الذات المنقسمة: قراءة وجودية في العقل والجنون عند ر. د. لانج

مُقدمة
كتاب الذات المنقسمة: دراسة وجودية في العقل والجنون (The Divided Self: An Existential Study in Sanity and Madness) من تأليف الطبيب النفسي والفيلسوف الاسكتلندي رونالد ديفيد لانج (R. D. Laing). صدر الكتاب أولًا باللغة الإنجليزية عام 1960، ويُعد أحد أهمّ كتب الطب النفسي المعاصرة، لكونه يُشكِّل نقطة تحول في فهم “الجنون” والعقل والذات، خاصة ضمن المنظور الوجودي (Existentialism). وقد تُرجم إلى العربية تحت عنوان “الذات المنقسمة: دراسة وجودية في العقل والجنون” أو أحيانًا “العقل والدين” حسب الترجمة أو التصنيف المحلي.
في النسخ العربية، يظهر أن الناشر “آفاق للنشر والتوزيع”، وربما تم نشرها مؤخرًا (2022 حسب ما ذكرت) ضمن سلسلة كتب عامة. (مع ملاحظة: النسخة الأصلية تعود لعام 1960).
الهدف من هذا المقال هو تقديم تحليل وجودي عميق لهذا الكتاب، مقاربته الفكرية، ما يقصده لانج بـ “الذات المنقسمة”، كيف يتداخل ذلك مع مفاهيم العقل، الصحة النفسية، الجنون، وأيضًا الصلة المحتملة بالدين إن وجدت، إلى جانب النقد والتقييم، وأهمية الكتاب اليوم.
خلفيّة المؤلف والمنهُج
ر. د. لانج – نبذة موجزة
- وُلد لانج في جلاسغو عام 1927، وتخرّج في كلية الطب بجامعة جلاسغو.
- اشتُهر بكونه طبيبًا نفسيًا لكنه متمرّد على النظريات التقليدية في الطب النفسي، ولا سيّما النموذج البيولوجي أو الطبي الساذج الذي يرى المرض النفسي كخلل عضوي فقط، دون اعتبار للتجربة الذاتية، السياق الاجتماعي، وحتى ما يسميه “الوجودي”.
- كتاب الذات المنقسمة هو أول كتبه الكبرى، وقد لاقى صدى كبيرًا، مثيرًا جدلاً قويًا، خصوصًا لأنه يطرح أسئلة عن “ما نعنيه بالعقل” و “ما نعتبره صحة ومرضًا نفسيًا”.
المنهج الفلسفي والوجودي
لانج لا يتبع منهجًا طبيًا صرفًا؛ بل يمزج بين:
- الوجودية: تأثر بالفلاسفة الوجوديين – مثل سارتر، مرلو‐بونتي، هيجل إلى حد ما، ياكوبسن في التحليل اللساني … – خصوصًا في التركيز على تجربة الذات، الشعور بالوحدة، الفصل بين الفرد والآخر، أزمة الهوية، الشعور بالغربة، الفردانية، القلق الوجودي.
- التحليل النفسي التجريبي، ولكن مع نقد للتوجهات التقليدية التي ترى في الجنون انحرافًا فسيولوجيًا أو طبيًا بحتًا.
- العلاقة بين الشخص المحترَف (المّمَرِض أو المريض) والمجتمع: كيف يُنظَر إلى مريض النفس، كيف تُنفى خبراته الذاتية، وكيف يُجبر على التكيّف مع واقع خارجي غالبًا ما لا يستمع إلى “صوت الذات” الحقيقي.
محاور الكتاب ومضمونه
فيما يلي أهم المحاور التي يتناولها لانج في “الذات المنقسمة”:
- تعريف الذات المنقسمة
الذات المنقسمة هي حالة يكون فيها الفرد مقسومًا داخليًا بين:- ذات “حقيقية” تعيش تجربة واقعية، تُدرك وتُعبر عن مشاعرها، رؤاها، خوفها، قلَقها، أوجاعها، رغباتها، ذاتًا تعيش في الزمن الحقيقي والوجود الحقيقي.
- ذات “زائفة” أو “مُختلقة”، وهي التي تُجبرها البيئة، المجتمع، التوقعات الاجتماعية، الأعراف، الضغوط النفسية، الطبيب النفسي أحيانًا، على التظاهر، على الالتزام بقوالب سلوكية، إخفاء الألم، انكار التجربة الحقيقية، أو التقليل منها.
هذا الانقسام ليس فقط بين “عاقل” و “مجنون” بمعناهما التقليدي، بل داخل الذات الواحدة، حتى لدى من يُعتبرون أناسًا “طبيعيين”.
- العقل والجنون في منظور جديد
- الجنون ليس ببساطة مرضًا يُعالج دوائيًا، أو خللًا بيولوجيًا فقط، بل تجربة وجودية يجب فهمها من الداخل، من منظور من يعيشها.
- العقل الصحي (Sanity) لا يعني غياب التوتر، أو الألم، أو الصراع الداخلي، بل قدرة فرد على أن يكون موثوقًا بالذات الحقيقية، أن يُقيم علاقة ذاتية صادقة مع العالم والآخر.
- كثير من “العقلاء” يعيشون نوعًا من الجنون الخفي، بمعنى أنهم مرغمون على التنازل عن أجزاء من ذاتهم، على الهوان أو الكذب أو القبول بأدوار لا تناسبهم.
- التجربة الذاتية والوضع الاجتماعي
- كيف تشكّل الثقافة، الأسرة، المرض النفسي، الطب النفسي، المؤسسات النفسية معنى الجنون.
- كيف يُنفي المجتمع، أو يهمش، أو يخنق التجربة الذاتية لمن يُعتبرون مختلفين نفسياً.
- العلاقة بين اللغة، التفاعل مع الآخر، والعزلة – كيف أن الفرد قد لا يجد لغة أو إطارًا يعبر فيه عن معاناته، مما يؤدي إلى شعور عميق بالوحدة، العزلة، الخلاف بين ما يختبره وبين ما يظهره.
- المظاهر الإكلينيكية
- يستخدم لانج حالات سريرية معينة، بما فيها حالات الفصام (schizophrenia)، ليبيّن كيف أن التشوُّش في الوعي، التجربة الذاتية، اللغة، الشعور بالآخر، كلها مرتبطة بهذا الانقسام الذاتي.
- كيف أن مريض الفصام ليس “أقل عقلًا” بمعنى غياب قدرات عقلانية فقط، إنما لديه تجربة للعالم تختلف جذريًا، فيها انقطاع أو انفصال بين الذات الحقيقية والمظاهر السطحية أو المتوقعة من المجتمع.
- اللغة والذات
- كيف تلعب اللغة دورًا مزدوجًا: هي وسيلة للتعبير عن الذات، لكنها أيضًا قد تتحوّل إلى أداة ضغط، إلى وسيلة للتنكّر أو التظاهر.
- الشخص المنقسم يشعر بأن اللغة التي يستخدمها لا تعبّر بالكامل عما هو داخله، أو أنه مجبور على استعمال لغة تتماشى مع توقعات الآخرين، حتى لو كانت مقززة أو مضللة.
- علاقة الكتاب بالعقل والدين (إنسة وتصنيفك له، “العقل والدين”)
- ربما بعض الترجمات العربيّة تُدرج “الدين” في العنوان أو التصنيف، لكن في النسخة الأصلية لا يبدو أن الدين هو المحور الرئيسي، إنما الكلام يدور حول العقل، الجنون، الذات، التجربة الإنسانية، مع إشارات ممكنة إلى الغيب، الوجود، الروح، ولكن ليس من منطلق ديني تقليدي.
- هناك تأملات وجودية تتماسّ مع الأسئلة الدينية الكبرى: ما هو الإنسان، ما معنى الواقعي والزعيم، ما هي الحقيقة، كيف نعيش بأصالة، كيف نواجه الألم والخوف والموت، ومفهوم الخلاص أو التحرر الذاتي. هذه عناصر تشاركها الفلسفة، الوجودية، والتجربة الدينية أحيانًا.
- الأصالة (Authenticity)
- واحدة من الأفكار الجوهرية: أن يعيش الفرد أصيلًا، أي أن يكون متّصلاً بذاته الحقيقية، أن لا يكون عبئًا لواجهة اجتماعية فقط.
- الأصالة لا تعني الكمال، إنما الصدق مع الذات، مع التجربة الداخلية، مواجهة القلق، مواجهة الفراغ، القدرة على الاختيار رغم الضغوط.
نقاط القوة والإسهامات
- إعادة تعريف الجنون والعقل من الداخل
يُمكِّن الكتاب القارئ من النظر إلى الجنون ليس كمجرد حالة طبية يجب تشخيصها وعلاجها، بل كتجربة إنسانية، وجودية، ذاتية، لها معنى، وهي جزء من التجربة الإنسانية للأشخاص. - التحدّي للنماذج التقليدية
يُشكّك لانج في الافتراضات السائدة في الطب النفسي: أن العقلاء هم دائمًا السليمون، وأن المرضى هم غير السليمين فقط. يبيّن أن الانقسام بين “صحي” و “مريض” ليس دائمًا واضحًا. هناك مساحات رمادية، وكذلك موازٍ ذهني حتى لدى ما يُعتبرون “أشخاصًا طبيعيين”. - ربط الفرد بالمجتمع والثقافة
لانج لا يرى الذات مفصولة عن سياقها؛ يُركّز على كيف تؤثّر العائلة، اللغة، الأدوار الاجتماعية، التوقعات المجتمعية، المؤسسات النفسية، في بناء الذات أو شقّها. هذه النظرة تجعل الكتاب ذا قيمة ليس فقط للطب النفسي، بل للفلسفة، علم الاجتماع، الدراسات الثقافية. - اللغة، التعبير، والفن كمدخل للفهم
الكتاب يُقدّم تحليلًا لكيف أن اللغة يمكن أن تكبت وصون الذات، كيف أن معجم التعبير الشخصي يُهمّ. كما أنه يُحفّز التفكير في طرق بديلة للتعبير عن الذات، سواء من خلال الفن أو الكتابة أو التأمل. - الأصالة والتجربة الذاتية
اليد العليا في الكتاب هي فكرة أن الفرد لا بد أن يسعى إلى أن يكون أكثر أصالة، أن يكون صادقًا مع ما يشعر به وليس فقط مع ما يُفترض أن يشعر به، وأن يُواجه الانقسام الداخلي.
نقاط النقد والتساؤلات
لا يخلو الكتاب من نقاط يمكن أن تُنتقد أو تُساءل:
- التركيز على الحالات القصوى
كثير من الأمثلة التي يستخدمها لانج مركزة حول الفصام، المرض النفسي الشديد والانفصال الصارخ في الوعي أو الخبرة الذاتية. هذا يجعل بعض الفرضيات العامة أقل صلة بحالات متوسطة من الاضطراب النفسي أو الضغوط اليومية الحياتية التي يعيشها الناس “العاديون”. - المصطلحات غير الدقيقة أحيانًا
الانقسام، الذات الحقيقية، الذات الزائفة – هذه مفاهيم قوية، لكن قليلة هي التعاريف الدقيقة جدًّا، مما يترك مساحة كبيرة للتأويل. القارئ قد يختلف حول ما يعنيه “مظهر زائف” أو “مظهر حقيقي” في سياقات متنوعة. - التحدي العملي العلاجي
إذا كان الجنون والتجربة النفسية تُفهم بهذا الشكل، فكيف يُمارَس العلاج النفسي؟ هل يقتصر على الحوار والتعبير، أم أن الأدوية والعلاج البيولوجي يتحول دوره؟ كثير من الانتقادات في الأوساط النفسية ترى أن لانج يستهين أو يقلل من دور العلاج البيولوجي أو العقاقير في حالات ضرورية. - إشكالية الموضوعية
لانج يشدّد على الخبرة الذاتية، ولكن كيف يمكن التأكد أو تقييم هذه الخبرة؟ كيف يربطها الباحث أو المعالج النفسي بما يمكن ملاحظته موضوعيًّا؟ هناك خطر في أن تُصبح التحليلات موضوعًا لتفسيرات ذاتية لا يمكن مراقبتها أو قياسها. - قلة التركيز على العوامل البيولوجية
لا ينكر لانج وجود العوامل البيولوجية، لكن كتابه يميل أكثر إلى التركيز على التجربة النفسية، اللغة، الاختيار، السياق الاجتماعي، مما قد يجعله أقل توازناً في نظر بعض العلماء الذين يرون أن التفاعل بين البيولوجي والنفسي والاجتماعي لا بد أن يكون أكثر تحديدًا. - الإشكالية مع الدين – إن كان الموضوع مُدمَجًا
إذا ضُمن “الدين” ضمن العنوان أو التصنيف، فقد يُنتقد أن لانج لا يُعالج الدين بمعناه العقائدي، الطقوسي، أو المؤسساتي كثيرًا، بل أكثر كأفق وجودي أو كمسألة تجربة، معنى، بحث عن الحقيقة. من هذا المنظور، من الممكن أن المؤمنين يرغبون في تركيبة تربط بين التجربة الدينية والتجربة النفسية، وقد لا يجدون في الكتاب إجابات كافية لمسائل مثل: ما هو الله، كيف يتدخل الإيمان في الشفاء النفسي، أو كيف يُعالج الدين الفصام من وجهة نظر دينية.
أهمية الكتاب في السياق المعاصر
- في ظل ازدياد الاهتمام بالصحة النفسية، الوعي الذاتي، والضغط الاجتماعي، فإن فكرة الذات المنقسمة تكتسب صدى كبيرًا بين الناس العاديين، ليس فقط بين المرضى النفسيين. الكثير يعيش انقسامات في الهوية – المهنية، الشخصية، العاطفية، الاجتماعية – نتيجة توقعات المجتمع، العمل، وسائل التواصل الاجتماعي، الهوية الرقمية وغير الرقمية.
- يسهم الكتاب في تحفيز الحوار بين الفلسفة، الدين، الطب النفسي، الثقافة، النفس الإنسانية؛ كيف نعيش “بصدق مع الذات”، وكيف نفهم الألم النفسي، كيف نستجيب له، ليس فقط بعقاقير، بل بمعنى، بتجربة، بالاستماع، بالعلاج النفسي الذي يأخذ الذات الحقيقية مأخذ الجد.
- أيضًا يُعدّ مرجعًا لمن يريد فهم تاريخ النقد للطب النفسي التقليدي. لانج يُعتبر من الأطباء النفسيين “الانتقائيين” أو “المناهضين” (anti-psychiatry) إلى حد ما، أو على الأقل ممن يقدّم منظورًا مغايرًا، يُشجّع إعادة النظر في المعايير، في ما يُعدّ “طبيعيًا” أو “مجنونًا”.
- في المجال العربي، ترجمات مثل هذه مهمّة للغاية لأنها تتيح للقارئ العربي فهم التيارات المعرفية العالمية في فهم الذات، الجنون، العقل، النفس، ومن ثم المقارنة مع التجربة والممارسة في المجتمعات العربية، التي غالبًا ما تختلط فيها المفاهيم النفسية بالدينية والثقافية.
المقارنات الفكرية
من المفيد أن نضع لانج وموقفه في مقارنة مع مفكرين آخرين:
- إريك فروم: الذي كتب عن الهرب من الحرية، عن الفرد والطغيان الاجتماعي، عن كيف ينساق الفرد إلى مقاييس اجتماعية تُبعده عن الذات الحقيقية. هناك خيوط تشابهية في التركيز على الفرد، على الأصالة، على الضغوط الخارجية.
- فرويد: لانج لا ينكر دور اللاوعي، الصراعات النفسية، لكن يختلف معه في أن فرويد (وكثير من التحليلات النفسية التقليدية) يفترض أن الكثير من الانقسامات النفسية يمكن تفسيرها من خلال بنى داخلية (هو، أنا، فوق-أنا)، والصدمات، البواعث الجنسية وغيرها. لانج يركّز أكثر على اللغة، الكلام، التفاعل الاجتماعي، كيف يُعزل الفرد عن لفظ تجربته، أو كيف يُخنقها الزيف الاجتماعي.
- فلاسفة الوجود مثل سارتر، كامو، ميرلو-بونتي: التركيز على الخبرة الحيّة، على الجسد، على الحالة المعيشة، على التوتر والقلق الوجودي، على سوء العلاقة مع الآخر – كل هذا موجود في نهج لانج.
- في الدين: مفكرون مثل بول تيليخ، كيركغور، هم من تحدثوا عن الفرد المنفصل، القلق، العدمية، الحاجة إلى أصالة، إلى علاقة حقيقية مع المطلق، مع الله، مع ما يفوق الذات. وإن لم يتناول لانج الدين بطريقة طقسية أو عقائدية مباشرة، فإن الأسئلة التي يثيرها تتقارَب مع هذه الأسئلة الدينية أو الروحية.
الهيكل الداخلي للكتاب (بعض الفصول والمقاطع)
في النسخة العربية أو المترجمة، الكتاب يحتوي حوالي 300 صفحة تقريبًا. يتوزع بين أقسام متعددة تستعرض:
- وصف تجربة الشخص المنقسم، مع أمثلة سريرية
- تحليل كيف يعيش “المريض” تجربة الانقسام بين الذات الحقيقية والمتطرّبة من الخارج
- مناقشة ما يعنيه أن تكون عاقلًا، وكيف يُحدّد المجتمع والطب النفسي من هو “عاقل” ومن هو “معتل”
- استكشاف اللغة، المفاهيم، الفعل، الاختيار، الحضور، العلاقة بالآخر
- ربما فصل أو مقاطع تناقش كيف يمكن للفرد أن يستعيد أصالته، ويحقق تكامله الذاتي، بالرغم من الضغوط.
الربط بين العقل والدين
بالرغم من أن العنوان الذي لديك “العقل والدين” قد يشير إلى أن النسخة تُصنّف الكتاب ضمن كتب تتناول العلاقة العقلية‐الدينية، لكن الكتاب الأصل لا يجعل الدين محورًا أساسيًا بنفس القدر الذي يجعل “الجنون” و “العقل” و “الذات” محاور مركزية. مع ذلك، توجد نقاط تقاطع:
- التساؤل عن المعنى
الدين غالبًا ما يُقدّم إجابات عن معنى الحياة، المعاناة، اللقاء مع المختفي، الأبدية، والموت. لانج يتطرّق ضمنيًا لهذه الأسئلة: كيف يختبر الفرد المعاناة، كيف يهرب أو يواجه الخوف، كيف يدور الحديث عن “الحقيقة”، “الشيء الحقيقي” مقابل المظاهر الزائفة. هذه كلها مواضيع تُشبه تلك التي تطرحها الأديان. - البحث عن الأصالة
الدين غالبًا يدعو إلى الصدق، إلى القلب، إلى الرُقي بالأخلاق، إلى علاقة حقيقية مع الله أو المطلق، وهو ما يمكن أن يُقارن مع دعوة لانج إلى الصدق مع الذات، إلى أن يكون الفرد “عاقلًا” بمعنى أن يكون موحّدًا داخليًا لا منقسمًا. - الأزمة الوجودية والفراغ
الكثير من الناس الذين يشعرون بانقسام داخلي قد يلجأون إلى الدين كملجأ، سواء باعتبار الممارسات الدينية طقوسًا متنفسة أو باعتبار الإيمان مصدر أمل وتكامل. في هذا السياق، الكتاب يمكن أن يُستخدم لتفسير لماذا بعض الممارسات الدينية تُعطي راحة نفسية، لأنها قد تسهم في تعبئة الذات الحقيقية، أو التواصل مع جزء منها الذي ضُغط أو نُسِيَ. - الدين كأداة ضغط أو إخفاء للذات
من جهة أخرى، الدين التقليدي، إذا استُخدم بطريقة قسرية أو بشكل اجتماعي مظهري، قد يُصبح جزءًا من الانقسام، إذا كان الإنسان يشعر بأنه يجب أن يؤمن أو يُظهر إيمانًا معيّنًا لترضى به البيئة أو المجتمع، بينما ما يشعر به داخلياً مختلف. فالتمثيل الديني الزائف أو المظهر الديني يمكن أن يكون “ذاتًا زائفة” كما يصفها لانج.
تقييم شخصي
من وجهة نظري، الكتاب ذو قيمة عالية لمن:
- يريد أن يفهم نفسه أو تجاربه النفسية من منظور أعمق، لا يكتفي بالتشخيص الطبي أو النفسي، بل بالتجربة الحية، بالتفاعل، بالمعنى.
- الذين يعملون في الصحة النفسية، العلاج النفسي، أو في الفلسفة أو اللاهوت، حيث إن فهم الذات المنقسمة يتيح قراءة تراحمية أكثر لمن يُعانون.
- أي قارئ يبحث عن الحرية الداخلية، الأصالة، كيف يعيش بصراحة مع الذات والآخرين.
وضمن التحفظات: أن القارئ لا ينبغي أن يترك لأنماط العلاج العلمية، الأدوية، الدعامة الاجتماعية جانبًا إذا كانت الحاجة قائمة، فبينما الرؤية الوجودية تُكمّل الفهم، لا بد أن يكون هناك تكامل بين المنظور النفسي، الاجتماعي، البيولوجي، وربما الديني.
الخاتمة
كتاب الذات المنقسمة لر. د. لانج هو عمل مفصلي في تاريخ التفكير النفسي والفلسفي المعاصر. إنه ليس مجرد دراسة “مرضية” عن الجنون، بل استكشاف للذات، للوجود، للصراع بين ما نشعر به وما يُتوقع منا أن نكونه. يُعلّمنا أن “العقل السوي” ليس حالة ثابتة بمعزل عن التجربة والاختيار، وأن “الجنون” ليس دائمًا ما نتصوّره، بل قد يكون تشويشًا في العلاقة مع الذات، مع الآخر، مع اللغة، مع الحقيقة.
لمعرفة المزيد: الذات المنقسمة: قراءة وجودية في العقل والجنون عند ر. د. لانج