سير

إرنست ت. س. وولتون: من طفل أيرلندي بسيط إلى صانع فجر العصر النووي

 

 المقدمة: الضوء الذي شطر الذرّة

في عالمٍ كانت فيه أسرار الكون تُخفى خلف ستارٍ من الغموض، وُلد رجل استطاع أن يفتح نافذة جديدة على قلب المادة نفسها. كان اسمه إرنست توماس سانتون وولتون، العالم الأيرلندي الذي غيّر وجه الفيزياء الحديثة، ووقف مع زميله جون كوكروفت ليصبحا أول من شطر نواة الذرة في عام 1932، في إنجازٍ يُعدّ الشرارة الأولى لعصر الطاقة النووية.
لكن قبل أن يسطع هذا الضوء في مختبر جامعة كامبريدج، كانت هناك قصة إنسانٍ بسيط، ابن ريفٍ هادئ، يسير بخطواتٍ ثابتة نحو المجد العلمي والخلود في تاريخ البشرية.

 النشأة والتكوين: بدايات من أرض أيرلندا الخضراء

وُلد إرنست وولتون في السادس من أكتوبر عام 1903 في بلدة ديونغانون بمقاطعة تيرون في أيرلندا الشمالية. كان والده الراعي الميثودي ريف. جون وولتون رجل دين متواضعًا ومحبًّا للعلم، بينما كانت والدته آنا سوندرز وولتون امرأةً مثقفة غرست فيه حبّ النظام والفضول المعرفي منذ صغره.
نشأ إرنست في بيئةٍ متدينةٍ بسيطة، تتسم بالقيم الأخلاقية الصارمة والاحترام الكبير للعلم والمعرفة. وقد كان يهوى تفكيك الأشياء وإعادة تركيبها — من الساعات القديمة إلى الألعاب الميكانيكية التي كان يصنعها بنفسه من أدواتٍ متواضعة.

كان المعلمون يصفونه بأنه “الصبي الذي يرى ما وراء الأشياء”، إذ لم يكن يقبل بالظاهر، بل يسأل دائمًا: لماذا؟ وكيف؟ — وهما السؤالان اللذان سيقودانه لاحقًا إلى أحد أعظم الاكتشافات في التاريخ.

 التعليم وبداية التكوين المهني

بدأت رحلة حياة إرنست وولتون التعليمية في مدرسة ميثوديست كوليدج بلفاست، حيث برز في الرياضيات والفيزياء. حصل على منحة دراسية إلى كلية ترينيتي بدبلن عام 1922، وهناك تفجّرت طاقته العلمية.

كان أستاذه إرنست روذرفورد — أحد عمالقة الفيزياء — مصدر إلهامه الأول. تأثر وولتون بمنهجه الصارم في التجريب، فقرّر أن يتخصص في دراسة تركيب الذرّة، ذلك العالم الغامض الذي كان العلماء في بدايات القرن العشرين يخطّون ملامحه الأولى.
حصل على درجة البكالوريوس في العلوم عام 1926، ثم نال درجة الماجستير عام 1927، ليبدأ بعدها رحلته الكبرى في جامعة كامبريدج البريطانية، وبالتحديد في مختبر كافندش الشهير تحت إشراف روذرفورد نفسه.

“في كافندش، تعلمتُ أن كل شرارة صغيرة من الكهرباء قد تكون طريقًا إلى اكتشافٍ يهزّ العالم.” – إرنست وولتون

 الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

عندما وصل وولتون إلى كامبريدج، كان العالم يعيش سباقًا علميًا محمومًا: من يستطيع أولاً تفكيك نواة الذرة؟
كانت النظريات موجودة، لكن لم ينجح أحد بعد في تحويلها إلى حقيقةٍ عملية.
هنا بدأ وولتون، مع زميله البريطاني جون كوكروفت (John Cockcroft)، مشروعًا بدا في بدايته مستحيلاً: تسريع البروتونات إلى طاقة تكفي لاختراق نواة الذرة.

 الجدول الزمني المبسط لبداية الانطلاقة:

السنةالحدث
1927وصول وولتون إلى كامبريدج كباحث دكتوراه.
1928بداية التعاون مع كوكروفت تحت إشراف روذرفورد.
1931بناء أول نموذج عملي لمُسرّع الجسيمات.
1932نجاح التجربة التاريخية في شطر نواة الليثيوم بالبروتونات.

كان التحدي الأكبر هو الحصول على طاقة كهربائية عالية بما يكفي لتسريع الجسيمات. استغل وولتون معرفته بالهندسة الكهربائية فصمّم دائرة عالية الجهد (حوالي 800,000 فولت)، وهو ما مكنهم أخيرًا من تحقيق الهدف.

وفي أبريل 1932، نجحت التجربة. شُطرت نواة الليثيوم إلى نواتين من الهليوم — في أول تفاعل نووي صناعي في التاريخ.
لقد كانت تلك اللحظة بمثابة “ولادة جديدة للفيزياء النووية”، ومن هنا بدأ العالم يدخل عصر الذرة.

 الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

 كسر حدود الذرّة

كانت إنجازات إرنست وولتون محور تحوّلٍ علمي غير مسبوق. فقد فتح اكتشافه الباب أمام تطوير المُسَرّعات النووية التي أصبحت أدواتٍ أساسية في البحث العلمي، والعلاج الطبي، بل وفي التطبيقات الفضائية والبيولوجية لاحقًا.

“قبل وولتون وكوكروفت، كانت الذرة وحدة غامضة مغلقة؛ بعدهما، أصبحت بابًا لعالمٍ لا نهائي من الطاقة والمعرفة.” – مجلة Nature، 1951

كما ساهمت أبحاثه في فهم طبيعة التفاعلات النووية التي أدت إلى تطوير الطاقة النووية السلمية فيما بعد. ورغم أن بعض إنجازاته استُخدمت في تطوير الأسلحة النووية لاحقًا، فإن وولتون ظلّ متمسكًا بالمبدأ الأخلاقي القائل بأن “العلم يجب أن يخدم الحياة، لا أن يدمّرها”.

 مساهماته الأكاديمية

بعد اكتشافه العظيم، عاد إلى جامعة ترينيتي في دبلن ليشغل منصب أستاذ الفيزياء الطبيعية التجريبية من عام 1946 حتى 1974.
هناك، كرّس وقته لتعليم الأجيال الجديدة وتطوير البحث العلمي في أيرلندا. كان يؤمن أن “المعمل هو معبد الحقيقة”، وأن على الطالب أن يتعلّم من التجربة لا من الحفظ.

 التكريمات والجوائز الكبرى

بلغت ذروة تقدير العالم لعمل وولتون عندما حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1951 مناصفةً مع كوكروفت، “تقديراً لجهودهما الرائدة في تحويل الذرات عبر الجسيمات المسرَّعة”.

كما نال:

  • وسام رامفورد من الجمعية الملكية (1938).
  • الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات، بينها دبلن وكمبريدج.
  • تمّ تخليده عبر إطلاق اسمه على أحد المباني العلمية بجامعة ترينيتي تكريماً لإسهاماته.

وكان وولتون أول عالم أيرلندي يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء، ما جعل بلاده فخورة به بوصفه رمزًا للذكاء الأيرلندي في العالم.

 التحديات والمواقف الإنسانية

رغم المجد العلمي، لم تكن حياة إرنست وولتون خالية من التحديات. فقد عاش في فتراتٍ عصيبة من الحروب العالمية، ورأى كيف استُخدمت الفيزياء في صنع أدوات الدمار.
كان ذلك يسبب له قلقًا أخلاقيًا عميقًا، فرفض العمل في المشاريع العسكرية وفضّل التعليم والبحث السلمي.

“العلم لا يعرف الخير أو الشر، إنما الإنسان هو من يختار الاتجاه.” – إرنست وولتون

كما عُرف بتواضعه الشديد، إذ كان يعيش حياة بسيطة في دبلن، ويقضي أوقاته في حديقة منزله يزرع النباتات أو يصلح الأجهزة الكهربائية بنفسه.

 الإرث والتأثير المستمر

ترك إرنست وولتون إرثًا علميًا هائلًا.
فكل مُسرّع للجسيمات اليوم — من مُسَرّع سيرن في سويسرا إلى المختبرات الطبية التي تستخدم البروتونات في علاج السرطان — يحمل بصمة فكرته الأولى.

كذلك، كان من أوائل الداعين إلى الاستثمار في التعليم العلمي في أيرلندا، وهو ما ألهم جيلاً جديداً من العلماء هناك.
بعد تقاعده، استمر في إلقاء المحاضرات العامة حول “أخلاقيات العلم”، مؤكدًا أن المعرفة لا تكون مقدسة إلا إذا وُجّهت لخدمة الإنسان.

 الجانب الإنساني والشخصي

تزوّج وولتون من فريدريك بيسون عام 1934، وأنجب منها أربعة أبناء.
عُرف عنه حبه للأسرة واهتمامه بتربية أولاده على حب العلم والفضول، وكان يقول دائمًا:

“البيت الذي تُطرح فيه الأسئلة هو بيت حيّ.”

شارك في أنشطة خيرية محلية، ودعم مبادرات لتعليم الفيزياء في المدارس الريفية. لم يكن يسعى للشهرة، بل للإلهام — وقد ألهم بالفعل أجيالاً كاملة من الطلبة.

 الخاتمة: الدرس الذي لا يُنسى

رحل إرنست ت. س. وولتون في 25 يونيو 1995 عن عمرٍ ناهز 91 عامًا، بعد حياةٍ حافلة بالنور والاكتشاف.
كانت سيرة إرنست وولتون مثالًا على أن العبقرية لا تولد من بيئة غنية أو ظروف مثالية، بل من الإصرار، الفضول، والإيمان بأن كل سؤالٍ بسيط يمكن أن يقود إلى أعظم الإجابات.

لقد ترك للعالم أعظم إرثٍ علمي وإنساني: أن نستخدم العقل لا لتمزيق العالم، بل لفهمه وإصلاحه.
وسيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة العلم كرمزٍ للفضيلة الفكرية والضمير العلمي الحي.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى