إبحار الأبجدية في الأسطورة والتراث الإنساني: رحلة في رموز الحروف ومعانيها الخفية

الإطار الفكري والمنهجي للكتاب
لكي نفهم الكتاب بشكل أعمق، من الضروري معرفة المنهج الذي اعتمدته المؤلّفة، والمقاصد التي سعت إلى تحقيقها، والآليات التي وظفتها في تحليلها.
1. الفرضية الأساسية
تنطلق د. لمياء توفيق دلة من رؤية مفادها أن الأبجدية ليست مجرد نظام كتابة محايد، بل هي ظاهرة ثقافية وسيميائية وميتولوجية، أي إن تكوينها وتاريخها وتحولها تتداخل مع الأسطورة والتراث الإنساني. فهي ترى أن وراء كل حرف (أو رمز أبجدي) قصة، رمزية، وتاريخ، وعلاقة مع الأسطورة والتخييل.
بعبارة أخرى: الكتاب يُفترض أن يكشف كيف أن الأبجدية في ثقافاتنا (وخاصة الثقافة العربية) تحمل في طيّاتها إرثًا أسطوريًا وتراثيًا، وأن فهمها يستدعي “إبحارًا” يتجاوز النظرة اللغوية الضيقة إلى الأبعاد الأسطورية.
2. المنهج المتبع
على ما يظهر من النصوص المتوفرة، تعتمد المؤلفة مزيجًا من:
- المنهج التأويلي / الرمزي (symbolic / hermeneutic): أي قراءة الحروف والرموز من منظور دلالي وثقافي، محاولًا فكّ رموزها.
- المنهج التاريخي: تتتبّع نشأة الحروف الأبجدية وتاريخ تطورها في الثقافات القديمة، وربطها بالروايات الأسطورية والتراث المحكي.
- المنهج المقارن: تقارن بين أنظمة الأبجدية والثقافات المتنوعة، وتبحث في التداخل بين النصوص والأساطير عبر الزمان والمكان.
- الاستعانة بالمراجع التراثية والأسطورية: تعود إلى المصادر الكلاسيكية، وأساطير الشعوب، وتراث الفنون والرموز.
بهذا المزج، تحاول المؤلّفة بناء رؤية متكاملة تربط بين اللغة والرمز والأسطورة والتراث، دون الاقتصار على دراسة لغوية محضة.
3. الغايات والمآرب
من خلال هذا المنهج، ترمي د. لمياء إلى:
- إعادة الاعتبار إلى الأبجدية كظاهرة ثقافية، وليس مجرد أداة كتابة.
- كشف البُعد الأسطوري في الحروف أي تبين كيف أن الحروف تربط الإنسان بالميتولوجيا والرموز الكونية.
- تفعيل الوعي التراثي بأن اللغة ليست منفصلة عن التراث الثقافي، بل هي امتداد له.
- تحريض التأمّل والتخييل لدى القارئ في الحروف والعلامات من حوله، بحيث لا يراها مجرد أدوات بل نصوصًا تُقرأ في عمقها.
محتوى الكتاب ومحاوره الأساسية
لن أتمكّن من إعادة النص الكامل (حقوق النشر تمنع ذلك)، لكن بالاعتماد على ما هو متاح من وصف ومراجعات ومقتطفات يمكنني تقديم تحليل تفصيلي لمكونات الكتاب ومحاوره. إليك تصويرًا لهيكله ومحاوره:
1. المقدّمة: الأسطورة والعلاقة مع الكتابة
في البداية، تؤسّس المؤلفة لفكرة أن الأسطورة كانت الوسيلة الأولى التي عبر بها الإنسان عن تساؤلاته الكونية، وتحولت مع الزمن إلى سرد ثقافي استمر رغم التقدم العلمي. تقول إن الأسطورة قدّمت تفسيرًا للعالم، وإن ظهور الكتابة (والأبجدية) هو امتداد لهذا السلوك الرمزي. النصوص تشير إلى أن المؤلفة ترى الأسطورة كمصدر للفلسفة والأدب والفن والطقوس والعرف الاجتماعي.
هنا، تربط بين “الإبداع الأسطوري” وبين “إبداع الحروف”، كأن الأبجدية نفسها هي موروث أسطوري يُبحر فيه الإنسان.
2. نشأة الأبجدية وتطورها
تنتقل المؤلفة إلى استعراض تاريخي للأبجدية، أو على الأقل لمحات منه:
- تبدأ من السياقات القديمة التي نشأت فيها الأبجدية (في الحضارات القديمة، مثل الفينيقية أو السامية) وربما تأثيراتها على الأبجديات لاحقًا.
- تعرض كيف أن الحروف الأولى (كحروف الألف، الباء، الجيم، إلخ) كانت مرتبطة برموز طبيعية، بإشارات حرفية إلى الكائنات أو الظواهر (كمثال: الألف قد ترمز إلى الكـ/ الربط الأولي أو إلى البدايات).
- تستعرض كيف تحوّلت الحروف من رموز بصرية إلى أدوات صوتية، لكن مع الحفاظ على بُعدها الرمزي.
هذا الجزء من الكتاب يُعدّ محورًا تاريخيًا تحليليًا، وربما استخدمت فيه المصادر التراثية (الكتابات القديمة، الأساطير، المعاجم القديمة).
3. الأبعاد الأسطورية للحروف
هذا المحور ربما يكون القلب المفصلي للكتاب. تحاول المؤلفة أن تبيّن أن لكل حرف “قصة” أو “رمزية” مرتبطة بالأسطورة أو بالخرافة، أو بأنها مرتبطة برمز كوني أو طقوسي:
- مثلاً، الحرف قد يُرادف فكرة “الخلق” أو “المنزل” أو “الأرض” أو “السماء” في بعض التقاليد.
- الحروف قد تُستخدم في الأساطير أو الطقوس كعناصر سحرية أو كردود على قوى الطبيعة.
- الحرف بحد ذاته قد يُنظر إليه باعتباره “رمزًا حيًا” يتداخل مع التصوّر الأسطوري للعالم.
المؤلفة ربما تعرض نماذج من ثقافات متعددة، وتُقارن بينها. كما أنها تُبيّن كيف أن في التراث العربي مثلاً هناك تأملات في الحروف (كالحرف “الحاء” أو الحروف المقدسة في بعض النصوص الصوفية) وربطها بالوجود الكوني.
4. الحروف والتراث الإنساني
في هذا القسم تؤسس العلاقات بين الحروف وبين التراث الشفهي والمادي:
- كيف تسلّمت الثقافات الحروف وفي الوقت نفسه ورثت من الأسطورة والرمزية؟
- كيف استُعمِلت الحروف في النصوص الدينية أو الشعرية أو الأدبية لتجسيد مضمون أسطوري أو للتعبير عن عناصر من التراث؟
- كيف حافظ المتأخرون في العصور الإسلامية أو العربية على رمزية الحروف، أو ألحقوا بها تأويلات صوفية أو روحانية؟
- كيف تشكّلت الكتابة العربية نفسها (الخط، الرسم الحرفي) متأثرة بجماليات تراثية، وأسلوبية تراثية.
هذا المحور يربط بين اللغة النصية وبين التكوين الثقافي، ويوضح كيف أن الحروف ليست معزولة عن الحياة التراثية (شعائر، طقوس، ممارسات فنية).
5. الحروف والتخييل في العصر الحديث
لا بد أن الكتاب يضم فصلًا يُعنى بكيف أن الرؤية الحديثة (العلم، التقنية، الفكر المعاصر) تعاملت مع الحروف بطرق جديدة:
- كيف تعاملت الدراسات اللغوية المعاصرة مع الأبجدية (من منظور صوتي، صرفي، نحوي) فتجاهلت غالبًا البُعد الرمزي؟
- كيف حاولت بعض المدارس الفلسفية أو الثقافية إعادة تنشيط الرؤية الرمزية للحروف؟
- هل هناك تجارب فنية معاصرة تستخدم الحروف كعنصرٍ بصري أو تركيبي (كالخط الحديث أو التجريبية) تعكس رؤية أسطورية؟
- كيف يمكن للمتلقي المعاصر أن “يقرأ الحروف قراءة تأويلية” في إطار هذا المشروع الفكري؟
6. خاتمة التأمّل والتخييل
تختم المؤلفة بضرورة أن يسترجع الإنسان حضوره الرمزي في الحروف، وأن لا يراها مجرد أدوات تقنية. ربما تدعو إلى مشروع تأملي يُمكّن القارئ من “إبحار أبجدي” – أي التأمل في الحروف كعناصر تجمع بين اللغة والميتافيزيقا.
تحليل رؤى الكتاب ومساهماته
بعد أن استعرضنا ما يبدو أنه هيكل الكتاب ومحاوره، ننتقل إلى تحليل ما يمكن أن تكونه رؤى المؤلفة، والجدوى المعرفية التي يقدمها العمل، ونقاط التأمل التي يجدر بالباحث النظر فيها.
1. قوة المساهمة في استعادة البُعد الرمزي للغة
من أبرز المساهمات التي يمكن أن نُنسبها إلى هذا الكتاب:
- تنبيه القارئ إلى أن الحروف ليست أدوات خالية من الدلالة، بل تحمل دلالات ثقافية ورمزية.
- الربط بين اللغة والأسطورة: غالبًا ما تُدرَس اللغة في الحقل اللغوي النحوي واللفظي فقط، لكن هذا الكتاب يفتح نافذة على العلاقة بين اللغة والخيال الأسطوري.
- مقاربة شاملة تربط بين القديم والحديث، بين التراث والتجربة المعاصرة، وتدعو إلى إعادة قراءة الحروف في ضوء فعالية التراث.
- تحدي الفهم الضيق للحروف، ودعوة إلى تأملاتها العميقة، وربما فتح فضاءٍ للتأويل والتجريب في الحروف.
بهذا، يصبح الكتاب مشروعًا يُكمّل دراسات اللغة والتراث، ويدفع القارئ إلى رؤية ما وراء الحروف.
2. توظيف التراث كمورد تأويلي
من الملاحظ أن المؤلفة تعتمد على التراث (الأساطير، النصوص الكلاسيكية، الممارسات التقليدية) كمورد فاعل لتفسير الحروف. هذا التوظيف يجعل الكتاب قريبًا من الدراسات التراثية والفلسفية، وليس مجرد عرض لغوي.
كما أن استخدام التراث يمنح القراءة عمقًا تأويليًا لا يقدر عليه المنهج الصرفي البحت، فيُظهر الحروف في سياق حياة الإنسان الثقافي والرمزي.
3. العناصر المقارنة والتداخل الثقافي
إذا ما استُخدمت المقارنة بين أنظمة الأبجدية في ثقافات متعددة، فهذا يمنح الكتاب طابعًا عالميًا، ويبرز التشابكات الثقافية بين الشعوب. هذا التداخل يعني أن الحروف ليست محلية بحتة بل جزء من حراك ثقافي إنساني مشترك.
كما أن الربط بين الحرف والميثولوجيا في ثقافات متعددة يعزز رؤية أن اللغة جزء من الإرث البشري العام.
4. أثر المشروع في وعي القارئ
من أهم الآثار التي يمكن أن يتركها هذا الكتاب:
- تحويل القارئ من متلقٍّ سلبي إلى متأمل نشط، ينظر إلى الحروف من زاوية جديدة.
- فتح الباب أمام دراسات لاحقة تتناول الحروف في الثقافة المعاصرة (مثال: في التصميم، الفن التشكيلي، التجريب الشعري).
- تحفيز البحث في الخطوط العربية القديمة وتأويلاتها الرمزية.
- إغناء النقاش الأكاديمي بين اللغويين وعلماء التراث والفلاسفة.
نحو نقد موضوعي – نقاط القوة والقصور
لكل مشروع فكري نقاط يقوى عليها، وأخرى قد يُعوّضها في تكرار أو في دراسات لاحقة. فيما يلي عرض نقدي معتدل:
نقاط القوة
- موضوع مبتكر: قلّما نجد دراسات تربط بين الأبجدية والميثولوجيا بهذا الشكل، فالفكرة نفسها تجذب القارئ إلى تأمل جديد في ما هو مألوف.
- دمج بين المنهج التأويلي والتاريخي: هذا المزيج يتيح قراءة متعددة الأبعاد، لا تقف عند جانب واحد.
- اعتماد التراث كمصدر: يجعل العمل مؤصَّلًا، وليس تأمّلًا مجرّدًا، ويقوّي صدقيته.
- لغة مقبولة: من المراجعات، يبدو أن أسلوب الكتاب مقارب للقارئ العام (وليس مهووس الأكاديميين فقط) .
- محفّز للتأمل والتفاعل: هذا النوع من الكتب يُشجّع القارئ على التوقف والتفكر، وربما العودة إلى الحروف بمنظار مختلف.
نقاط القصور أو الملاحظة التحسينية
- قصور في العمق أو التفصيل
بما أن عدد الصفحات ليس كبيرًا (128 صفحة في بعض الإصدارات) ، قد يفتقر الكتاب إلى تعمّقات في بعض الحروف أو الرموز. بعض القراء قد يتمنّون استطرادات أكثر تفصيلاً لكل حرف. - قلة المصادر أو الإحالة الصارمة
لم أتمكّن من الاطّلاع على عدد المصادر التي اعتمدتها المؤلفة، لكن في أعمال التأويل مهمة أن تكون هناك إحالة دقيقة إلى المصادر التراثية والأركيفية. غياب ذلك قد يضعف الحجة في بعض المواضع. - تعميم التأويل على الحروف
خطورة المشروع التأويلي هي أن تُعمم التأويلات على الحروف دون دلالة ثابتة تاريخية أو تراثية. أي أن بعض التأويلات قد تكون تأملية أكثر من كونها مدعومة بنصوص قديمة. تأتي كلمة “قد” هنا بطابع تحذيري. - التحدّيات المنهجية
الدمج بين التاريخي والتأويلي قد يواجه صعوبة التمييز بين ما هو حقيقة تاريخية وما هو تأويل لاحق. يحتاج الباحث إلى وضوح في الطرائق التي من خلالها يُمكِن التحقق من الربط بين الحرف والأسطورة. - نقص الأمثلة المعاصرة
لو أن الكتاب تضمن دراسات حالة معاصرة – في الخط المعاصر، أو الفن، أو التصميم الغرافيكي الذي يستخدم الحروف كعنصر بصري، لتوسّع تأثيره في الوقت الحاضر.
أمثلة تأويلية ممكنة – خيال التطبيق
لنجعل ما سبق أكثر واقعية، أقدّم هنا بعض تأملات تأويلية ممكنة (ليست بالضرورة ما ورد في الكتاب، بل تُمثّل إمكانات القراءة التي يدعو إليها):
- الحرف الألف (ا): قد يُرمَز إلى البدايات، الوحدة، النُقطة الأولى، أو إشارة إلى التواصل بين السماء والأرض (خط رأسي).
- الحرف الباء (ب): قد يُنظَر إليه كمنزل أو كأس أو تجويف، مرتبط بما هو صامت أو مستيعِب.
- الحرف الراء (ر): ربما يُرتبط بالبُعد الدوراني، الحركة، التجوّل، أو المجال الدائري.
- الحروف المشتقة والمتوافقة (كالحروف التي تحمل نقاط) يمكن أن تُرى كتعديلات رمزية تشير إلى تعدّد الرؤى أو الفوارق في الكون.
مثل هذه التأويلات تُجسّد ما يعنيه “إبحار الأبجدية” – أي أن القارئ نفسه يُبحر في الحروف، ويغوص في رموزها.
مقارنة مع أعمال مماثلة
لكي ندرك موضوعة الكتاب في المشهد المعرفي، من المفيد مقارنته بأعمال قريبة في الفكرة:
- هناك دراسات في فلسفة اللغة والسميوطيقا (علم العلامات) تتناول كيف أن اللغة ليست مجرد دلالة صورية بل تتضمن بعدًا رمزيًا، مثل مدارس شارل ساندر بيرس أو رولان بارت.
- في التراث العربي، هناك نظرات صوفية في الحروف (التأويل الصوفي للحروف في بعض الأوساط).
- بعض الأعمال المعاصرة في الفن التجريبي تستعمل الحروف كرموز بصرية، وقد تكون دراسات فيها مشابهة في المنحى، لكن ربما ليس بنفس الطابع التأويلي التراثي.
بذلك، يُمكن اعتبار هذا الكتاب جسرًا بين التراث والتأويل اللغوي المعاصر والفن.
توصيات للقراء والباحثين
إذا قرأت هذا الكتاب، فإليك بعض التوصيات للاستفادة القصوى:
- اقرأ ببطء وتأمل: لا تتجاوز الفقرة بسرعة، بل حاول أن تفكّر في الحرف كما لو أنه رمز يُقرأ.
- استخدم الكتاب كنقطة انطلاق: اختَر حرفًا أو رمزًا معينًا، وابحث في تراثك المحلي (اللغة، الشعر، الخط) لتأويله.
- قارنه بكتب في السميوطيقا أو الفلسفة اللغة، لتكوين خلفية نظرية.
- إذا كنت مهتمًا بالفن، انظر كيف يستعمل الفنانون المعاصرون الحروف، وقارنها برؤية المؤلفة.
- إن كنت باحثًا، يمكنك التوسع في دراسة كل حرف على حدة، أو دراسة تطبيقية في الخط العربي المعاصر أو التصميم الغرافيكي.
خاتمة
كتاب «إبحار الأبجدية في الأسطورة والتراث الإنساني» لد. لمياء توفيق دلة هو مشروع فكري مثير، يحاول إعادة الحروف إلى مركز التأمل الرمزي والثقافي. بالرغم من محدودية الحجم، فإنه يحمل طاقات تأويلية تكفي لأن تُوقِظ القارئ على أن ما نراه يوميًا — الحروف — ليس مجرد أدوات كتابية، بل نوافذ على عالم من الرموز والأساطير.
لمعرفة المزيد: إبحار الأبجدية في الأسطورة والتراث الإنساني: رحلة في رموز الحروف ومعانيها الخفية



