كتب

الأنثى كميثولوجيا شعرية: قراءة في تجربة راشد عيسى عبر عدسة حسين نشوان

 

مقدّمة

صدر كتاب “مثيولوجيا الأنثى في شعر راشد عيسى” عام 2023، للباحث حسين نشوان. ينطلق الكتاب من فرضية مفادها أن تجربة الشاعر راشد عيسى، في شعره، تحتفي بالأنثى والمرأة ليس بوصفها موضوعاً جمالياً أو رمزاً تقليدياً فحسب، بل بوصفها محوراً ميثولوجياً، رمزاً متعدد الدلالات، يجمع بين الحياة، الحب، الأسطورة، السحر، اللغة، والوجود.
من هذا المنطلق، يحاول الباحث أن يكشف «ميثولوجيا الأنثى» في شعر عيسى بمعنى التحول الرمزي للأنثى من حالة بيولوجية أو اجتماعية إلى حالة توسّط بين النص والكون، بين اللغة والوجود، بين الذات والآخر، وبين الشعر والميتافيزيا.

ويمكن القول إن أهمية هذا الكتاب تتجلّى في:

  • فتح قراءة جديدة في شعر راشد عيسى، تُسلّط الضوء على البُعد الأنثوي في التجربة الشعرية، وهو بُعد ربما أغفله البعض أو حوّله إلى مجرد موضوع تغزّل أو تردد شعري.
  • تقديم منهج تحليلي يمزج بين الأسطورة، والعلامة، والأنثى، واللغة، في سياق شعري معاصر.
  • إثراء النقد الأدبي العربي بدراسة مركّزة على رمز الأنثى في الشعر، باعتبارها كينونة مفتوحة للمعاني، وليس مجرد حضور موضوعي.
  • المساهمة في إعادة تأصيل علاقة الجنس/الجندر باللغة والشعر باعتبارها علاقة وجودية، لا فقط اجتماعية أو ثقافية.

في ما يلي أقسام التحليل والتنقيب في أهم ما يقدّمه الكتاب، مع استعراض محاور الدراسة، تحليل المحتوى، الإشكاليات، النتائج، والمساهمة النقدية.

محاور الدراسة في الكتاب

حسب ما يبيّنه المؤلف، تنطلق الدراسة من أن قصيدة راشد عيسى تقوم على ثلاثة أضلاع أساسية: المرأة/الأنثى، الحياة/الحب، والأسطورة/السحر.
كما يوضّح أن هذه الثلاثية، أي حضور الأنثى – حضور الحب/الحياة – حضور الأسطورة/السحر، لا تنفصل عن فلسفة القصيدة/الشعر التي يسعى الشاعر من خلالها إلى «اكتشاف الجمال في المختبر الشعري من خلال لعبة الاقترانات» ليس من أجل هجاء أو تمجيد بقدر ما هو من أجل توسيع فضاءات اللغة والشعرية.
ثم يتناول الباحث عدداً من القضايا الفرعية ضمن هذا الإطار، منها:

  • رمزية الكينونة الأنثوية في شعر عيسى، وكيف تتحول المرأة أو الأنثى إلى رمز ميثولوجي مفتوح على آلهة الأنثى القديمة (عشتار، إنانا، ديانا، مانا …) كما يبيّن نشوان.
  • علاقة الشعر بالأنثى باعتبارها ليس كما هي في الحياة اليومية فحسب، بل باعتبارها «نصّاً شعرياً/ كينونة/ ماهية» تتحوّل إلى تمثيل للوجود/اللغة/الكون.
  • اللغة والشعرية في التجربة، وكيف يستعمل الشاعر لغة شجاعة، تتحرّر من ثنائية المعنى الثابت، وتتفّت المعنى إلى صور وإيحاءات، وتتجاور فيها الميتافيزيقا مع اللغة اليومية.
  • وظيفة الشعر كما يراها الشاعر: لحظة ولادة تستعيد الألعاب الحياتية والمأساوية في آن، وتحوّل الفوضى والعدم إلى نصّ منتظم، تستعيد فيه اللغة رمزية الوجود.
  • علاقة المرأة/الأنثى بالذكورة، لكنها ليست بالمعنى المعارض أو الصدامي، بل بعلاقة تكامل أو تجانس أو ميلان بين الأنوثة والوجود الشعري، مثلما تشبه “ميل الفراشة نحو الضوء”.

بهذه المحاور، يقترب الكتاب من بناء “ميثولوجيا” الأنثى، بمعنى استخدام الأنثى كأيقونة شعرية تتحول إلى رمز يمتدّ عبر الأسطورة والفلسفة واللغة، وليس مجرد حضور أنثوي ضمن موضوعات التغزل أو العاطفة.

قراءة تحليلية لمحتوى الكتاب

1. الأنثى كرمز ميثولوجي

يبدأ نشوان بالتأكيد أن تجربة راشد عيسى في أكثر من ثلثي شعره تتعلق بالأنثى، وأن حضورها ليس بوصفها أمّة أو حبيبة أو زوجة فحسب، بل بوصفها “كينونة وجودية” تحيل إلى ما هو أبعد من التوصيف الاجتماعي.
في هذا، يرى الباحث أن الشاعر يستعير رموز الأنثى القديمة: عشتار، إناهتيا، إنانا، ديانا… وغيرها، في سياق استعارٍ شعري، ليحوّل الأنثى إلى حضور أسطوري يربط بين الإنسان والكون، بين الحواس والميتافيزيقا.
يمكن تحليل هذا الأمر على النحو التالي:

  • الأنثى هنا ليست فقط موضوعاً للتغزل أو للغزل العاطفي، وإنما هي نقطة ارتكاز لتساؤلات وجودية: ما الحياة؟ ما الحب؟ ما اللغة؟ ما الوجود؟ وكيف يرتبط الإنسان بهذا الوجود؟
  • بتحويل الأنثى إلى “ميثوس”، يفسح الشاعر مجالاً للحلم، للسحر، وللانغماس في النمط الأسطوري، مما يجعل النص الشعري ليس مجرد تعبير وجداني أو عاطفي، بل بحثاً في المجهول، في اللغة، في اللغة بوصفها – كما يقول الفارابي – «مثوى الوجود».
  • هذا الاستعارة الميثولوجية تنقل الأنثى من دائرة التمثيل الاجتماعي إلى دائرة اللغة والرمز، فتصبح محوراً مفتوحاً للعمل الشعري، يستدعي الصور، الأسطورة، اللغة التجريبية، الفن، وكذلك المسارات الفلسفية والوجودية.

2. اللغة والشعر: مختبر وجود

واحدة من أبرز أطروحات الكتاب هي أن الشاعر يرى الشعر بوصفه “مختبراً” لاكتشاف الجمال، واللغة هي الأداة، وهي – أيضاً – الوجود بذاته. في مقدّمة الكتاب، يشير المؤلف إلى أن الشاعر يرى أن “الوجود هو ما يتحقق في اللغة” – إعادة إلى قولة هايدجر “من دون اللغة لن تكون الأشياء أبدًا ما هي عليه”.
الكتاب يعرض هذه الفكرة بأن النص الشعري عند راشد عيسى لا ينقل حالة أو موضوعاً ثابتاً، بل يقوم بتفتيت المعنى الثابت للكلمة إلى صور وإيحاءات، ويقوم بتفعيل اشتقاق المعنى اللغوي، بحيث تصبح اللغة هي المكان الذي يُختبر فيه الوجود.
تحليلنا:

  • اللغة في هذا السياق ليست وعاءً جامداً يُعبِّر عن شيء، بل هي الفعل الإبداعي ذاته. فالشاعر يقوم بلعبة الاشتقاق والتفتيت، ليحوّل الكلمة إلى “انفجار” شعوري، إلى “لحظة حلم براق رعّاد يلعب مع ملكوت الإيهام”.
  • في هذا المختبر الشعري، الأنثى تلعب دور “الحالة الشعورية/الوجودية” التي تُجرّب اللغة من خلالها، كأنها المرآة التي يوقِظ منها الشاعر اللغة، أو تُوقِظ منه اللغة.
  • هذا يضع الشعر عند عيسى ضمن إطار “استكشاف الفضاءات الشعرية” أكثر من كونه تعبيراً مباشرًا أو سردًا لأحاسيس تقليدية. إنه تجربة وجودية في المقام الأول.

3. الحب/الحياة، والفوضى المنظمة

الضلع الثاني في الثلاثية التي يقدّمها نشوان هو الحياة/الحب، والضلع الثالث الأسطورة/السحر. في قراءة الباحث، الحب ليس مجرد علاقة بين حبيب وحبيبة، بل هو اكتشاف للوجود، وهو الحياة بذاتها، وهو الأسطورة. الشعر عند عيسى يعمل على إعادة ترتيب الفوضى: “لحظة ولادة بما تنطوي عليه من معنى يفسر الحياة أو يجعلها منطقية في ظل مآسيها ورعبها وفداحتها”.
هذا الإطار يمكن تفسيره على النحو التالي:

  • الشاعر لا يخشى من الفوضى أو من العدم، بل يعتبرها فرصة إبداعية، فالنص الشعري يظهر كفضاء يُرتّب الفوضى، أو يُحوّلها إلى معنى.
  • الحب – كحالة شعورية – يتداخل هنا مع الحياة، ليس بمعناها الحيوي فقط، بل بمعناها الميتافيزيقي: الحب هو اللغة، والحياة هي القصيدة، والأنثى هي الانطلاقة أو المفتاح لهذا المعنى.
  • الأسطورة/السحر تجعل النص الشعري يحتفي بالرُؤى الكبرى: الأسطورة ليست مجرد موضوع تغليف، بل هي منهج شعري، سحر اللغة، لحظة عبور من الواقع إلى الرمزية، من الذات إلى الوجود.

4. الأنوثة والذكورة – علاقة تداخل وليس صدام

من النقاط المهمة في الكتاب أن المؤلف يرى أن العلاقة بين الأنوثة والذكورة في شعر عيسى ليست علاقة صراع أو ثنائية تقليدية، بل ميلان/تطابق حيوي، يقارنه الباحث «بميل الفراشة للضوء».
تحليلنا:

  • هذا الموقف النقدي يجنّب قراءة الشاعر ضمن الجندر التقليدي كمجابهة أو نقد للهيمنة، بل يُعيد إنتاج علاقة أُنثوية–شعرية–وجودية، حيث المرأة ليست “عنصراً” معارضاً للرجل، بل هي اللحظة التي تتجلّى فيها القصيدة، أو الكينونة الشعرية.
  • هذا يجعل الأنثى في النص ليست “مكبّلة” بالمفاهيم الاجتماعية، بل مفتوحة كرمز لولوج اللغة: المرأة–الشعر–اللغة مترابطة، ليست المرأة من جهة، والشاعر من جهة، بل “المرأة/الشعر” لحظة واحدة.
  • هذا المنظور يُعطي للأنثى امتداداً ميتافيزيقياً، لا تقليلياً أو تبعيًا، مما يزيد من قيمة الدراسة في قراءة بوليّة أو متعددة الأبعاد لدى الشاعر.

5. القيمة الأسطورية والتحويل الرمزي

واحدة من مضامين الكتاب القوية هي أن التحول الرمزي للأنثى عند الشاعر لا يبقى في دائرة الذات الخاصة أو العاطفة الفردية، بل يمتد إلى دائرة الأسطورة، والرمز، والميتافيزيقا. ويشير نشوان إلى أن الشاعر يذهب إلى «… النقل بين المرأة الحبيبة أو الجميلة المتغزّل بها، أو الأم، أو الجدة إلى أعالي الرمز الأنثوي الميثولوجي مانا، رجوى، عشتار، إناهتيا، إنانا، ديانا، وسائر رموز الخصب الأنثوي العالمي».
من تحليلنا:

  • هذا الربط بين الأنثى المعاشَرة واليومية وبين الأنثى الأسطورية، يمثّل تفسيرًا بأنّ التجربة الشعرية تتجاوز التقليد وتعيد تشكيل الرمز.
  • الرمزية الأنثوية هنا تعمل كجسر بين ما هو محلي (المرأة في الحياة اليومية) وما هو كوني/أسطوري (الرموز الأنثوية العالمية). وهذا يضع شعر عيسى في إطار شعري يمتد إلى ما هو ما وراء الحدّ، إلى ما هو عالمٌ داخلي/خارجي في آن.
  • من حيث النقد الأدبي، فإن انتباه الباحث إلى هذه المرحلة من التحول وتعقّبها في النص يوفّر رؤية غنية في فهم كيف تتحرّك اللغة نحو الأسطورة وكيف تُستدعى الأنثى كإحداثية في تلك الحركة.

إشكاليات وأسئلة نقدية تثيرها الدراسة

إلى جانب ما تمّ عرضه، يثير الكتاب عدداً من الأسئلة النقدية المهمة، منها:

  1. إلى أي مدى يكون التحول الأسطوري للأنثى مفيداً للشعر؟ قد يُقال إنّ تحويل المرأة إلى رمز أسطوري يُجردها من خصوصيتها، من حضورها اليومي، ومن الذات الفردية. هل هذا التعميم الرمزي يفقد المرأة–الشعر–الذات تلك الخصوصية؟ يتعامل الكتاب مع هذه المسألة بشكل ضمني، لكن ربما تفتح الدراسة للمتابع باب المزيد من التساؤل: هل كل حضور أنثوي في الشعر يجب أن يكون ميثولوجياً ليكون “قوياً”؟
  2. هل هذا الأسلوب النقدي ينطوي على إقصاء للعوامل الثقافية والاجتماعية؟ — بمعنى، الدراسة تركز على البعد الأسطوري واللغة، وقد تُقال إنّها لا تولي – أو لا تضيف – كماً كافياً من الاهتمام للظروف الاجتماعية/الثقافية التي تشكّل حضور المرأة في الشعر (مثلاً: البُعد النسوي، السياق المجتمعي).
  3. العلاقة بين الشعر والأنثى: هل تظلّ الأنثى موضوعاً أم تصبح الشاعرة ذاتها امرأة/أنثى؟ — بمعنى آخر، الدراسة ترى الأنثى كمفتاح للشعر، لكن القدر الذي تتحول فيه المرأة الحقيقية إلى رمز، أو تتحول إلى غياب، يستحق تحليلًا أعمق. هل الشاعر “يخسر” حضورها كذاتٍ؟ أم يستعيدها كرمز؟
  4. منهجية الدراسة: هل الربط بين الرموز الأسطورية العالمية والأنثى في النص محكم دائماً؟ — فعند ربط “ر.جوى” أو “مانا” أو “عشتار” في شعر عيسى بهذه الرموز، يُثار سؤال مدى وضوح النصوص أو الشعر الذي يجعل ذلك الربط مبرَّراً. هل النص الشعري استدعى فعلياً تلك الرموز، أو أنه تفسيرٌ نقدي؟ الدراسة تبدو واعية بهذا الأمر، لكن القارئ النقدي قد يرغب في قراءة الأمثلة النصّية والمقارنة.

مع ذلك، فإنّ هذه الأسئلة لا تقلل من قيمة الدراسة، بل تبرزها كمحفّزٍ لمزيد من البحث.

مساهمة الكتاب في الحقل النقدي الأدبي العربي

يمكن تلخيص المساهمة على النحو الآتي:

  • إعطاء اهتمام مركّز للشاعر راشد عيسى، وتضاف إليه قراءة متخصصة لموضوع الأنثى، التي قد تمّ تجاوزها أو التعامل معها سطحياً في دراسات أخرى.
  • توسيع مفهوم الأنثى في الشعر العربي من مجرد حضور تغزلي/وجداني إلى حضور وجودي، لغوي، أسطوري، ما يعزّز فهمنا للشعر المعاصر كفضاء لغوي‑رمزي.
  • الربط بين اللغة، الشعر، والوجود: إذ يجعل الكتاب تجربة الشعر ليست فقط إنتاج نص، بل استكشافاً للغة، للوجود، للمعنى.
  • فتح فضاء للبحوث المستقبلية في الشعر العربي، خاصة في موضوعات الأنثى، الرمزية، الأسطورة، اللغة، والتجربة الشعورية/الوجودية.

الخلاصة

لقد قدّم حسين نشوان في “مثيولوجيا الأنثى في شعر راشد عيسى” قراءة نقدية موسّعة لتجربة الشاعر راشد عيسى، تنطلق من اعتبار الأنثى محوراً شعرياً ميثولوجياً، وبوابة لاستكشاف اللغة، الوجود، والجمال. من خلال محاور الدراسة: الأنثى كرمز ميثولوجي، الشعرية واللغة كمختبر وجودي، الحب/الحياة كأسطورة، والعلاقة بين الأنوثة والذكورة كتداخل شعري وليس صدام، يقدم الكتاب رؤية ثرية تسهم في فهم تجربة الشاعر من منظور جديد.

الدراسة تطرح أن الشعر ليس مجرد نسج عاطفي أو لغوي، بل لعبة وجودية، واكتشاف للجمال في مختبر اللغة، والأنثى هي البوصلة التي يتمّ عبرها هذا الاكتشاف. في الوقت نفسه، يُثري الكتاب الحقل النقدي بعرض لتفاعل الشعر، الأسطورة، والرمزية الأنثوية، ما يجعله مرجعاً مهماً للدارسين والمهتمّين بالشعر العربي المعاصر، وبالأنثى كلغة ورمز.

في النهاية، يمكن القول إنّ القيمة الحقيقية للكتاب تنبع من قدرته على “قراءة” الشعر ليس فقط نصاً، بل كفضاء استكشاف، حيث تتفاعل اللغة، الأنثى، الأسطورة، والحياة في لحظة شعرية خلاقة. وبذلك، يوفّر الكتاب مدخلاً نقدياً وثرياً إلى تجربة راشد عيسى، ويحفّز على مزيد من البحث في العلاقة بين الشعر والأنثى، بين اللغة والوجود، وبين الجسد والرمز.

 

لمعرفة المزيد: الأنثى كميثولوجيا شعرية: قراءة في تجربة راشد عيسى عبر عدسة حسين نشوان

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى