إيران وحتمية التاريخ: قراءة في جدلية الجغرافيا والسياسة عبر منظور جاد طه

في كتابه “إيران وحتمية التاريخ”، يقدم الكاتب جاد طه تحليلاً عميقاً للعلاقات العربية-الإيرانية، مستعرضاً تطورها عبر العصور وتأثير العوامل الجغرافية والسياسية والدينية في تشكيل هذه العلاقات. نُشر الكتاب عام 2025 عن وكالة الصحافة العربية، ويقع في 123 صفحة، متناولاً موضوعات معقدة بأسلوب سلس ومبسط، يجمع بين التحليل التاريخي والبعد الاستشرافي لمستقبل المنطقة.
مقدمة: الجغرافيا كقدر محتوم
يرى طه أن الجغرافيا ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي عنصر فاعل في تشكيل التاريخ. فإيران، بموقعها الاستراتيجي وثرواتها الطبيعية، كانت دائماً في قلب الصراعات الإقليمية والدولية. هذا الموقع جعلها تسعى للهيمنة على محيطها، مما أدى إلى توترات مستمرة مع جيرانها العرب، وخصوصاً في منطقة الخليج العربي.
الجذور التاريخية للصراع
يعود طه إلى التاريخ القديم ليسلط الضوء على جذور الصراع بين العرب والفرس. فالصدام بين الحضارتين ليس حديث العهد، بل يمتد إلى العصور الساسانية وما قبلها. ومع دخول الإسلام، اختفى الصراع العسكري الظاهري لفترة، لكنه عاد بقوة مع ظهور الدولة الصفوية في القرن السادس عشر، التي قامت بتحويل إيران إلى المذهب الشيعي، مما أضاف بعداً طائفياً إلى الخلاف القائم، ورسّخ الانقسام السني–الشيعي في العالم الإسلامي.
الثورة الإيرانية وتصدير الأيديولوجيا
يتناول طه في فصل محوري الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي شكلت نقطة تحول في العلاقات الإيرانية-العربية. فبعد سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية بقيادة الخميني، بدأت إيران في تصدير أيديولوجيتها الثورية إلى الخارج، خاصة إلى الدول العربية ذات التكوين الطائفي المتنوع. وقد كان هذا واضحاً في دعم إيران لحركات مسلحة في لبنان والعراق واليمن، مما خلق توترات حادة مع الدول الخليجية ومصر والأردن.
الاحتلالات الإيرانية للأراضي العربية
يُبرز الكاتب بوضوح ملف الاحتلال الإيراني لأراضٍ عربية كأحد مظاهر الطموح التوسعي الإيراني. يبدأ بالحديث عن احتلال إقليم الأحواز العربي الغني بالنفط منذ عشرينيات القرن الماضي، مروراً بالجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبو موسى) التي احتلتها إيران عام 1971، قبل يوم واحد من إعلان قيام دولة الإمارات. هذه الاحتلالات تمثل قضايا حساسة في العلاقات العربية-الإيرانية، وقد فشلت كل الجهود الدبلوماسية حتى الآن في حلها.
العلاقات الاقتصادية كمدخل للتقارب
رغم التوترات السياسية، يسلّط طه الضوء على أن العلاقات الاقتصادية بين العرب وإيران كانت في أوقات كثيرة أفضل من العلاقات الدبلوماسية. يشير إلى التبادل التجاري الكبير بين إيران ودول الخليج، لا سيما الإمارات، ما يؤكد أن المصالح الاقتصادية المشتركة يمكن أن تشكّل أرضية لتجاوز الخلافات. لكن ذلك مرهون بإرادة سياسية متبادلة تحول دون استغلال الاقتصاد كسلاح ضغط.
التدخلات الخارجية وتأجيج الصراع
يخصص طه جزءاً من تحليله لدور القوى الكبرى في تفاقم التوترات بين إيران والعرب. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، لعبت دوراً مزدوجاً: فهي تفرض عقوبات مشددة على إيران من جهة، لكنها تغض الطرف عن بعض تحركاتها في مناطق النفوذ العربي من جهة أخرى. في المقابل، تجد روسيا والصين في إيران شريكاً استراتيجياً في مواجهة النفوذ الغربي، ما يزيد من تعقيد المشهد ويحول دون وجود حل إقليمي خالص.
نحو مستقبل مشترك
رغم كل ما سبق، لا يغلق جاد طه الباب أمام مستقبل من التعاون والتكامل بين العرب وإيران. بل يدعو إلى مراجعة شاملة للسياسات الحالية، والتركيز على القواسم المشتركة مثل الدين والثقافة والتاريخ، والعمل على بناء تحالفات اقتصادية وأمنية على أسس المصالح المشتركة وليس الاصطفاف الطائفي أو الإيديولوجي. ويرى أن العالم العربي، إذا ما استعاد زمام المبادرة، قادر على فرض شروط جديدة لعلاقة أكثر توازناً مع إيران.
تحليل نقدي
يمتاز كتاب “إيران وحتمية التاريخ” برؤية تحليلية واضحة، تتسم بالشمول والاتزان. لا يتبنى طه خطاباً عدائياً متطرفاً ضد إيران، بل يحاول تفكيك منطقها السياسي والتاريخي دون إغفال الأخطاء العربية. ورغم تركيزه على مفهوم “الحتمية”، إلا أنه يترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية التغيير من خلال العقلانية والحوار.
كما أن اللغة التي يستخدمها الكاتب سهلة، لكنها لا تفتقر إلى العمق، مما يجعله مناسباً لكل من القارئ المتخصص والعادي على حد سواء. واللافت في الكتاب هو اعتماده على مصادر تاريخية ووثائق سياسية تعزز من مصداقية التحليل، دون أن يغفل الإطار المعرفي الأوسع لصراع القوى في المنطقة.
خاتمة
يقدم “إيران وحتمية التاريخ” للكاتب جاد طه مساهمة فكرية وسياسية قيمة لفهم أحد أعقد الملفات في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. من خلال تتبع تطور العلاقات الإيرانية-العربية عبر قرون من التاريخ، ومن خلال تحليل الحاضر واستشراف المستقبل، يقدم الكتاب ما يشبه خريطة ذهنية شاملة لفهم “الجار الفارسي” الذي لا يمكن تجاهله، لكن لا ينبغي الخضوع له.
لمعرفة المزيد: إيران وحتمية التاريخ: قراءة في جدلية الجغرافيا والسياسة عبر منظور جاد طه