سير

إميل تيودور كوخر – الجراح الذي جعل العمليات أكثر أمانًا

 البداية: إشعال الفضول

في زقاق ضيق من شوارع برن السويسرية وُلد حلم صغير سيغيّر عالم الجراحة إلى الأبد. منذ طفولته، كان لدى تيودور كوخر إصرارٌ خفيٌّ ودافعٌ نابعٌ من حب مبكر للطب والابتكار. سيأتي اليوم الذي يُذكر فيه اسمه إلى جانب عظماء الطب، بعد أن أحدث ثورة في جراحة الغدة الدرقية، وأنقذ آلاف الأرواح، ليُتوَّج عمله بجائزة نوبل.

النشأة والطفولة

ولد إميل تيودور كوخر في 25 أغسطس 1841 بمدينة برن السويسرية، ونشأ في عائلة متوسطة الحال. والده كان مهندسًا، وأمه ربة منزل حكيمة. في طفولته، أبدى شغفًا غريبًا بالعلاج والعلوم، حيث كان يتأمل في الإصابات البسيطة ويتساءل: لماذا يشفى البعض ويمرض آخرون؟

 التعليم والمسار الأكاديمي

التحق بجامعة برن لدراسة الطب، وتخرج منها عام 1865. بعد تخرجه، سافر إلى عدة عواصم أوروبية مثل برلين ولندن وباريس وفينا، ليطّلع على أحدث ما توصّل إليه الطب في أوروبا. بعد عودته، حصل على منصب تدريسي في جامعة برن، ثم عُيّن عام 1872 أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة في مستشفى الجامعة، وهو المنصب الذي حافظ عليه حتى وفاته.

 الانطلاقة المهنية

كوخر وجد نفسه أمام تحدٍّ كبير: عمليات استئصال الغدة الدرقية كانت خطيرة للغاية، ونسبة الوفيات تتجاوز 18%. بدأ بتطبيق تقنيات التعقيم الحديثة، وركز على تقليل النزيف وتفادي إزالة الغدة بالكامل. ومع الوقت، أصبحت نسبة الوفاة أقل من 0.5%، وهو إنجاز هائل في تاريخ الجراحة.

 أبرز الإنجازات العلمية

 تقنيات جراحية آمنة للغدة الدرقية

ابتكر أساليب جراحية جديدة قلّلت من الوفاة والعدوى بعد العمليات. كان أول من ربط بين إزالة الغدة الدرقية بالكامل وظهور حالات القزامة والتأخر العقلي.

 ربط الغدة الدرقية بوظائف الجسم الحيوية

لاحظ أن إزالة الغدة الدرقية بالكامل تسبب أعراضًا خطيرة، فبدأ في التوصية بترك جزء منها أثناء الجراحة. وقد ساهمت هذه الملاحظة في تطوير فهمنا للغدد الصماء.

 أدوات وتقنيات

طوّر العديد من الأدوات الجراحية، مثل ملقط كوخر الشهير، وكتب عددًا من الكتب المرجعية في الجراحة.

جائزة نوبل

في عام 1909، مُنح جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب، “تقديرًا لأبحاثه في فيزيولوجيا وباثولوجيا وعلاج الغدة الدرقية”. وقد وُصفت مساهماته بأنها أنقذت آلاف الأرواح، وجعلت الجراحة علماً دقيقًا بعد أن كانت أقرب إلى المغامرة.

 الجانب الإنساني

كوخر لم يكن مجرد جراح؛ بل كان إنسانًا متواضعًا، متدينًا، يؤمن بالخدمة العامة. أنشأ معهدًا باسمه في جامعة برن، ودرّب مئات الأطباء، وكتب أكثر من 249 بحثًا علميًا. كان دائمًا يعامل طلابه ومرضاه برحمة واحترام.

 ما بعد نوبل

رغم شهرته، استمر في إجراء العمليات وكتابة الأبحاث حتى وفاته في عام 1917. لم يتوقف يومًا عن تطوير طرق العلاج والتدريس، وكان يحظى باحترام كبير من المجتمع الطبي الدولي.

الإرث العلمي

كوخر ترك إرثًا لا يُنسى:

  • خفّض نسبة الوفيات في جراحة الغدة الدرقية إلى أقل من 1%.
  • رسّخ مفاهيم جراحية ما زالت تُدرّس حتى اليوم.
  • أنشأ معهدًا للأبحاث الطبية في برن.
  • ألّف كتبًا في الجراحة أصبحت مراجع عالمية.

 الخاتمة

إميل تيودور كوخر لم يكن مجرد جراح، بل كان رائدًا في تحويل الجراحة من مغامرة قاتلة إلى علم دقيق. قصته تذكرنا بأن الشغف والفضول يمكن أن يصنعا المعجزات. ومن خلال نضاله الصامت وإنجازاته البارزة، سيظل اسمه خالدًا في سجل الطب والإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى