القاضي شريح.. نموذج للعدالة والنزاهة في القضاء الإسلامي

المقدمة
يعتبر القاضي شريح بن الحارث الكندي أحد أبرز القضاة في التاريخ الإسلامي، واشتهر بعدله وحكمته التي جعلته نموذجًا يحتذى به في القضاء. تولّى منصب القضاء في عهد الخلفاء الراشدين واستمر في منصبه لعقود طويلة، مما يعكس كفاءته وثقة الخلفاء به. في هذا المقال، نستعرض سيرة شريح القاضي، ونلقي الضوء على أهم مواقفه التي أظهرت عدله ونزاهته.
نشأته وحياته
وُلد شريح بن الحارث الكندي في اليمن، وينتمي إلى قبيلة كندة، وهي قبيلة عربية معروفة. لا توجد معلومات دقيقة عن سنة ولادته، لكنه نشأ في بيئة عربية أصيلة قبل الإسلام، ثم أسلم في حياة النبي محمد ﷺ، غير أنه لم يلتقِ به شخصيًا. بعد انتشار الإسلام، انتقل إلى الكوفة حيث برز كأحد الفقهاء والقضاة المتميزين.
تولّيه منصب القضاء
عُرف شريح بذكائه وفطنته، وكان صاحب نظرة ثاقبة في فهم القضايا والحكم فيها. عيّنه عمر بن الخطاب قاضيًا على الكوفة، واستمر في منصبه طوال خلافة عمر، وعثمان، وعلي، بل حتى بعد العهد الأموي في خلافة معاوية وابنه يزيد. يُقال إنه قضى في منصبه حوالي 60 عامًا، وهو ما يعكس مدى نزاهته وكفاءته.
عدالته ونزاهته
اشتهر القاضي شريح بعدله وعدم محاباته لأحد، حتى لو كان الحاكم نفسه. ومن أبرز المواقف التي تدل على ذلك:
1. قضية علي بن أبي طالب مع رجل يهودي
يُروى أن الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد درعًا، فوجدها مع رجل يهودي، فرفعه إلى القاضي شريح. وعندما قدم علي شكواه، طلب شريح منه البينة، فلم يكن لديه إلا شهادة ابنه الحسن. فرفض شريح قبول شهادة الابن لأبيه، وحكم لصالح اليهودي، لعدم كفاية الأدلة. تأثر اليهودي بعدالة القضاء الإسلامي، وأعلن إسلامه وأعاد الدرع لعلي.
2. استقلاله عن السلطة
لم يكن شريح يخشى الخلفاء أو الحكّام، بل كان يحكم بما يراه حقًا، بغض النظر عن الطرف المتنازع. رُوي أنه قال للخليفة معاوية بن أبي سفيان عندما حاول التأثير على أحكامه:
“إذا كنت قد وليتني القضاء، فاتركني أقضي بما أرى، وإلا فعزلني.”
وهذا يدل على استقلاليته التامة ونزاهته في القضاء.
سماته وأخلاقه
تميز القاضي شريح بعدة صفات جعلته من أعظم القضاة في التاريخ الإسلامي، منها:
الذكاء والفطنة: كان يحلل القضايا بعمق ويصل إلى الحكم الصحيح دون تحيز.
العدل المطلق: لم يكن يجامل أحدًا، بل يحكم بناءً على الأدلة.
الزهد والتواضع: لم يكن يسعى وراء المال أو السلطة، وكان يعيش حياة بسيطة.
الفصاحة والحكمة: اشتهر بحكمته وأقواله البليغة، وكان ينصح الناس بعدل وإحسان.
أقواله المأثورة
ترك القاضي شريح العديد من الحكم التي تعكس عدله وحكمته، ومنها:
“من تكلم فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه.”
“إياك وملاحاة الرجال، فإنها سبب للعداوة.”
“الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.”
وفاته وإرثه
توفي القاضي شريح في أواخر القرن الأول الهجري، بعد أن ترك إرثًا عظيمًا في القضاء الإسلامي. ظل اسمه رمزًا للعدالة والنزاهة، ويُعدّ نموذجًا يُقتدى به في القضاء حتى يومنا هذا.
الخاتمة
القاضي شريح شخصية فريدة في التاريخ الإسلامي، تميز بحكمته وعدله واستقلاله عن السلطة. إن سيرته تُعد درسًا لكل من يتولى مسؤولية الحكم بين الناس، حيث تجسد معاني العدل والحق، وتؤكد أن القضاء النزيه أساس استقرار المجتمعات.