سير

إرنست ماخ: العقل الذي تحدى الإدراك وأعاد تشكيل العلم

في زمنٍ كانت فيه الفيزياء تتوسّع بخطى واثقة نحو التفسير الميكانيكي للعالم، وكان نيوتن يُعبد كأيقونة رياضية للعقل البشري، خرج من النمسا عقل فريد، لم يسعَ إلى نقض التراث العلمي بل إلى تهذيبه، تشذيبه، وإعادة صياغته بما يتوافق مع أبسط الحواس: الرؤية، السمع، والشعور. كان ذلك العقل هو إرنست ماخ (Ernst Mach).

ولد ماخ في قرية متواضعة في النمسا، لكنه لم يكن طفلاً اعتياديًا. منذ سنواته الأولى، ظهرت عليه ملامح العبقرية: ذكاء حاد، ذاكرة قوية، ونفور واضح من قبول الأشياء كما هي دون فحص. ومع مرور السنين، أصبح اسمه يرتبط بأكثر من تخصص: الفيزياء، الفسيولوجيا، علم النفس، والفلسفة. لكن الأهم من ذلك أنه أصبح اسمًا يقف خلف تأثير “ماخ” الشهير، الذي لا تزال طائرات اليوم تحمله كتعبير عن سرعتها الفائقة.

فمن هو إرنست ماخ؟ وما الذي جعله أحد أكثر العقول تأثيرًا في العلم والفكر خلال القرن التاسع عشر وبدايات العشرين؟ لنفتح صفحات حياته ونتتبع الأثر الذي خلّفه في كل علم طرقه.

 البداية: من الحقول إلى المعامل

وُلد إرنست ماخ يوم 18 فبراير 1838 في قرية تُدعى توراس في إمبراطورية النمسا آنذاك (تقع اليوم ضمن جمهورية التشيك). كان والده يوهان ماخ رجل تعليم ومثقفًا يؤمن بأهمية الفلسفة، فيما كانت والدته من عائلة أرستقراطية محبة للفن والعلوم. نشأ ماخ في بيئة تجمع بين التقاليد القروية الريفية والتطلعات الأكاديمية.

تلقى تعليمه الأول في المنزل حتى سن الخامسة عشرة، وكان والده يتولى تعليمه بنفسه، مما مكّنه من تعلّم اللاتينية واليونانية والرياضيات في سن مبكرة. وما إن بلغ السادسة عشرة، حتى التحق بجامعة فيينا لدراسة الفيزياء والرياضيات والفلسفة.

عاش ماخ سنوات دراسته فيينا في ظل نهوض العلوم التجريبية. فكان يتنقل بين المحاضرات، يجلس على أطراف الصفوف، ويدوّن كل ما يُقال، ثم يذهب ليُعيد التفكير في المفاهيم. لم يكن مجرد طالب يتلقّى، بل عقلًا يُعيد صياغة المعلومة.

ماخ الفيزيائي: الكشف عن حدود النظرية الكلاسيكية

تخرّج ماخ من جامعة فيينا بشهادة الدكتوراه في الفيزياء عام 1860، وبدأ مباشرة التدريس والبحث العلمي. عُيّن أستاذًا في جامعات مختلفة، أبرزها جامعة غراتس ثم جامعة براغ، وأخيرًا جامعة فيينا.

في ممارسته للفيزياء، لم يكن ماخ مهتمًا بالقوانين فقط، بل بتفسير كيف تُدرك الحواس هذه القوانين. سعى إلى إعادة تعريف الفيزياء من خلال الإدراك البشري، مؤكدًا أن كل مفاهيم العلم يجب أن تُستمد من الخبرة الحسية.

من أشهر تجاربه ما يُعرف اليوم بـ**”عدد ماخ”** – وهو النسبة بين سرعة الجسم وسرعة الصوت في نفس الوسط. وقد ظهر هذا المفهوم في دراساته عن الصدمة الصوتية والموجات الناتجة عن السرعات العالية. وتُستخدم هذه الوحدة اليوم في قياس سرعات الطائرات والصواريخ، مثل قولنا “الطائرة تطير بسرعة 2 ماخ” أي ضعفي سرعة الصوت.

لكنه لم يتوقف عند ذلك. بدأ يطوّر نقدًا شاملًا للميكانيكا النيوتونية، معتبرًا أن مفاهيم مثل “الكتلة” و”القصور الذاتي” ليست إلا افتراضات نظرية يجب ربطها بالتجربة الحسية. وبذلك كان من أوائل الذين شكّكوا في مطلقية قوانين نيوتن، ممهدًا الطريق لنيوتن آخر سيأتي لاحقًا… اسمه أينشتاين.

 ماخ الفسيولوجي: كيف تعمل الحواس؟

رغم أنه لم يكن طبيبًا، إلا أن ماخ قدّم مساهمات استثنائية في علم فسيولوجيا الإحساس. درس الإدراك البصري والسمعي، وأجرى تجارب على الرؤية المجاورة (Mach bands) وهي ظاهرة إدراكية تجعل العين ترى خطوطًا وهمية على حدود التباين بين الألوان، وهي ظاهرة تحمل اسمه حتى اليوم.

كما أجرى دراسات رائدة على التوازن الحركي والإدراك الحسي عند الحركة الدورانية، وأثبت أن الأذن الداخلية هي المسؤولة عن الإحساس بالتوازن، وهي أبحاث كان لها أثر هائل في فهم أسباب الدوار.

لقد كانت فلسفته العلمية قائمة على ما أطلق عليه “التحليل الحسي”، والذي نشره لاحقًا في كتابه الشهير “تحليل الأحاسيس” (The Analysis of Sensations) عام 1886.

ماخ الفيلسوف: العلم كما ينبغي أن يُفهم

في مؤلفاته، لم يكن ماخ يُنظّر فقط، بل كان يُهاجم صراحةً النزعة الميتافيزيقية في العلم. رفض بشكل قاطع أي مفهوم لا يمكن التحقق منه بالحواس. وكان شعاره الدائم:

إذا لم نستطع أن نلمسه أو نراه أو نحسّه، فلا مكان له في العلم.

كانت هذه النظرة ثورية، خاصة في ظل هيمنة الفلسفة الوضعية التقليدية. لكن ماخ لم يكن وضعيًا متطرفًا، بل آمن بـ”المذهب الحسي التجريبي” (Empirio-criticism)، أي بناء المعرفة العلمية على التجربة المباشرة، ونبذ المفاهيم الماورائية.

ونتيجة لذلك، نشأ خلاف فلسفي محتدم بينه وبين مناصري الميكانيكا الكلاسيكية، وأيضًا مع بعض الفلاسفة الذين اعتبروه مبالغًا في “تقليص” الواقع إلى مجرد إحساسات.

 مؤلفاته الأبرز:

كتب ماخ عددًا من المؤلفات الهامة التي لا تزال تُدرّس وتُترجم حتى اليوم، منها:

  1. تحليل الأحاسيس (1886) – كتابه الأشهر في الفلسفة العلمية والإدراك الحسي.
  2. الميكانيكا: تحليلها وتطورها التاريخي (1883) – قدّم فيه نقدًا عميقًا للفيزياء النيوتونية.
  3. معرفة وفهم الطبيعة (1906) – عرض فيه رؤيته الفلسفية حول تطوّر المفاهيم العلمية.
  4. الفضاء والزمن والحركة – دراسة نقدية للفلسفة الطبيعية.
  5. المفهوم الاقتصادي للعلم – حيث حاول تطبيق مبدأ التبسيط الاقتصادي على التفكير العلمي.

 إلهام لأينشتاين والثورة النسبية

لم يكن إرنست ماخ مجرد مفكر يعيش في زمانه، بل كان مفكرًا يُلهم عقولًا ستقلب العالم رأسًا على عقب. أحد أبرز هؤلاء كان ألبرت أينشتاين.

كان أينشتاين يُكنّ احترامًا شديدًا لماخ، ووصفه بأنه “أحد أعظم المفكرين في العلم”. وقد تأثّر بشكل خاص بنقد ماخ لمفهوم “القصور الذاتي”، مما ألهمه لاحقًا في تطوير مبدأ النسبية العامة.

في الواقع، هناك جزء من النسبية يُعرف بـ”مبدأ ماخ” (Mach’s Principle)، وهو فكرة أن القصور الذاتي لأي جسم يعتمد على توزيع الكتلة في الكون كله، وهي فكرة كان ماخ يلوّح بها فلسفيًا، وأخذها أينشتاين ليُدخلها في قلب فيزياء القرن العشرين.

السنوات الأخيرة والرحيل:

تقدّم ماخ في السن، وأصيب بسكتة دماغية عام 1898 تركت نصف جسده مشلولًا، لكنه لم يتوقف عن التفكير والكتابة. بل عُيّن لاحقًا عضوًا في مجلس اللوردات النمساوي، حيث حاول الدفاع عن حرية الفكر والعلم في وجه النزعة العسكرية.

توفي إرنست ماخ يوم 19 فبراير 1916، بعد يوم واحد من عيد ميلاده الثامن والسبعين، تاركًا خلفه إرثًا علميًا وفلسفيًا هائلًا، واسمًا يتردد كلما تحدّث أحدهم عن سرعة الصوت أو حدود الإدراك.

 إرث ماخ… صوت العقل في زمن الضجيج

ما تركه إرنست ماخ لا يُقاس بعدد المعادلات أو القوانين، بل بمقدار الأسئلة التي زرعها في العقول. لقد أصرّ أن العلم ليس مجرد صياغة معادلات، بل هو بناء مفاهيم ذات معنى حسي وواقعي. أراد أن يُعيد العلم إلى طبيعته الإنسانية، وجعل من الإحساس أداة بحث لا تقل شأنًا عن الأرقام.

يُكرَّم اليوم اسمه في آلاف الجامعات والمعاهد، ويوضع عدد ماخ على هياكل الطائرات الأسرع من الصوت، وتُدرّس أفكاره في فصول الفلسفة والفيزياء معًا.

لكن الأهم من ذلك، أن إرثه يذكرنا دائمًا أن الشك في المُسلمات هو أول الطريق نحو المعرفة، وأن أعظم العلماء ليسوا من يجيبون على كل شيء… بل من يُجيدون طرح الأسئلة الصحيحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى