سير

 السيرة الذاتية للعالم فالتر نرنست: رحلة من الطفولة إلى المجد العلمي

المقدمة: جذب الانتباه

حين نتحدث عن الكيمياء الفيزيائية في مطلع القرن العشرين، يسطع اسم فالتر نرنست (Walter Nernst) كأحد أبرز الرواد الذين غيّروا مسار العلم. فقد كان نرنست ليس مجرد كيميائي تقليدي، بل عالمًا ثوريًا مزج بين الفيزياء والكيمياء ليؤسس علمًا قائمًا بذاته. ويكفي أن نذكر أنّ “معادلة نرنست” التي وضعها، أصبحت حجر الأساس لفهم التفاعلات الكهروكيميائية والعمليات الحيوية في أجسامنا. لقد حاز جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1920، لكن إنجازاته تجاوزت حدود الجوائز لتترك بصمة خالدة في التاريخ العلمي.

النشأة والتكوين

وُلد فالتر هرمان نرنست في 25 يونيو 1864 بمدينة بروغ (Briesen) في بروسيا، والتي تقع اليوم ضمن حدود بولندا. نشأ في أسرة متوسطة الحال؛ كان والده موظفًا حكوميًا، بينما اهتمت والدته بتربيته وتعليمه القيم الأساسية.

منذ طفولته، أبدى نرنست فضولًا عجيبًا نحو الطبيعة. كان يقضي ساعات طويلة يتأمل النار والماء والرياح، محاولًا تفسير ما يراه بعين الباحث لا بعين الطفل العادي. وقد حكى لاحقًا أنه كان “يرى في كل ظاهرة لغزًا يستحق الحل”، وهذه الروح الاستفهامية شكلت ملامح شخصيته العلمية.

التعليم وبداية التكوين المهني

بدأ نرنست تعليمه المدرسي في مدينته، ثم انتقل إلى الجامعات الألمانية الشهيرة، حيث درس أولًا في جامعة زيورخ، ثم في جامعة برلين، وأخيرًا في جامعة فورتسبورغ، حيث تتلمذ على يد العالم الكبير فيلهلم أوستفالد (الحاصل لاحقًا على جائزة نوبل).

خلال سنوات دراسته، انجذب نرنست إلى الكيمياء الفيزيائية، وهو فرع ناشئ آنذاك، يجمع بين قوانين الفيزياء الصارمة ومرونة الكيمياء التطبيقية. وقد كان شغفه منصبًا على فهم كيف تتحكم القوانين الرياضية في سير التفاعلات الكيميائية.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

مع نهاية دراسته، بدأ نرنست مسيرته الأكاديمية معيدًا في الجامعات الألمانية. لم يكن الطريق سهلًا، فقد واجه تحديات عديدة؛ أبرزها أن الكيمياء الفيزيائية لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي بين العلماء التقليديين. لكن إصراره على إثبات أهمية هذا المجال جعله يتخطى الصعاب.

جدول زمني مبسط:

  • 1887: حصل على الدكتوراه في الكيمياء.
  • 1889: عمل أستاذًا مساعدًا في جامعة غوتنغن.
  • 1891: أسس معمل الكيمياء الفيزيائية في غوتنغن.
  • 1905: عُيّن أستاذًا بجامعة برلين.

في جامعة غوتنغن، كان له الدور الأكبر في تحويلها إلى مركز عالمي للكيمياء الفيزيائية، حيث اجتذب طلابًا من مختلف أنحاء أوروبا.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

1. معادلة نرنست

أشهر إنجازاته هو معادلة نرنست، التي تصف العلاقة بين الجهد الكهربائي وتركيز الأيونات. هذه المعادلة لم تكن مجرد صيغة رياضية، بل أصبحت الأساس لفهم عمل البطاريات، والخلية العصبية في جسم الإنسان، وحتى التفاعلات الحيوية.

2. القانون الثالث للديناميكا الحرارية

كان نرنست أول من وضع الأسس لما يُعرف لاحقًا بـ”القانون الثالث للديناميكا الحرارية”، والذي ينص على أن الإنتروبيا (مقدار العشوائية) تقترب من الصفر عند وصول درجة الحرارة إلى الصفر المطلق. هذا القانون غيّر مسار الفيزياء الحديثة وفتح الباب أمام تطبيقات جديدة.

3. تطوير المصابيح الكهربائية

لم يقتصر نشاط نرنست على التنظير، بل امتد إلى التطبيق. فقد ساهم في اختراع مصباح نرنست الكهربائي، الذي كان أكثر كفاءة من مصابيح إديسون في ذلك الوقت. بيع منه ما يزيد عن 25 مليون مصباح قبل أن يتم تجاوزه بتقنيات أحدث.

مقارنة الواقع قبل وبعد إنجازاته:

  • قبل نرنست: كانت التفاعلات الكيميائية تُفهم بالحدس والتجريب فقط.
  • بعد نرنست: أصبحت التفاعلات تخضع لقوانين رياضية دقيقة، ما جعل الكيمياء علمًا تنبؤيًا لا تجريبيًا فقط.

“لقد جعل نرنست من الكيمياء علمًا يمكن التنبؤ بنتائجه كما نتنبأ بحركة الكواكب.” – تعليق لأحد معاصريه.

التكريمات والجوائز الكبرى

نال نرنست العديد من الجوائز العلمية تقديرًا لإسهاماته، لكن أبرزها:

  • جائزة نوبل في الكيمياء عام 1920 “تقديرًا لعمله في الديناميكا الكيميائية وحلوله لقضايا التوازن الكيميائي”.
  • حصل أيضًا على أوسمة وجوائز من الأكاديميات الأوروبية، كما انتُخب عضوًا في الأكاديمية البروسية للعلوم.

استقبله المجتمع العلمي باعتباره “الأب الروحي للكيمياء الفيزيائية الحديثة”.

التحديات والمواقف الإنسانية

رغم إنجازاته، واجه نرنست تحديات شخصية، خصوصًا خلال الحرب العالمية الأولى، حيث انقسم العلماء حول دور العلم في الحرب. ومع ذلك، أصر على أن العلم يجب أن يكون في خدمة الإنسانية، لا وسيلة للدمار.

ومن المواقف الإنسانية اللافتة، دعمه للطلاب الشباب، حيث كان يستقبلهم في معمله ويشجعهم على البحث الحر. وقد وصفه بعض طلابه بأنه “معلم صارم، لكنه في الوقت نفسه أب عطوف”.

الإرث والتأثير المستمر

ترك نرنست إرثًا علميًا هائلًا، يتجلى في:

  • تأسيس مدرسة الكيمياء الفيزيائية الألمانية.
  • تأثيره على علماء كبار مثل ماكس بلانك وهابر.
  • استمرار استخدام معادلة نرنست حتى اليوم في الطب والكيمياء والأحياء.

لقد ساعدت نظرياته على تطوير البطاريات والوقود الحيوي والأجهزة الطبية الحديثة.

الجانب الإنساني والشخصي

بعيدًا عن المعامل، كان نرنست محبًا للموسيقى والأدب. كان يعزف البيانو بشغف، ويرى أن الفن والعلم جناحان يكملان بعضهما البعض. كما ساهم في بعض المبادرات التعليمية لدعم نشر العلوم في المدارس الألمانية.

ومن أبرز أقواله:

“العلم ليس ترفًا، بل هو وسيلة لفهم أنفسنا والعالم من حولنا.”

الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

إن سيرة فالتر نرنست هي قصة إصرار وفضول علمي، تحولت إلى إنجازات غيرت وجه البشرية. من طفل فضولي في بروسيا إلى عالم نوبل عالمي، يظل نرنست مثالًا على أن الإبداع الحقيقي هو الجمع بين الفكر النظري والتطبيق العملي.

لقد علمنا أن العقل البشري حين يتسلح بالفضول والجرأة يمكنه أن يفك ألغاز الكون، ويمنح الإنسانية أدوات جديدة للتقدم.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى