اللامستحيل: حين يصبح غياب الحل هو بداية الإجابة

في عام 2024، أطلّ الكاتب السوري محمد بن محمد منير محروقة على قرّاء تطوير الذات بكتابٍ مختلف تمامًا عن السائد، بعنوان مثير للفضول: “اللامستحيل: امتناع الحل هو الجواب”. صدر هذا العمل عن دار Austin Macauley البريطانية، وجاء ضمن تصنيف كتب تطوير الذات والفكر الإبداعي، لكن ما يميّزه ليس فقط محتواه العملي، بل المنهجية العقلية الفريدة التي يطرحها الكاتب، حيث يجمع فيه بين خلفيته العلمية الأكاديمية وخبراته الميدانية في مجال الوقاية الإشعاعية والبيئية.
الكتاب لا يقدّم حلولًا مباشرة للمشكلات، بل يعيد صياغة علاقتنا بها. في 158 صفحة فقط، يفتح بابًا للتفكير العميق في كيفية تحويل “اللا حل” إلى مفتاح لفهم جديد، وكيف أن استعصاء الإجابة قد يكون بحد ذاته مؤشرًا إلى الطريق الصحيح.
المؤلف: من المختبر إلى منصة التأمل
ولد محمد محروقة في دمشق عام 1956، وتخرج من جامعة دمشق في اختصاصي الكيمياء والفيزياء. تنقّل بين مختبرات جامعية وعربية في دول الخليج، وشارك في تطوير برامج متقدمة للوقاية من الإشعاع والبيئة، وقد نال خلال مسيرته جائزة الدانة الذهبية، ووسام الإمارات التخصصي. لكن الأهم، أنه لم يتوقف عند ممارسة العلم، بل راح يتأمل في بنية المعرفة، وآلية التفكير البشري حين تواجهه مشكلة لا حلّ واضح لها.
بنية الكتاب: من السؤال إلى الفكرة
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة محاور رئيسة:
1. استدعاء اللامستحيل
يتناول فيه المؤلف تجاربه الأولى مع المشاكل المستعصية في العمل المخبري، ويوضح كيف أن بعض الأعطال لم يكن لها أي تفسير منطقي في لحظتها، ولكن التوقف، الصمت، والتأمل، قادته لفهم أعمق خارج الصندوق.
2. العصف الذهني الدائري
يقدّم أدوات منهجية للعصف الذهني، مثل التفكير بالعكس، إعادة صياغة السؤال، تجزئة المشكلة، بناء نماذج ذهنية، الاستفادة من التخصصات المجاورة. يشجع القارئ على ممارسة التفكير كحركة وليس كبحث عن نهاية.
3. من التجريب إلى التطبيق
يُسرد فيه عدد من التجارب الواقعية، من بينها عطل في أجهزة الكشف الإشعاعي، ومشكلات في تسربات بيئية غير مرئية، وحالات تداخل بين عوامل بشرية وفنية، ويشرح كيف تمكن من الوصول إلى الحل من خلال التراكم لا القفز.
الفكرة الجوهرية: “امتناع الحل” ليس عيبًا… بل بداية
يرى الكاتب أن امتناع الحل، عندما لا تظهر إجابة واضحة، يجب أن يُفهم بوصفه فرصة لفهم أعمق، لا نهاية مغلقة. يقول في أحد الاقتباسات المؤثرة:
حين تعجز كل الطرق، فإن الجواب يكمن في السؤال ذاته، لا في حلوله.
وهنا يدعو القارئ إلى التوقف عن التفكير الميكانيكي، والنظر للمشكلة ككائن حي، يجب فهم بيئته لا فقط آليته.
قصص واقعية من مختبرات الحياة
يحفل الكتاب بسرد مشوق لتجارب المؤلف الواقعية. في أحد الفصول، يروي كيف فشل جهاز قياس إشعاعي رغم سلامته التقنية. وبعد أيام من التجريب، اكتشف أن تراكب بسيط في لوحة المفاتيح الداخلية كان يمنع الإشارة. لا تكمن العبرة في هذا فقط، بل في كيفية الوصول للحل: عبر التدرج، والملاحظة، لا عبر الإسقاطات الجاهزة.
وفي تجربة أخرى، يعرض كيف أن محاولة قياس تسرب إشعاعي في بيئة حضرية باءت بالفشل، إلى أن فكّر باستخدام كاميرا حرارية بدل الأجهزة الكلاسيكية، ليكتشف أن التسرب كان مصدره جدارًا داخل مبنى، لا من الأجهزة مباشرة.
الأدوات والأساليب التي يقترحها المؤلف
يركز المؤلف على عدة أدوات عملية يمكن للقارئ استخدامها، مثل:
- الأسئلة العكسية: ماذا لو كان العطل مقصودًا؟
- إعادة الترتيب: تغيير تسلسل المكونات.
- التخيل البصري: رسم الحالة على الورق قبل التعامل معها.
- العودة إلى المصدر: التفكير في الزمن السابق للمشكلة.
كما يقترح ممارسة ذهنية يومية: طرح سؤال لا إجابة له، وكتابته، ثم العودة له لاحقًا لرؤية ما إذا انبثق منه خيط جديد.
مقارنة مع كتب تطوير الذات الأخرى
على خلاف معظم كتب تطوير الذات التي تعتمد على الحماس والتحفيز، فإن هذا الكتاب علمي وعقلي ومنهجي. لا يحفّزك بالعبارات الرنانة، بل بالتجارب الواقعية، التي تصوغ فلسفة بسيطة: “الإبداع في التعامل مع المستحيل لا يأتي من الرغبة، بل من التمرين والعمق والملاحظة.”
الأثر المتوقع على القارئ
الكتاب يخاطب فئة خاصة من القراء: المفكرين، المهندسين، الباحثين، مدربي التفكير الإبداعي. ولكنه في الوقت نفسه يزرع في كل قارئ بذرة تساؤل. هو ليس كتابًا يُقرأ مرة واحدة، بل يُراجع كلما واجهت شيئًا لم تفهمه.
اقتباس بارز من الكتاب:
امتناع الحل هو الجواب حين يكون الحلّ تكرارًا للأخطاء، والامتناع ليس فشلًا، بل استراحة لاكتشاف الأفق.
تقييم نقدي
نقاط القوة:
- لغة واضحة وعلمية.
- حالات دراسية حقيقية.
- ربط بين الفكر والتجريب.
- أسلوب قصصي جذّاب.
نقاط الضعف:
- قد تكون بعض المصطلحات تقنية للقارئ العام.
- يحتاج إلى دليل تطبيق أكثر للقارئ غير المتخصص.
في الثقافة العامة
بدأ الكتاب يلقى صدىً جيدًا بين أوساط المثقفين العرب في مجالات الهندسة، والإدارة، والتعليم العالي. وتمت استضافته في عدد من الندوات الرقمية، وتناوله بعض المدونين بوصفه نموذجًا لفكر علمي عربي حديث.
خاتمة: التفكير خارج الممكن
في النهاية، لا يقدم “اللامستحيل” حلولًا نهائية، بل يغيّر زاوية الرؤية. حين تُغلق الأبواب، لا تبحث عن مفتاح جديد، بل اسأل: لماذا هناك باب من الأساس؟ إنها فلسفة الدهشة المعرفية التي تفتح العقول بدل أن تغلقها.
هذا الكتاب ليس وصفة، بل بوصلة. وبوصلة الكاتب محمد بن محمد محروقة تشير إلى مكان واحد: نحو اللامستحيل.
لمعرفة المزيد: اللامستحيل: حين يصبح غياب الحل هو بداية الإجابة