى أحفظ نفسي من الضياع.”
ثم قالت له:
ـ يا عم، أنا غريبة، ولي أخٌ ضعيف، أريد أن أبقى عند ابنتك نهارًا، وأعود إلى أخي ليلًا، فإن قبلتَ بذلك مضيتُ معك.
ابتسم الشيخ، وأومأ بالموافقة، وقال:
ـ على الرحب والسعة يا بُنيّة، لا أريد منك إلا أن تؤنسيها وتخفّفي عنها حزنها.
اطمأنّت نزهة الزمان ورافقت الشيخ، وسارا حتى وصلا إلى حيث كانت قافلته تنتظر. لكن الشيخ لم يكن كما ادّعى، فقد كان في حقيقته رجلًا ماكرًا يقطع الطريق ويحتال على الناس، لا بنت له ولا أهل، وإنما احتال عليها طمعًا وضعفًا منه في ضميره.
سار بها ومعه رفاقه حتى خرجوا من المدينة، وركب جملاً وجعلها خلفه على الرحال، وساروا طوال الليل في طريقٍ وعرٍ بين الجبال. عندها أحسّت نزهة الزمان أن نواياه ليست كما قال، فخاف قلبها واشتدّ بكاؤها، وهي تستعيذ بالله من شرّه.
قال لها الشيخ وقد تغيّر وجهه:
ـ ما هذا البكاء يا فتاة؟ دعي الدموع، فالبكاء لا يردّ ما فات.
لكنها، وقد أيقنت غدره، واجهته قائلة:
ـ يا شيخ، أهذا جزاء من ائتمنك؟ خدعتني بكلامك الطيّب وأنت تنوي بي شرًّا؟
ازداد غضبه وقال بفظاظة:
ـ اصمتي، ولا تتكلمي! إن لم تطيعي أمري فسأتركك هنا وحدك في هذا القفر، لا أنيس لك ولا معين!
عندها خافت نزهة الزمان على نفسها، فأطرقت رأسها وسكتت. لم يكن أمامها سوى الصبر والدعاء، فجلست تبكي في صمتٍ، تفكّر في حالها، وفي ما أصابها من الغربة والخداع.
جلست على الأرض المنبسطة، تضع رأسها بين يديها، وقد أثقلها الألم والحنين، وأطلقت العنان لدموعها تنحدر على وجنتيها، ثم أنشدت أبياتًا من قلبٍ كسير:
يا ربّ إنّي غريبةٌ في ديارٍ لا تُؤنسُ القلبَ،
قد ضاقَ صدري بما حملتُ من الحُزنِ والعَتَبِ.
يا ربّ، إن كان في أيامي بقيّةُ رحمةٍ،
فاجعلْ خُطايَ إلى أهلي سبيلَ قُربِ.
واكتبْ لأخي شفاءً من سقمه،
وامنحْ فؤادي صبرَ من وثقَ بالرّبِّ.
هدأت نفسها قليلًا بعد الدعاء، وقد أشرق الفجر على وجهها الشاحب كنسمةٍ من رجاءٍ خفيّ. وبينما كانت القافلة تتهيّأ للمسير من جديد، أقبل بعض رجال القرى المجاورة، فرأوا الفتاة الباكية بين أيدي أولئك الغرباء، فاستفسروا عن أمرها.
حاول الشيخ التملّص بادّعاءاتٍ واهية، لكن ملامح الخداع بدت عليه، فأمسكه القوم، وخلصوا نزهة الزمان من يده.
كانت ترتجف من شدّة الخوف، فطمأنوها وأخذوها معهم إلى مأمنٍ قريب.
مكثت هناك أيامًا حتى استعادت قوتها، ثم خرجت تبحث عن أخيها المريض في المدينة، تسأل المارّة وتستعين بالناس حتى دلّها أحدهم على مكانه.
وحين رأته بعد طول العذاب، ارتمت على كتفه باكيةً وقالت:
ـ يا أخي، كم ذُقنا من مرارة الغربة، لكنّ الله لم يخذلنا!
فقال لها أخوها، وقد اغرورقت عيناه بالدموع:
ـ الحمد لله الذي جمعنا بعد الفقد، فليكن ما مضى عبرةً لنا، ولنجعل الصبر زادَنا في غربتنا.
ثم رفعا أيديهما إلى السماء شاكرين، وقد تعلّما أن الرحمة لا تُستمدّ إلا من الله، وأن الحذر واجب في زمنٍ يختلط فيه الطيب بالخداع.
ومن يومها أصبحت نزهة الزمان تروي قصتها للعابرين لتذكّرهم بأن الثقة لا تُمنح إلا لأهلها، وأن الصبر في المحن هو زاد المؤمن في دروب الحياة.
وأنشدت هذه الأبيات:
مِنْ عادةِ الدهرِ إدبارٌ وإِقبالُ
فما يدومُ لهُ بينَ الورى حالُ
وكلُّ شيءٍ منَ الدنيا لهُ أجلٌ
وتنقضي لجميعِ الناسِ آجالُ
كم أَحملُ الضِّيمَ والأهوالَ يا أَسَفي
من عيشةٍ كلُّها ضِيمٌ وأهوالُ
لا أسعدَ اللهُ أيّامًا عززتُ بها
دهرًا، وفي طيِّ ذاكَ العِزِّ إذلالُ
قد خابَ قصدي وآمالي بها انصرمتْ
وقد تُقُطِّعُ بالتَّغريبِ أوصالُ
يا مَن يمرُّ على دارٍ بها سكني
بلّغهُ عنّي أنَّ الدمعَ هطّالُ
فلما سمع البدوي شعرها، رقَّ قلبُه لها، ومسح دموعَها، وأعطاها قرصًا من شعير.
ثم قال لها:
ـ أنا لا أحبُّ من يُجَاوِبُني في وقت الغيظ، وأنتِ بعد ذلك لا تُجَاوِبِينني بشيءٍ من هذا الكلام الفاحش، وسأبيعكِ لرجلٍ كريمٍ صالحٍ، يفعل معكِ الخير كما فعلتُ أنا معكِ.
قالت:
ـ نعم، ما تفعل خير.
ثم إنّها لما طال عليها الليل وأحرقها الجوع، أكلت من ذلك القرص الشعير شيئًا يسيرًا، فلما انتصف الليل أمر البدوي جماعته أن يسافروا.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.



