سير

إيغور أنسوف: الأب الروحي للتخطيط الاستراتيجي الحديث

 من بدايات روسيا المضطربة إلى قمم الفكر الإداري

في مطلع القرن العشرين، حيث كانت أوروبا تمر بعواصف الحرب والثورة، وُلد طفلٌ في موسكو عام 1918، لم يكن أحد يتوقع أن يتحوّل يومًا إلى أحد أبرز العقول المؤثرة في عالم الإدارة الاستراتيجية. كان اسمه إيغور أنسوف (Igor Ansoff)، وهو الاسم الذي أصبح لاحقًا أيقونةً في قاعات الجامعات، ومراجعًا لا غنى عنه في مكاتب التنفيذيين حول العالم.

عاش أنسوف طفولته المبكرة وسط الاضطرابات السياسية التي عصفت بروسيا بعد الثورة البلشفية. وفي سن مبكرة، هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة هربًا من الاضطراب السياسي والاقتصادي، واستقرت هناك لتبدأ رحلة جديدة، اتخذ فيها الشاب الروسي الأميركي من العلم والتحليل الرياضي مفتاحًا لبناء مستقبله.

 التكوين العلمي: من الفيزياء إلى الفلسفة ثم إلى الإدارة

في البداية، لم يكن أنسوف يرى نفسه إداريًا. بل على العكس، فقد بدأ دراسته في مجال الرياضيات والفيزياء، وحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من معهد ستويفيسانت في نيويورك، قبل أن ينتقل إلى جامعة براون العريقة، حيث حصل على الماجستير في الرياضيات عام 1940.

لكن ما لبث أنسوف أن انجذب إلى التحليل الفلسفي والبعد المنهجي في التفكير، فحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كاليفورنيا الجنوبية، ليبدأ بذلك تحوّله إلى مجال الإدارة والنظرية الاستراتيجية.

لقد جمع أنسوف بين الصرامة الرياضية والتفكير الفلسفي العميق، ما جعله يطوّر نظريات دقيقة وقابلة للتطبيق في بيئة الأعمال، وهو ما ميّزه لاحقًا عن معاصريه.

 مسيرته المهنية: من جنرال إلكتريك إلى جامعة كارنيغي

بدأت الحياة المهنية الحقيقية لأنسوف في شركة لوكهيد للطيران، حيث شغل منصب مستشار تخطيط استراتيجي خلال الخمسينيات، وهي فترة شهدت تحولات كبرى في عالم الأعمال بسبب الحرب الباردة والسباق التكنولوجي.

كان أنسوف يعمل في تحليل بيئة الأعمال، وتقييم المخاطر، وتطوير خطط التوسّع. وهناك، أدرك أن المؤسسات الكبيرة بحاجة إلى إطار منظم لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، لا مجرد ردود فعل عشوائية على تغيرات السوق.

انتقل بعدها إلى جامعة كارنيغي ميلون، وهي من الجامعات الرائدة في علم الإدارة، ليبدأ فيها نشاطًا أكاديميًا غزيرًا استمر لعدة عقود. وهناك، نشر أولى وأهم أعماله، وبدأت شهرته كعالم تنظيري في التوسع.

 أنسوف والمصفوفة الخالدة: ميلاد “مصفوفة أنسوف”

في عام 1957، كتب أنسوف مقالًا بعنوان “استراتيجيات النمو” في مجلة هارفارد بزنس ريفيو، وكان لهذا المقال أثر ثوري. وبعده بسنوات، نشر كتابه الأشهر:

“Corporate Strategy” – 1965

وفيه قدم للعالم واحدة من أشهر أدوات التحليل الاستراتيجي وأكثرها استخدامًا حتى اليوم، وهي:

مصفوفة أنسوف (Ansoff Matrix)

تتكون المصفوفة من أربعة استراتيجيات رئيسية للنمو، ترتبط بالسوق والمنتج:

الأسواق الحالية الأسواق الجديدة
المنتجات الحالية اختراق السوق (Market Penetration) تطوير السوق (Market Development)
المنتجات الجديدة تطوير المنتج (Product Development) التنويع (Diversification)

اختراق السوق:

استراتيجية تهدف إلى زيادة الحصة السوقية للمنتج الحالي في السوق الحالي من خلال تحسين التسويق أو الأسعار أو التوزيع.

تطوير السوق:

السعي لبيع نفس المنتج إلى أسواق جغرافية أو ديموغرافية جديدة.

تطوير المنتج:

تعديل أو تحسين المنتج الحالي لزيادة جاذبيته للعملاء الحاليين.

التنويع:

الدخول في مجالات جديدة بمنتجات جديدة – وهي الاستراتيجية الأكثر خطورة والأكثر إبداعًا في الوقت نفسه.

هذه المصفوفة كانت بمثابة بوصلة استراتيجية للشركات العالمية، خصوصًا في زمن العولمة والتغيرات السريعة، وساهمت في تشكيل عقلية جديدة في التخطيط والنمو.

 مساهماته الفكرية الأخرى: الاستراتيجية كعلم لا كفن

لم يكتف أنسوف بمصفوفته الشهيرة، بل كان من أوائل من دعوا إلى تحويل الاستراتيجية من فن إلى علم، يمكن قياسه وتحليله باستخدام أدوات كمية.

من أبرز أفكاره:

  • مفهوم “الاستجابة الاستراتيجية” (Strategic Responsiveness):
    دعا إلى أن تكون الشركات قادرة على تحليل التغيرات البيئية والاستجابة لها بمرونة.
  • نظرية فجوة التخطيط (Planning Gap). 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى