سير

الإمام الحافظ ابن كَثير: نبذة عن أحد كبار المفسرين في الإسلام

هو الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع القيسي، وهو قُرشي النسب وبصرويُّ الأصل وشافعيُّ المذهب، ولد في قرية (مَجْدِل) في مدينة بُصرى بالشام عام 700 هــ وهي نفس موطن والدته مريم بنت فرج بن علي. نشأ ابن كثير في بيت علم، حيث كان أبوه عمر بن كثير من قبله خطيبًا في مجدِل وفقيهًا عالمًا، اشتغل بالعلم عند أخواله في بُصرَى، وتوفي سنة 703 هـ، وعاش إسماعيل بن عمر يتيمًا، وانتقل إلى دمشق عام 707 هــ مع شقيقه عبد الوهاب، ومن هناك بدأ ابن كثير يلتقي بشيوخ كبار يسمع ويتلقى منهم، ومن هنا ابتدأت مسيرته العلمية.

فقهٌ وورعٌ منذُ الصِّغرِ

بدأ ابن كثير الاشتغال بالعلم على يد أخيه عبد الوهاب، وكانت دراسته متجهة نحو علوم الدين واللغة العربية، حيث كانت هذه العلوم رائجة في عصره. وبدأ بحفظ القرآن الكريم وختمه وهو ابن إحدى عشرة سنة، وقد سمع العديد من المأثورات، مثل صحيح مسلم على العسقلاني، وسماعه أيضًا الموطأ وتهذيب الكمال ومختصر ابن حاجِب في الأصول، وغيرها من المأثورات الشهيرة. وقد برع في الحديث والتفسير والتاريخ والفقه والأصول والنحو ودرس الحساب أيضًا، وكان من نعم الله تعالى عليه أنه امتاز بفهمٍ ثاقبٍ وحافظةٍ قويةٍ واطلاعٍ واسعٍ وعلمٍ جمٍّ، شهد له به مشايخه وتلاميذه.

خلافٌ حول العقيدة والانتماء

المشهور حول ابن كثير أنه كان على مذهب عموم السلف في العقيدة، حسب ما جاء في ترجمته في التفسير العظيم، لكن الأشاعرة كان لهم رأي مخالف للسلفية، وقالوا إنه أشعري العقيدة. واستدلوا على ذلك بما وقع بينه وبين ابن القيم في بعض المحافل، حيث قال ابن كثير لابنِ القيم: «أنت تكرهني لأني أشعريٌّ» فرد عليه ابن القيم: «لو كان في رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس أنك أشعري». وحسب المعنى الظاهر فهم يرون أن هذا اعتراف مباشر من ابن كثير أنه أشعريُّ العقيدة، إلا أن السلفية ردوا عليهم بأن المعنى من هذا الكلام لا يفهم منه أنه اعترف بكونه أشعريّاً، بل معناه: «لا أجد سببا يحملك على كراهيتي إلا أن تكون ظننتني أشعريا!»، فجاء الرد من ابن القيم بمعنى قوله: «ومن يظن ذلك بك؟».

شهاداتٌ بالتزكية في حق الإمام الحافظ

كان الإمام الحافظ ابن كثير في عصره من أكثر العلماء ورعاً وإتقاناً للتفسير والحديث والفتوى وغيرها من العلوم، وقد شهد له بذلك العديد من الشخصيات ذات الوزن الثقيل في نفس الميدان، فها هو ابن حبيب الدمشقي يمدحه ويقول: «إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف. وحدَّث وأفاد وطارت فتاويه إلى البلاد، واشتُهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير»، وذكر شيخه الذهبي في تذكرة الحفاظ: «وسمعت مع الفقيه المفتي المحدث ذي الفضائل عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الشافعي… له عناية بالرجال والمتون والتفقه، خرَّج وناظر وصنَّف وفسَّر وتقدَّم».

وقال فيه أبو المحاسن الحسين أحد تلاميذه: «أفْتى ودرس وناظر وبرع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعن النظر في الرجال والعلل»، وقال فيه شهاب الدين بن حجي: «كان أحفظَ من أدركناه لمتون الأحاديث، وأعرفهم بتخريجها ورجالها وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وكان يستحضر كثيرًا في التفسير والتاريخ، قليل النسيان، وكان فقيهًا جيد الفهم، صحيح الذهن يحفظ التنبيه إلى آخر وقت، ويشارك في العربية مشاركة جيدة، وينظم الشعر. وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه، إلا استفدت منه، وقد لازمتُه ست سنين». وقال فيه العلامة ابن ناصر الدين: «الشيخ العلامة الحافظ عماد الدين، ثقة المحدثين وعمدة المؤرخين وعلم المفسرين».

توجهٌ مبنيٌّ على الاجتهاد وترجيح الأدلة

وصف اللاحم ابنَ كثيرٍ في كتابه (منهج ابن كثير في التفسير) بأنه كان يتمتع بشخصية مستقلة ولم يكن من العلماء الأتباع المقلدين، وكان من العلماء المجتهدين الذين ينظرون في الأدلة ويختارون من الأقوال ما ترجحه تلك الأدلة. وهو رحمه الله بعلمه القويم وفقهه المتين، كان يدور مع الدليل حيث كان، وبالرغم من انتمائه إلى المذهب الشافعي إلا أنه لم يكن متعصبًا له ولا لأي مذهب آخر، وبالرغم من أن عدم التعصب هذا قد جعله يعاني ويتعرض للأذى، إلا أنه صبر فيما لَقِيَ وامْتُحِن فيه في سبيل الله.

منهجٌ تفسيريٌّ بين التأسِّي بالمأثور وشرح لغة القرآن

اتبع ابن كثير في تفسيره للآيات القرآنية الكريمة منهجًا معينًا، فلا بد لهذا التفسير الكبير والقويمِ أن يتخذ منهجًا معينًا في تفسير القرآن الكريم، وقد فرق ابن كثير في التفسير بين دعامتين وهما التفسير بالمأثور والتفسير باللغة العربية. فأما التفسير بالمأثور فيُعْنى به كل ما اقْتُديَ به من مناهج تفسيرية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ومَن بعدهم، وأما التفسير باللغة العربية، فقد اعتمد فيها على مجموعة من الجوانب، التي إن دلت على شيء فهي تدل على اهتمام ابن كثير باللغة العربية كونها لغة القرآن. والآن سنقوم بشرح النوع الأول من منهج ابن كثير في التفسير الذي هو التفسير بالمأثور، وسنقوم ببيان أنواعه.

التفسير بالمأثور

إن التفسير بالمأثور يشمل ما جاء من التفسير في كل من القرآن والسنة وأسباب النزول وأقوال الصحابة والتابعين والفقهاء من بعدهم والأخبار التاريخية. ويأتي هذا النوع من التفسير في المكانة الأولى، حيث إنه الطريق الأفضل لتفسير الآيات القرآنية وفهمها فهمًا صحيحًا وخاليًا من أي زيغ أو ضلالة. كيف لا والقرآن والسنة هما مصدراهُ الرئيسيانِ، اللذان لا ينتابهُما ضعف ولا تحريف، وكان هذا النوع من التفسير هو المشهور في عهد الصحابة وتناقلوهُ فيما بينهم وأخذه عنهم التابعون، وحتى إن وجد شيء من الاجتهاد في التفسير فهو قلة لا يخرج عن دائرة هذا المنهج التفسيري. وأنواع التفسير بالمأثور ستة، وهي كالتالي:

_ تفسير القرآن بالقرآن

_ تفسير القرآن بالسنة

_ تفسير القرآن بأسبابِ النزول

_ تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين

_ تفسير القرآن بأقوال المجتهدين والفقهاء

_ تفسير القرآن بالأخبار التاريخية والإسرائيلية

التفسير باللغة العربية

جعل ابن كثير اللغة العربية منهجاَ لتفسير القرآن الكريم بعد التفسير بالمأثور، نظرًا لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين، وقد بين في البداية أهمية اللغة العربية في تفسير القرآن الكريم، وقد أبرز كذلك مظاهر هذه الأهمية. كما اتبع في هذا الجانب كذلك منهجًا خاصًا، راعى فيه مجموعة من الشروط التي تعكس الاهتمام الشديد لابن كثير باللغة العربية. ففي البداية سنتحدث عن أهمية اللغة العربية في التفسير، وسنبرز مظاهر هذه الأهمية حسب ما جاء في كتاب (منهج ابن كثير في التفسير)، وقد أبرز ابن كثير مظاهر أهمية اللغة العربية في رجوع الصحابة رضي الله عنهم في التفسير إلى لغة العرب شعراً ونثراً، وكذا كون غالب العلوم التي يحتاج إليها المفسر ترجع إلى اللغة العربية وعلومها.

أما بالنسبة للجوانب التي راعاها ابن كثير في تفسير القرآن الكريم باللغة العربية فهي تتمثل في 3 جوانب رئيسية وهي رجوعه إلى اللغة العربية واحتكامهُ إليها، ثم تفسير المفردات القرآنية والمعاني الإجمالية للآيات على مقتضى اللغة العربية، ثم الاهتمام بشتى جوانب اللغة العربية الأخرى من نحوٍ واشتقاقٍ وتصريفٍ وبلاغةٍ ونحو كذلك.

أضحى تفسير ابن كثير ذا مكانةٍ مرموقةٍ وعاليةٍ لدى المسلمين في ميدان تفسير القرآن الكريم، فصارَ مرجعاً أوليًّا في مختلف الجامعات الإسلامية في شتى الأقطار الإسلامية. وهذا لما امتاز به من إيجاز وإيضاح للمَعاني القرآنية على أحسن وجه، حيث يجد فيه الدارس بغيته، ويجد فيه التفسير المثالي ذا الأسلوب المتميز والميَسَّر. وقد ظهرت أهمية هذا التفسير أكثر فأكثر بعد بدء العلماء بتحقيقهِ وطباعتهِ ونشرهِ، وهناك عدد كبير من الشخصيات التي أخذت على عاتقها هذه المهمة، فمنهم الأساتذة، أمثال (محمد إبراهيم البناء) و(محمد أحمد عاشور) و(عبد العزيز غنيم)، ومنهم الشيوخ، مثل (محمد علي الصابوني)، و(محمد نسيب الرفاعي)، و(محمد كريم راجح)، وغيرهم.

المصدر: موقع تبيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى