الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" لمحمد محمد حسين: مرآة أدبية لتاريخ مصر الحديث

في منعطفات التاريخ الحيّة، يبرز مفكرون ونقادٌ لا تقتصر أدوارهم على التحليل والتفسير، بل تتعداهما إلى رسم خارطةٍ فكريةٍ تُلهم الأجيال وتُوقظ الوعي في زمن الارتباك. كان الدكتور محمد محمد حسين واحدًا من هؤلاء، وأحد أبرز الأسماء التي تصدّت، بعين ناقدة وذهن تحليلي، للمتغيرات العميقة التي طرأت على الثقافة العربية في النصف الأول من القرن العشرين. وُلد من رحم التحولات وكتب بقلمٍ مشبع بالقلق القومي والحس الإسلامي، فكان كتابه الأشهر “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر” أكثر من عمل نقدي؛ كان بيانًا فكريًا حادًا في زمنٍ مضطرب.
خلفية فكرية: لماذا هذا الكتاب؟
عاش الدكتور محمد محمد حسين عصرًا متخمًا بالأسئلة، مضطربًا بين هوياتٍ تتنازع روح الأمة، بين التيار الإسلامي المحافظ والتيارات التغريبية المختلفة، بين الولاء الوطني والانبهار بالغرب، وبين التمسك بالتراث وادعاءات الحداثة. وفي خضم هذه التفاعلات، لم يكن الأدب العربي المعاصر معزولًا، بل كان المرآة التي عكست تلك الصراعات بوضوح.
ولهذا السبب لم يكن كتاب “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر” مجرد دراسة تحليلية للتيارات الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين، بل كان رحلة فكرية متكاملة حاول فيها المؤلف استكشاف علاقة الأدب بالهوية، ورصد التأثيرات الثقافية والسياسية التي شكلت أدب تلك المرحلة.
البنية العامة للكتاب
يتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء رئيسية، عالج في كل جزء منها مرحلة محددة من تطور الأدب العربي الحديث في مصر، بوصفها المركز الثقافي العربي الأبرز آنذاك. يبدأ من نهاية القرن التاسع عشر وحتى ثورة 1919، ثم من الثورة حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى منتصف القرن العشرين. ويعتمد في تحليله على تتبع التغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية، وتأثيرها على الأدب الوطني، من حيث الموضوعات والأساليب والانتماءات الأيديولوجية.
لكن اللافت في عمل الدكتور محمد محمد حسين أنه لم يكن حياديًا بالمعنى الأكاديمي الجاف، بل جاء محمّلًا برؤية فكرية نقدية صريحة تنحاز إلى الهوية العربية الإسلامية، وترى في محاولات التغريب انفصالًا عن الروح الأصيلة للأمة.
الأدب كمرآة للنهضة… أم مأزقها؟
منذ بداية الكتاب، يظهر التوتر بين الدعوة إلى “النهضة” ومحاولة استيراد نماذج ثقافية غربية. فالمؤلف يرى أن كثيرًا من الأدباء والمثقفين – رغم إخلاصهم لقضية التحرر – وقعوا في فخ الانبهار بالغرب، فراحوا يقلدون مناهجه دون أن يدركوا جوهره. ويبرز هنا رأي محمد محمد حسين أن النهضة يجب ألا تكون نُسخة مكررة من النموذج الأوروبي، بل ينبغي أن تنبع من الذات الثقافية العربية الإسلامية.
ويتجلى هذا التوجه في تحليله لأعمال رواد النهضة الأدبية كطه حسين، والعقاد، والمازني، وهي أسماء شكلت عقل النخبة المصرية حينذاك. ينتقد المؤلف بعض هذه الاتجاهات باعتبارها مفرطة في التغريب، ويستعرض كيف تسللت المفاهيم الغربية إلى الشعر والرواية والمقالة، سواء في اللغة أو الموضوعات أو أنماط التعبير.
ثنائية الوطنية والتغريب
واحدة من الثنائيات المركزية في الكتاب هي ثنائية “الوطنية مقابل التغريب”. يرى المؤلف أن الأدب الوطني الحقيقي يجب أن يكون معبرًا عن قضايا الأمة، نابضًا بلغتها، متجذرًا في تراثها، لا مجرد ترجمة للأفكار الغربية في سياقات عربية.
ومن الأمثلة اللافتة التي يناقشها الكتاب، كيف تحوّل مفهوم “الحرية” من قيمة إسلامية أصيلة إلى شعار غربي المضمون، يستدعي معه تصورات فلسفية دخيلة لا تنسجم مع القيم المحلية. وكذلك كيف تم استبدال “العدالة الاجتماعية” بمفاهيم الماركسية دون مساءلة، مما أدى إلى ظهور كتابات تنتمي شكليًا إلى الوطنية، لكنها تغذّي الانفصال عن الهوية الحضارية.
لقد كانت الأقلام التي تكتب باسم الوطن، في أحيان كثيرة، تكتب بروح لا تشبهه.
هكذا يلخص محمد محمد حسين رؤيته النقدية لتلك المرحلة.
الأدب والدين: وحدة مفقودة
من أكثر الفصول إثارة في الكتاب، ما يتعلق بالعلاقة بين الأدب والدين. في رأي المؤلف، فإن الدين – وبخاصة الإسلام – لم يكن مجرد موضوع للأدب، بل كان الروح التي نفخَت الحياة في اللغة العربية نفسها. ولذلك فإن استبعاد الدين من الأدب، أو التعامل معه بوصفه عبئًا تقليديًا، كان في نظره من مظاهر “الانقطاع الحضاري”.
يرى حسين أن الأدب العربي في مراحله الحديثة فقد الروح الدينية التي كانت تميّزه، وأن محاولة فصله عن الإيمان كانت محاولة لفصل اللغة عن معناها. ولذلك فهو ينتقد بشدة الكتابات التي تتبنى النزعة العلمانية، أو تلك التي تستلهم الأساطير الغربية، معتبرًا أن ذلك جاء على حساب التقاليد الأدبية العريقة.
المثقف المأزوم: بين الهوية والانتماء
يشير الكتاب إلى مأزق المثقف العربي المعاصر، الذي أصبح ممزقًا بين مرجعيات متعددة، عاجزًا عن التوفيق بين انتمائه الحضاري ورغباته الحداثية. ويرى حسين أن هذا التمزق انعكس في الخطاب الأدبي، فتارة يأخذ طابعًا ثوريًا ماركسيًا، وتارة قوميًا، وتارة وجوديًا عبثيًا، دون أن يستقر على مرجعية فكرية واضحة.
هذا القلق، في نظر المؤلف، ليس قلقًا إبداعيًا إيجابيًا، بل هو علامة على الانفصام الثقافي، وسبب في تراجع اللغة العربية عن وظيفتها التعبيرية الأصلية. ويتساءل في أكثر من موضع: كيف يمكن لأدبٍ أن يكون وطنيًا، وهو يتحدث بلغة الآخر، ويفكر بعقله، ويُحاكي آماله؟
التعليم والثقافة… أدوات الغزو الفكري
لم يكتفِ الكتاب بتحليل النصوص الأدبية فحسب، بل تطرق إلى المؤسسات الثقافية والتعليمية بوصفها حواضن للتغيير. واعتبر أن الغزو الثقافي الحقيقي بدأ من المدرسة والجامعة، حين تم نقل مناهج كاملة من الغرب إلى بيئة مختلفة تمامًا دون تكييف حقيقي.
ويشير إلى أن كثيرًا من المناهج الدراسية التي اعتمدت في مصر بداية من القرن العشرين تم نقلها من النماذج الفرنسية والبريطانية، مع تغييبٍ متعمد للثقافة الإسلامية والتاريخ العربي. وهكذا، تربى جيلٌ من الأدباء والمثقفين على ثقافة “الآخر”، ولم يعد يرى في تراثه سوى ظلالًا من الماضي.
تحذير مبكر: اغتراب الأمة عن ذاتها
ربما يكون الإنجاز الأكبر للكتاب أنه تنبأ مبكرًا بحالة “الاغتراب الثقافي” التي عاشها العالم العربي لاحقًا. فمحمد محمد حسين رأى، قبل غيره، كيف يمكن أن يتحول الأدب من وسيلة تعبير عن الذات إلى وسيلة تنكّر لها. وكان يرى أن فقدان اللغة لحرارتها الإيمانية والأخلاقية هو أول الطريق إلى فقدان المعنى.
في هذا السياق، لم يكن الكاتب يعارض الحداثة في ذاتها، بل في كونها جاءت على حساب الأصالة. ولذلك دعا إلى حداثة من داخل الثقافة العربية، لا مفروضة عليها من الخارج، حداثة تعيد للأدب دوره الرسالي، وتعيد للمثقف مكانته الطبيعية في خدمة المجتمع.
خلاصة فكرية: موقف لا مساومة فيه
لم يكن محمد محمد حسين كاتبًا انتقائيًا، ولا ناقدًا حياديًا. كان صاحب موقف، يكتب بقوة اليقين الذي لا يهادن، ويكشف عن مواطن الضعف في المشهد الثقافي دون تردد. ولذلك فإن كتابه “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر” كان وما يزال مرجعًا صادمًا، لكنه ضروري لفهم اللحظة الثقافية التي نحياها.
لقد كانت رسالته واضحة: لا يمكن لأمة أن تُبدع في الأدب والفكر، وهي لا تعرف من تكون، ولا إلى أين تمضي.
خاتمة: كتاب فوق العادة
ليس “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر” مجرد دراسة أدبية، بل شهادة على مرحلة مفصلية من تاريخ العرب المعاصر. شهادة كُتبت بصدق، وحرص، ووعيٍ شديد بعمق الأزمة. وهو كتاب لا يُقرأ فقط لفهم الأدب، بل لفهم الأمة، وهويتها، وتاريخها، ومستقبلها.
إنه كتاب يُذكّرنا دائمًا بأن الأدب ليس زينة ثقافية، بل هو ضمير الأمة، وإذا خفتَ صوته، فإنها تُخفت صوتها في العالم.