سير

إدوارد ف. أبليتون: عبقري الموجات اللاسلكية ومكتشف الأيونوسفير

المقدمة: عبقري سمع نبض السماء

في لحظات سكون ما بين الحربين العالميتين، كان رجل بريطاني يجلس في مختبره ليستمع إلى ما لا يسمعه أحد. لم تكن أذناه تصغيان إلى الموسيقى، بل إلى همسات الموجات اللاسلكية القادمة من السماء. ذلك الرجل هو إدوارد فيكتور أبليتون (Edward Victor Appleton)، الفيزيائي الذي غيّر فهم البشرية للغلاف الجوي، وأسّس بعبقريته لثورة الاتصالات الحديثة. من خلال اكتشافه لطبقة الأيونوسفير، مهد الطريق لتقنيات الراديو والرادار والاتصالات عبر الأقمار الصناعية التي يعتمد عليها العالم اليوم.

النشأة والتكوين: بدايات في رحاب العلم

وُلد إدوارد ف. أبليتون في 6 سبتمبر عام 1892 في مدينة برادفورد بإنجلترا، في أسرة متواضعة تؤمن بقيمة التعليم والمعرفة. كان والده موظفًا بسيطًا، لكنّه حرص على أن يزرع في ابنه حبّ الاستكشاف والتجريب. ظهرت على الطفل الصغير علامات نبوغ مبكر، إذ كان مولعًا بالتجارب الكهربائية ومراقبة الظواهر الطبيعية.

التحق أبليتون بمدرسة “برادفورد غرامر سكول”، وهناك لمع اسمه بين زملائه في الرياضيات والعلوم. كان دائمًا ما يُبهر أساتذته بأسئلته الجريئة التي تمزج بين الخيال والمنهج العلمي. ومع حصوله على منحة دراسية، التحق بجامعة كامبريدج العريقة، حيث درس في كلية “سانت جونز” وتخرج بتفوق في الفيزياء عام 1913.

التعليم وبداية التكوين المهني: من النظريات إلى التجريب

في جامعة كامبريدج، تلقى أبليتون تعليمه على يد نخبة من أعلام الفيزياء في ذلك العصر، مثل السير جوزيف طومسون مكتشف الإلكترون. أثرت تلك البيئة العلمية المتقدمة في فكره ومنهجه البحثي، وجعلته يميل إلى الدمج بين النظرية الدقيقة والتجريب المخبري.

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، التحق أبليتون بالخدمة العسكرية في المديرية الملكية للإشارات، حيث بدأ اهتمامه الفعلي بالموجات اللاسلكية وتقنيات الاتصال عن بُعد. ومن خلال عمله في الميدان، لاحظ ظواهر غامضة في انتشار الموجات، مثل انعكاسها وامتدادها لمسافات غير متوقعة، وهو ما أثار فضوله العلمي.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: عندما تحدثت السماء إلى العلم

بعد انتهاء الحرب في عام 1919، عاد أبليتون إلى الحياة الأكاديمية ليعمل في مختبرات جامعة لندن. وهناك، بدأ سلسلة من التجارب غير المسبوقة على الموجات الكهرومغناطيسية. كان هدفه فهم لماذا يمكن استقبال إشارات الراديو أحيانًا على مسافات هائلة، بينما تنقطع في أوقات أخرى.

أجرى أبليتون تجارب ذكية اعتمدت على قياس اختلاف زمن وصول الموجات اللاسلكية المنعكسة من طبقات الجو العليا. وفي عام 1924، توصّل إلى نتيجة مذهلة: وجود طبقة عاكسة للإشارات في الغلاف الجوي على ارتفاع مئات الكيلومترات. أطلق عليها لاحقًا اسم طبقة أبليتون، والتي أصبحت تُعرف اليوم بـ الأيونوسفير (Ionosphere).

هذا الاكتشاف لم يكن مجرد إنجاز علمي، بل ثورة في فهمنا للسماء. فقد فسر الظواهر الغامضة في الاتصالات اللاسلكية، وفتح الباب أمام ابتكارات الرادار والاتصالات العابرة للقارات.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

1. اكتشاف الأيونوسفير

أثبت أبليتون أن الغلاف الجوي ليس فراغًا صامتًا، بل يحتوي على طبقات مشحونة كهربائيًا يمكنها عكس الموجات اللاسلكية. هذا الاكتشاف غيّر جذريًا أسلوب تصميم أنظمة الراديو، وساعد في تطوير الملاحة الجوية والبحرية.

2. المساهمة في تطوير الرادار

خلال الحرب العالمية الثانية، أصبح أبليتون من أهم العلماء الذين ساهموا في تطوير نظام الرادار البريطاني. كانت أبحاثه حول انعكاس الموجات اللاسلكية من الغلاف الجوي حجر الأساس في تصميم أجهزة الكشف المبكر للطائرات المعادية.

3. تطوير علم الاتصالات

ساهمت أبحاثه في تحسين الاتصالات اللاسلكية الطويلة المدى، خصوصًا بين القارات. كما استفاد العلماء من نتائجه في دراسة تأثير العواصف الشمسية على الموجات، ما مهّد لتقنيات الملاحة الحديثة مثل GPS.

4. المناصب الأكاديمية

تولى أبليتون عدة مناصب علمية مرموقة، منها رئاسة جامعة إدنبرة عام 1949، كما شغل منصب مستشار وزارة الدفاع للبحوث العلمية. كان له تأثير بالغ في رسم سياسات البحث العلمي في بريطانيا بعد الحرب.

التكريمات والجوائز الكبرى

نال إدوارد ف. أبليتون جائزة نوبل في الفيزياء عام 1947 تقديرًا لاكتشافه الأيونوسفير وتفسيره لانتشار الموجات اللاسلكية. وقد علّق أحد أعضاء لجنة نوبل قائلًا:

“بفضل أبليتون، أصبح الهواء الذي يحيط بنا أداة تواصل بين القارات، لا حاجزًا بينها.”

كما حصل على وسام نايت كوماندر من الملك جورج السادس تقديرًا لخدماته للوطن والعلم، فضلًا عن عضويته في الجمعية الملكية البريطانية، وهي أعلى مراتب التكريم العلمي في إنجلترا.

التحديات والمواقف الإنسانية

ورغم كل النجاحات، لم تكن حياة أبليتون سهلة. فقد واجه صعوبات مادية في بداية مسيرته، وضغوطًا نفسية خلال الحربين العالميتين. إلا أنّه كان مؤمنًا بأن العلم هو السبيل الوحيد لبناء عالم أكثر استقرارًا وسلامًا.

كان معروفًا بتواضعه الشديد وبساطته في التعامل مع طلابه. كثيرًا ما كان يُرى في المختبر يساعد طلاب الدراسات العليا في إعداد تجاربهم، مؤكدًا أن “العلم لا ينمو بالأوامر، بل بالفضول”.

الإرث والتأثير المستمر

تأثير أبليتون لا يزال حاضرًا حتى اليوم في مجالات متعددة. فأنظمة الاتصالات اللاسلكية، والملاحة الجوية، والأقمار الصناعية، والرادارات الحديثة، كلها تعتمد على المبادئ التي وضعها.
كما تُستخدم نظرياته في دراسة الطقس الفضائي وتأثيراته على شبكات الاتصال العالمية. إنّ فهمنا اليوم لتفاعل الأرض مع الشمس لم يكن ليكتمل لولا ما أسّسه أبليتون في بدايات القرن العشرين.

الجانب الإنساني والشخصي

بعيدًا عن المختبرات، كان أبليتون رجلًا محبًا للموسيقى والرحلات الريفية. تزوج من “جيسي لونغسون”، وأنجب طفلين. عُرف عنه التواضع والهدوء، وكان يؤمن بأن على العالم أن يظل دائم التساؤل مهما بلغ من معرفة.
ومن أشهر أقواله:

“إنّ كلّ إشارة تلتقطها الأذن البشرية تحمل قصة من السماء، والعلم هو لغتها.”

الخاتمة: دروس من سيرة رجل صنع الجسر بين الأرض والسماء

قصة إدوارد ف. أبليتون ليست فقط قصة عالم فذّ، بل قصة إنسان آمن بأن الصبر والفضول والمعرفة يمكن أن تغير وجه التاريخ. بفضل اكتشافه للأيونوسفير، تحوّلت السماء من حاجز غامض إلى جسر تواصل بين الشعوب، ومن فضاء صامت إلى موجات تنبض بالحياة.

لقد علمنا أبليتون أن كل اكتشاف علمي يحمل في جوهره رسالة إنسانية: أن نبحث، وأن نفهم، وأن نستخدم المعرفة لبناء عالم أفضل.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى