الصياد والعفريت والملك يونان: حين انتصرت الحيلة على القوة.. الليلة ٤

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصياد لما قال للعفريت: “لا أصدقك أبدًا حتى أنظرك بعيني في القمقم”، انتفض العفريت وصار دخانًا صاعدًا إلى الجو، ثم اجتمع ودخل في القمقم قليلًا قليلًا حتى استكمل الدخان داخل القمقم. فإذا بالصّياد أسرع وأخذ السدادة الرصاص المختومة، وسدّ بها فم القمقم، ونادى العفريت وقال له: “تمنَّ عليَّ أي موتة تموتها، لأرمينّك في هذا البحر، وأبني لي هنا بيتًا، وكل من أتى هنا أمنعه أن يصطاد، وأقول له: هنا عفريت، وكل من طلعه أُبيّن له أنواع الموت وأخيّره بينها.”
فلما سمع العفريت كلام الصياد أراد الخروج فلم يقدر، ورأى نفسه محبوسًا، وعليه طبع خاتم سليمان، وعلم أن الصياد سجنه في سجن أحقر العفاريت وأقذرها وأصغرها. ثم إن الصياد ذهب بالقمقم إلى جهة البحر، فقال له العفريت: “لا، لا.”
فقال الصياد: “لا بد، لا بد.”
فلطّف المارد كلامه وخضع، وقال: “ما تريد أن تصنع بي يا صياد؟”
قال: “ألقيك في البحر. إن كنتَ أقمتَ فيه ألفًا وثمانمائة عام، فأنا أجعلك تمكث إلى أن تقوم الساعة. أما قلتُ لك: أبقني يُبْقِك الله، ولا تقتلني يقتلك الله، فأبيتَ قولي، وما أردتَ إلا غدري، فألقاك الله في يدي، فغدرتُ بك.”
فقال العفريت: “افتح لي حتى أُحسن إليك.”
فقال له الصياد: “تكذب يا ملعون، أنا مثلي ومثلك مثل وزير الملك يونان والحكيم رويان.”
فقال العفريت: “وما شأن وزير الملك يونان والحكيم رويان؟ وما قصتهما؟”
فقال الصياد: “اعلم أيها العفريت أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، في مدينة الفرس وأرض رومان، ملك يقال له الملك يونان. وكان ذا مال وجنود وبأس وأعوان من سائر الأجناس. وكان في جسده برص قد عجزت فيه الأطباء والحكماء، ولم ينفعه منه شرب أدوية، ولا سفوف ولا دهان، ولم يقدر أحد من الأطباء أن يداويه.
وكان قد دخل مدينة الملك يونان حكيم كبير طاعن في السن يقال له الحكيم رويان. وكان عارفًا بالكتب اليونانية والفارسية والرومية والعربية والسريانية، وعلم الطب والنجوم، وعالمًا بأصول حكمتها، وقواعد أمورها من منفعتها ومضرّتها، وعالمًا بخواص النباتات والحشائش والأعشاب المضرة والنافعة، قد عرف علم الفلاسفة، وحاز جميع العلوم الطبية وغيرها.
ثم إن الحكيم لما دخل المدينة وأقام بها أيامًا قلائل، سمع خبر الملك وما جرى له في بدنه من البرص الذي ابتلاه الله به، وقد عجزت عن مداواته الأطباء وأهل العلوم. فلما بلغ ذلك الحكيم بات مشغولًا. فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، وطلعت الشمس على زين الملاّح، لبس أفخر ثيابه، ودخل على الملك يونان، وقبّل الأرض ودعا له بدوام العز والنعمة، وأحسن ما به تكلّم، وأعلمه بنفسه، وقال: “أيها الملك، بلغني ما اعتراك من هذا الذي في جسدك، وأن كثيرًا من الأطباء لم يعرفوا الحيلة في زواله، وها أنا أداويك أيها الملك، ولا أسقيك دواء، ولا أدهنك بدهان.”
فلما سمع الملك يونان كلامه تعجب، وقال له: “كيف تفعل؟! فوالله إن أبرأتني أُغنيك لولد الولد، وأُنعِم عليك، وكل ما تتمناه فهو لك، وتكون نديمي وحبيبي.”
ثم إنه خلع عليه وأحسن إليه، وقال له: “أتبرئني من هذا المرض بلا دواء ولا دهان؟!”
قال: “نعم، أبرئك بلا مشقة في جسدك.”
فتعجب الملك غاية العجب، ثم قال له: “أيها الحكيم، الذي ذكرته لي يكون في أي الأوقات، وفي أي الأيام؟ فأسرع به يا ولدي!”
قال له: “سمعًا وطاعة.”
ثم نزل من عند الملك واكترى له بيتًا، ووضع فيه كتبه وأدويته وعقاقيره، ثم استخرج الأدوية والعقاقير، وجعل منها صولجانًا وجوّفه، وعمل له قصبة، وصنع له كرة بمعرفته. فلما صنع الجميع وفرغ منها، طلع إلى الملك في اليوم الثاني، ودخل عليه، وقبّل الأرض بين يديه، وأمره أن يركب إلى الميدان، وأن يلعب بالكرة والصولجان.
وكان معه الأمراء والحُجّاب والوزراء وأرباب الدولة. فما استقر به الجلوس في الميدان حتى دخل عليه الحكيم رويان، وناولَه الصولجان، وقال له: “خذ هذا الصولجان، واقبض عليه مثل هذه القبضة، وامشِ في الميدان، واضرب به الكرة بقوتك حتى يعرق كفك وجسدك، فينفذ الدواء من كفك، ويسري في سائر جسدك. فإذا عرقت وأثّر الدواء فيك، فارجع إلى قصرك، وادخل بعد ذلك الحمام واغتسل ونم، فقد بُريتَ والسلام.”
فعند ذلك أخذ الملك يونان ذلك الصولجان من الحكيم، وأمسكه بيده وركب الجواد، ورُميت الكرة بين يديه، وساق خلفها حتى لحقها، وضربها بقوة وهو قابض بكفه على قصبة الصولجان. وما زال يضرب به الكرة حتى عرق كفه وسائر بدنه، وسرى له الدواء.
فلما عرف الحكيم رويان أن الدواء سرى في جسده، أمره بالرجوع إلى قصره، وأن يدخل الحمام من ساعته. فرجع الملك يونان من وقته، وأمر أن يُخْلوا له الحمام، فأخلوه له، وتسارع الفراشون، وتسابق المماليك، وأعدّوا للملك قماشه. فدخل الحمام واغتسل غسلًا جيدًا، ولبس ثيابه داخل الحمام، ثم خرج منه وركب إلى قصره ونام فيه.
هذا ما كان من أمر الملك يونان، وأما ما كان من أمر الحكيم رويان، فإنه رجع إلى داره وبات. فلما أصبح الصباح طلع إلى الملك، واستأذن عليه فأذن له…
هذا ما كان من أمر الملك يونان، وأما ما كان من أمر الحكيم رويان، فإنه رجع إلى داره وبات، فلما أصبح الصباح طلع إلى الملك، واستأذن عليه فأذن له في الدخول، فدخل وقبّل الأرض بين يديه، وأشار إلى الملك بهذه الأبيات:
زَهَتِ الفَصَاحَةُ إِذْ دُعِيتَ لَهَا أَبًا *** وَإِذَا دَعَتْ يَوْمًا سِوَاكَ لَهَا أَبَا
يَا صَاحِبَ الوَجْهِ الَّذِي أَنْوَارُهُ *** تَمْحُو مِنَ الخَطْبِ الكَرِيهِ غَيَاهِبَا
مَا زَالَ وَجْهُكَ مُشْرِقًا مُتَهَلِّلًا *** كَيْلَا نَرَى وَجْهَ الزَّمَانِ مُقَطَّبَا
أَوْلَيْتَنِي مِنْ فَضْلِكَ المِنَنَ الَّتِي *** فَعَلَتْ بِنَا فِعْلَ السَّحَابِ مَعَ الرُّبَا
وَصَرَفْتَ جُلَّ المَالِ فِي طَلَبِ العُلَا *** حَتَّى بَلَغْتَ مِنَ الزَّمَانِ مَآرِبَا
فلما فرغ من شعره نهض الملك قائمًا على قدميه، وعانقه وأجلسه بجانبه، وخلع الخلع السنية. ولما خرج الملك من الحمام نظر إلى جسده فلم يجد فيه شيئًا من البرص، وصار جسده نقيًّا مثل الفضة البيضاء؛ ففرح بذلك غاية الفرح، واتسع صدره وانشرح. فلما أصبح الصباح دخل الديوان، وجلس على سرير ملكه، ودخلت عليه الحُجّاب وأكابر الدولة، ودخل عليه الحكيم رويان، فلما رآه قام إليه مسرعًا، وأجلسه بجانبه، وإذا بموائد الطعام قد مُدّت، فأكل صحبته، وما زال عنده ينادمه طول نهاره.
فلما أقبل الليل أعطى الحكيم ألفي دينار غير الخلع والهدايا، وأركبه جواده وانصرف إلى داره، والملك يونان يتعجّب من صنعه ويقول: هذا داواني من ظاهر جسدي، ولم يدهني بدُهان! فوالله ما هذه إلا حكمة بالغة، فيجب عليّ لهذا الرجل الإنعام والإكرام، وأن أتخذه جليسًا وأنيسًا مدى الزمان.
وبات الملك يونان مسرورًا فرحان بصحة جسمه، وخلاصه من مرضه. فلما أصبح خرج الملك وجلس على كرسيه، ووقفت أرباب دولته بين يديه، وجلست الأمراء والوزراء على يمينه ويساره، ثم طلب الحكيم رويان، فدخل عليه وقبّل الأرض بين يديه، فقام له الملك وأجلسه بجانبه، وأكل معه وحيّاه، وخلع عليه وأعطاه، ولم يزل يتحدث معه إلى أن أقبل الليل، فرسم له بخمس خِلَعٍ وألف دينار، ثم انصرف الحكيم إلى داره وهو شاكر للملك.
فلما أصبح الصباح خرج الملك إلى الديوان، وقد أحدقت به الأمراء والوزراء والحُجّاب، وكان له وزيرٌ من وزرائه بشع المنظر، نحس الطالع، لئيم بخيل حسود، مجبول على الحسد والمقت. فلما رأى ذلك الوزير أن الملك قرّب الحكيم رويان، وأعطاه هذا الإنعام، حسده عليه وأضمر له الشر، كما قيل في المعنى: ما خلا جسد من حسد. وقيل أيضًا: الظلم كامن في النفس، القوة تُظهره والعجز يخفيه.
ثم إن الوزير تقدم إلى الملك يونان، وقبّل الأرض بين يديه، وقال له: يا ملك العصر والأوان، أنت الذي شمل الناس إحسانُك، ولك عندي نصيحة عظيمة، فإن أخفيتُها عنك أكون ولد زنا، فإن أمرتني أن أبديها أبديتُها لك. فقال الملك وقد أزعجه كلام الوزير: وما نصيحتك؟ فقال: أيها الملك الجليل، قد قالت القدماء: من لم ينظر في العواقب فما الدهر له بصاحب. وقد رأيتُ الملك على غير صواب؛ حيث أنعم على عدوّه، وعلى مَن يطلب زوال ملكه، وقد أحسن إليه وأكرمه غاية الإكرام، وقرّبه غاية القرب، وأنا خائف على الملك من ذلك.
فانزعج الملك وتغيّر لونه، وقال له: من الذي تزعم أنه عدوي وأُحسن إليه؟ فقال له: أيها الملك، إن كنتَ نائمًا فاستيقظ؛ فأنا أشير إلى الحكيم رويان. فقال له الملك: إن هذا صديقي وهو أعز الناس عندي؛ لأنه داواني بشيء قبضته بيدي، وأبرأني من مرضٍ عجزت فيه الأطباء، وهو لا يوجد مثله في هذا الزمان في الدنيا غربًا وشرقًا، فكيف أنت تقول عليه هذا المقال؟ وأنا من هذا اليوم أرتّب له الجوامك والجرايات، وأعمل له في كل شهر ألف دينار، ولو قاسمته في ملكي لكان قليلًا عليه، وما أظن أنك تقول ذلك إلا حسدًا كما بلغني عن الملك السندباد.
ثم قال الملك يونان: ذكر والله أعلم…
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، فقالت لها أختها: يا أختي، ما أحلى حديثك وأطيبه وألذه وأعذبه! فقالت لها: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة المقبلة إن عشتُ وأبقاني الملك؟! فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها؛ لأنه حديث عجيب. ثم إنهم باتا تلك الليلة متعانقين إلى الصباح، ثم خرج الملك إلى محل حكمه، واحتبك الديوان، فحكم وولّى وعزل، وأمر ونهى إلى آخر النهار، ثم انفضّ الديوان فدخل الملك قصره، وأقبل الليل، وقضى حاجته من بنت الوزير شهرزاد.



