إدوارد أدلبرت دويزي: مكتشف فيتامين K وصانع ثورة في الطب الحديث

المقدمة: لحظة تقلب العالم الطبي رأسًا على عقب
في قلب مختبرات شبينتزمان قديمة، وقبضة قنينة زجاجية وُضعت على منضدة تحت ضوء خافت، جاءت لحظة غيرت مسار الطب. في عام 1939، نجح إدوارد أدلبرت دويزي في عزل البنية الكيميائية لفيتامين K، ذلك العامل السحري الذي ينهي النزيف الحاد، خصوصًا بين الأطفال حديثي الولادة. تلك اللحظة شكلت نقطة مفصلية، جعلت الرجل العالمي هذا، يحصل على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا أو الطب عام 1943، ويخلد اسمه في سجل من أنقذوا حياة الملايين. هذه هي سيرة إدوارد دويزي، من طفولة في إلينوي إلى إرث علمي لا يُمحى.
النشأة والتكوين: صبي أمريكي أحلم بالبحث
ولد إدوارد أدلبرت دويزي في 13 نوفمبر 1893 بمدينة Hume بولاية إلينوي، الولايات المتحدة الأميركية، وهو الابن الأكبر لعائلة متواضعة. تربّى في أجواء زراعية هادئة، حيث البساطة والفضول ماثلة وسط الحقول. كان الفتى الصغير مولعًا بالكتب والاختراعات، يفضّل تفكيك الأداة لمعرفة كيفية عملها. هذا الفضول، قاده إلى عالم الكيمياء والعلوم البيولوجية.
في سنواته الأولى، تميّز بذكاء حاد وانضباط ملحوظ. لم يكن طفلاً عادياً، بل صاحب رؤية مبكرة بأن المعرفة هي طريق التغيير. وبذلك، بدأت رحلته نحو التحصيل الأكاديمي الرفيع.
التعليم والبدايات الأكاديمية: من إلينوي إلى هارفارد
التحق دويزي بجامعة إلينوي، حيث نال درجتي البكالوريوس (عام 1914) والماجستير (عام 1916) في العلوم . وفي خضم الحرب العالمية الأولى، تطوّع في الفيلق الصحي بالجيش الأميركي (Sanitary Corps) بين عامي 1917 و1919، حيث خدم بلده ببسالة وشغف.
عاد بعدها لاستكمال دراسته، فحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 1920، لتبدأ مسيرته الأكاديمية المبوّبة إلى القمة .
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
بعد حصوله على الدكتوراه، عمل كمعيد ومحاضر في جامعة هارفارد حتى 1919، قبل أن ينتقل إلى مدينة سانت لويس. هناك، تولّى منصب أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة واشنطن الطبية (1919–1923)، ثم انتقل عام 1923 إلى جامعة سانت لويس، حيث أصبحت حياته العملية الأكاديمية تنبض هناك حتى تسلّمه لقب الأستاذ المتميّز حتى تقاعده عام 1965 .
وخلال تلك الأعوام، وضع دويزي أولى لبنات إنجازاته العلمية، وتخطّى تحديات التمويل وصعوبات البحث. تقدم بخطى ثابتة، متحديًا جيلاً من الباحثين في استخلاص وتحليل المركبات الكيميائية الحيوية.
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
دراسة الهرمونات الجنسية – إنجاز علمي تأسيسي
في أواخر عشرينيات القرن العشرين، فتحت شراكة دويزي مع عالم الأجنة إدغار ألين الباب أمام فهم أفضل للهرمونات الجنسية. إذ نجح الفريق في عزل هرمون الإستروجين، وتحديدًا ثلاث أنواعه:
- Estrone (theelin) عام 1929 – أول استروجين تم تبلوره.
- Estriol (theelol) عام 1930.
- Estradiol (dihydrotheelin) عام 1935 .
هذا الاكتشاف شكّل حجر الزاوية في فهم تطور العلوم الصيدلانية والهرمونية لاحقًا.
فيتامين K – Moment of Triumph
في عام 1936، استولى اهتمام دويزي على عمل العالِم الدنماركي Henrik Dam، الذي اكتشف وجود فيتامين K القادر على وقف النزيف. لكن تحديد التركيب الكيميائي الدقيق للفيتامين كان مهمة شاقة. بين 1936 و1939، نجح دويزي وفريقه في:
- عزل فيتامين K₁ من بذور البرسيم.
- عزل فيتامين K₂ من مسحوق الأسماك (fish meal).
- تحديد تركيبهما الكيميائي بالكامل.
- تصنيعهما صناعيًا لأول مرة – مما أتاح استخدامه الطبي الواسع .
هذا العمل “اكتشاف الطبيعة الكيميائية لفيتامين K” شكّل إنجازًا طبيًا غير مسبوق، أدى إلى استخدام فعال في منع النزيف، خاصة بين الخُدّج وحديثي الولادة.
تقدير عالمي: جائزة نوبل 1943
في عام 1943، تم إعلان فوز دويزي – بمشاركة مع هنريك دام – بجائزة نوبل للفيزيولوجيا أو الطب، تكريمًا لاكتشافاتهما المشتركة حول فيتامين K .
نُقلت مراسم تسليم الجائزة إلى عام 1944، حين اعتُمد القرار رسميًا .
إنجازات أكاديمية إضافية
لم يكتف دويزي بذلك، بل ساهم في تطوير أساليب عزل الأنسولين، معززًا فهمنا لعلم المناعة والهرمونات. كما تولى مناصب قيادية في جمعيات علمية مرموقة، مثل الجمعية الأميركية للكيمياء الحيوية، وجمعية الغدد الصماء .
التكريمات والجوائز الكبرى
بالإضافة للنوبل، نال دويزي عددًا من الجوائز والتكريمات، منها:
- ميدالية الجمعية الطبية في سانت لويس (1935).
- ميدالية فيليب أ. كون من نادي الكيمياء في نيويورك (1935).
- جائزة سكويب (1944)، وأوسمة من جمعيات علمية متعددة .
كما مُنح درجات فخرية من جامعات مرموقة مثل: ييل, شيكاغو, باريس، وغيرها .
التحديات والمواقف الإنسانية
خلال مسيرته، واجه دويزي مزيجًا من التحديات: نقص الدعم المالي في مطلع مسيرته، وصعوبة إبراز قيمته في حقبة البحث المبكر. لكنه واجه كل ذلك بالإصرار والعمل المتواصل.
إنسانياً، كان يحمل مشاعر عميقة نحو الإنسانية. وُصف بأنه لطيف الخُلق، كريمّ، ومخلص لطلابه وجامعته. اسمه اليوم يرتبط بمركز Doisy للأبحاث بجامعة سانت لويس SLU، الذي وُضع على شرفه بعد تبرّع عائلته بملايين الدولارات لتطويره .
الإرث والتأثير المستمر
ترك دويزي إرثًا علميًا متينًا:
- فيتامين K أصبح من أهم المكملات الطبية.
- تطوّر مجال البحث الهرموني والتغذية العلاجية.
- وزّع نظام البحوث في جامعاته بطريقة مستدامة.
مازال مركز Doisy للأبحاث ينشط في أبحاث الطب الحيوي متقدمًا، فيما أسرته تدعم التعليم والبحث العلمي إلى اليوم .
الجانب الإنساني والشخصي
كان يعشق العلم كما يعشق العائلة؛ تزوّج من Alice Ackert في عام 1918، وأنجب أربعة أبناء. وقدّم مع زوجته، Margaret McCormick Doisy، تبرعات خيرية كبيرة؛ منها مليون دولار لخدمة مكتبة جامعة SLU، و30 مليون دولار لبناء مركز أبحاث Doisy عام 2007 .
يُقال عنه:
“إن اكتشاف فيتامين K هو الأثر الأكبر، لكنه لم يتأخر يومًا عن الوقوف بجانب طلابه والطلبة المحتاجين” — وصف يُعبّر عن إنسانيته العميقة.
الخاتمة: دروس من رحلة حياة نابغة
تمرّ الحياة، لكن أولئك الذين يُحرّكون عجلات العلم، يُخلّدون في الذاكرة. في حالة إدوارد أدلبرت دويزي، نجد دروسًا ثمينة:
- الفضول العلمي يقود لاكتشافات إنقاذية.
- الإرادة والتعاون قادران على تجاوز التحديات.
- العلم لا يعني فقط الإنجاز، بل أيضًا العطاء والتأثير البشري.
إن سيرة دويزي تُثبت أن رحلة الإنسان من حقول إلينوي إلى نوبل، ليست مجرد قصة أعظم، بل هي إلهام للأجيال: بأن إرثك لا يُقاس بما تحقّقت، بل بما تبقى بعدك.