قصص

المتيّم المسلوب وقبر الحيلة: حكاية غانم بن أيوب وقوت القلوب..الليلة ٤٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن غانم بن أيوب وصل إلى داره بالصندوق، ففتحه وأخرج الصبية منه، ونظرت فرأت هذا المكان محلًّا مليحًا، مفروشًا بالبُسُط الملوَّنة، والألوان المفرحة، وغير ذلك، ورأت قماشًا محزومًا وأحمالًا وغير ذلك، فعلمت أنه تاجر كبير صاحب أموال.

ثم إنها كشفت وجهها ونظرت إليه، فإذا هو شاب مليح، فلما رأته أحبته وقالت له: هاتِ لنا شيئًا نأكله.

فقال لها غانم: على الرأس والعين.
ثم نزل السوق واشترى خروفًا مشويًّا وصحن حلاوة، وأخذ معه نقلاً (فاكهة مجففة) وشمعًا، وأخذ معه نبيذًا، وما يحتاج إليه الأمر من آلة المشموم، وأتى إلى البيت ودخل بالحوايج.

فلما رأته الجارية ضحكت وقبّلته وعانقته، وصارت تلاطفه، فازدادت عنده المحبة، واحتوت على قلبه.

ثم أكلا وشربا إلى أن أقبل الليل، وقد أحبَّ بعضُهما بعضًا؛ لأنهما كانا في سنٍّ واحد، وحُسنٍ واحد.

فلما أقبل الليل، قام المتيَّم المسلوب غانم بن أيوب، وأوقد الشموع والقناديل، فأضاء المكان، وأحضر آلة المدام، ثم نصب الحُسْرة، وجلس هو وإياها، وكان يملأ ويسقيها، وهي تملأ وتسقيه، وهما يلعبان ويضحكان وينشدان الأشعار، وزاد بهما الفرح، وتعلقا بحب بعضهما، فسبحان مؤلِّف القلوب.

ولم يزالا كذلك إلى قريب الصباح، فغلب عليهما النوم، فنام كلٌّ منهما في موضعه إلى أن أصبح الصباح.

فقام غانم بن أيوب وخرج إلى السوق، واشترى ما يحتاج إليه من خُضرة ولحم وخمر وغيره، وأتى إلى الدار، وجلس هو وإياها يأكلان، فأكلا حتى اكتفيا، وبعد ذلك أحضرا الشراب، وشربا ولعبا مع بعضهما حتى احمرّت وجنتاهما، واسودّت أعينهما.

واشتاقت نفس غانم بن أيوب إلى تقبيل الجارية والنوم معها، فقال لها:
يا سيدتي، ائذني لي بقبلة من فيكِ، لعلها تبرد نار قلبي.

فقالت:
يا غانم، اصبر حتى أسكر وأغيب، وأسمح لك سرًّا بحيث لا أشعر أنك قبّلتني.

ثم إنها قامت على قدميها، وخلعت بعض ثيابها، وقعدت في قميصٍ رقيق وكوفية، فعند ذلك تحرّكت الشهوة عند غانم، وقال: يا سيدتي، أما تسمحين لي بما طلبتُه منكِ؟

فقالت:
والله، لا يصحّ لك ذلك؛ لأنه مكتوب على دكّة لبامي قولٌ صعب.

فانكسر خاطر غانم بن أيوب، وزاد عنده الغرام لما عَزّ المطلوب، فأنشد هذه الأبيات:

سَألتُ مَن أمرَضني
في قُبلةٍ تشفي السَّقَمْ
فقال: لا، لا أبدًا
قلتُ له: نَعم، نَعم

فقال: خُذها بالرِّضا
من الحلال وابتسم
فقلتُ: غصبًا؟ قال: لا
إلا على رأسِ علَمْ

فلا تسَل عمّا جرى
واستغفر الله ونَمْ
فاظْنُنْ بما شِئتَ بنا
فالحبُّ يحلو بالتُّهَمْ

ولا أُبالي بعد ذا
إن باحَ يومًا أو كَتَمْ

ثم زادت محبته، وانطلقت النيران في مهجته، هذا وهي تتمنّع منه وتقول: ما لك وصول.

ولم يزالا في عشقهما ومنادمتهما، وغانم بن أيوب غريق في الهيام، وأما هي فقد ازدادت قسوةً وامتناعًا، إلى أن دخل الليل بظلامه، وأرخى عليها ذيل المنام.

فقام غانم، وأشعل القناديل، وأوقد الشموع، وزاد بهجة المقام، وأخذ رجليها وقبّلهما، فوجدهما مثل الزُّبد الطري، فمرّغ وجهه عليهما، وقال:

يا سيدتي، ارحمي أسير هواكِ، ومَن قتلتْ عيناكِ، كنتُ سليم القلب لولاكِ.

ثم بكى قليلاً، فقالت: يا سيدي ونور عيني، أنا والله لكَ عاشقة، وبك واثقة، ولكن أنا أعرف أنك لا تصل إليّ.

فقال لها: وما المانع؟
فقالت له: سأحكي لك في هذه الليلة قصتي، حتى تقبل عذري.

ثم إنها ترامَت عليه، وطوّقت عنقه بيديها، وصارت تُقبّله وتُلاطفه، ثم وعدته بالوصال، ولم يزالا يلعبان ويضحكان حتى تمكّن حبّ بعضهما من بعض، ولم يزالا على ذلك الحال، وهما في كل ليلة ينامان على فراشٍ واحد.
وكلما طلب منها الوصال، تتعزّز عنه مدّة شهرٍ كامل، وتمكّن حبّ كلٍّ منهما من قلب الآخر، ولم يبقَ لهما صبرٌ عن بعضهما، إلى أن كانت ليلةٌ من الليالي، وهو راقدٌ معها، والاثنان سكرانان، فمدّ يده على جسدها وملّس، ثم مرّ بيده على بطنها، ونزل إلى عورتها، فانتبهت وقعدت، وتعهّدت اللباس فوجدته مربوطًا، فنامت ثانيةً.

فملّس عليها بيده، ونزل بها إلى عورتها، ودكّتها وجذبها، فانتبهت وقعدت، وقعد غانم إلى جانبها.
فقالت له:
– ما الذي تريد؟
قال:
– أريد أن أنام معك، ونتواصل أنا وأنتِ.
فعند ذلك قالت له:
– أنا الآن أوضّح لك أمري حتى تعرف قدري، وينكشف لك سري، ويظهر لك عذري.
قال:
– نعم.

فعند ذلك شقّت ذيل قميصها، ومدّت يدها إلى دكّة لباسها، وقالت:
– يا سيدي، اقرأ الذي على هذا الطرف.
فأخذ طرف الدكّة في يده، ونظر إليه، فوجده مرقومًا عليه بالذهب:
“أنا لك، وأنت لي، يا ابن عمّ النبي.”

فلما قرأه نثر يده، وقال لها:
– اكشفي لي عن خبرك؟
قالت:
– نعم. اعلم أنني محظيّة أمير المؤمنين، واسمي قوت القلوب، وأن أمير المؤمنين لمّا ربّاني في قصره وكبرت، نظر إلى صفاتي، وما أعطاني ربّي من الحُسن والجمال، فأحبّني محبّةً زائدة، وأخذني وأسكنني في مقصورة، وأمر لي بعشر جوارٍ يخدمنني.
ثم إنه أعطاني ذلك المصاغ الذي تراه معي.

ثم إن الخليفة سافر يومًا من الأيام إلى بعض البلاد، فجاءت السيدة زبيدة إلى بعض الجواري اللاتي في خدمتي، وقالت:
– إذا نامت سيدتك قوت القلوب، فحطّي هذه القطعة من البنج في أنفها، أو في شرابها، ولكِ عليّ من المال ما يكفيكِ.
فقالت لها الجارية:
– حبًّا وكرامة.

ثم إن الجارية أخذت البنج منها وهي فرحانة لأجل المال، ولكونها كانت في الأصل جاريتها، فجاءت إليّ، ووضعت البنج في جوفي، فوقعتُ على الأرض، وصارت رأسي عند رجليّ، ورأيت نفسي في دنيا أخرى.
ولما تمّت حيلتها، حطّتني في ذلك الصندوق، وأحضرت العبيد سرًّا، وأنعمت عليهم وعلى البوّابين، وأرسلتني مع العبيد في الليلة التي كنتَ نائمًا فيها فوق النخلة، وفعلوا معي ما رأيت، وكانت نجاتي على يديك.
وأنت أتيت بي إلى هذا المكان، وأحسنت إليّ غاية الإحسان.

وهذه قصتي، وما أعرف الذي جرى للخليفة في غيبتي، فاعرف قدري ولا تشهر أمري.

فلما سمع غانم بن أيوب كلام قوت القلوب، وتحقّق أنها محظيّة الخليفة، تأخّر إلى ورائه خيفةً من هيبة الخليفة، وجلس وحده في ناحية من المكان، يعاتب نفسه، ويتفكّر في أمره، وصار متحيّرًا في عشق التي ليس له إليها وصول؛
فبكى من شدّة الغرام، ولوعة الوجد والهيام، وصار يشكو الزمان، وما له من العدوان، وقال:

سبحان من أشغل قلوب الكرام بالمحبّة، ولم يُعطِ الأنذالَ منها وزن حبّة.
ثم أنشد هذين البيتين:

قلبُ المُحبّ على الأحبابِ متعوبُ
وعقلُه مع بديعِ الحُسنِ منهوبُ
وقائلٌ قال لي: ما الحُبُّ؟ قلتُ لهُ:
الحبُّ عذبٌ ولكن فيهِ تعذيبُ

فعند ذلك قامت إليه قوت القلوب، واحتضنته وقبّلته، وتمكّن حبّه في قلبها، وباحت له بسرّها، وما عندها من المحبّة، وطوّقت عنقه بيديها وقبّلته، وهو يتمتّع عنها خوفًا من الخليفة.
ثم تحدّثا ساعةً من الزمان، وهما غريقان في بحر محبّة بعضهما، إلى أن طلع النهار، فقام غانم، ولبس أثوابه، وخرج إلى السوق على عادته، وأخذ ما يحتاج إليه الأمر.

وجاء إلى البيت، فوجد قوت القلوب تبكي، فلما رأته سكتت عن البكاء وتبسمت، وقالت له:
أوحشتني يا محبوب قلبي، والله إن هذه الساعة التي غبتها عني كسنة، فإني لا أقدر على فراقك، وها أنا قد بيّنتُ لك حالي من شدة ولَعي بك، فقم بنا الآن ودع ما كان، واقضِ إربك مني.

قال:
أعوذ بالله، إن هذا شيء لا يكون، كيف يجلس الكلب في موضع السبع؟ والذي لِمولاي يحرُم عليّ أن أقرَبه.

ثم جذب نفسه منها، وجلس في ناحية، وزادت هي محبةً بامتناعه عنها. ثم جلست إلى جانبه وندمته ولاعبته، فسكرَا، وهامت بالافتضاح به، فغنت منشدةً هذه الأبيات:

قَلْبُ المُتيَّمِ كادَ أَنْ يَتَفَتَّتا
فَإِلى متى هذا الصُّدودُ؟ إلى متى؟
يا مُعرضًا عني بغيرِ جنايةٍ
فعوائدُ الغُزْلانِ أن تتلفتا
صَدٌّ وهَجْرٌ زائدٌ وصَبابةٌ
ما كُلُّ هذا الأمرِ يَحملهُ الفتى

فبكى غانم بن أيوب، وبكت هي لبكائه، ولم يزالا يشربان إلى الليل، ثم قام غانم وفرش فرشين، كل فرشٍ في مكان وحده، فقالت له قوت القلوب:

لِمَن هذا الفَرش الثاني؟
فقال لها:
هذا لي، والآخر لك، ومن الليلة لا ننام إلا على هذا النمط، وكل شيءٍ للسيد حرامٌ على العبد.

فقالت:
يا سيدي، دعنا من هذا، وكل شيءٍ يجري بقضاءٍ وقدر.
فأبى، فانطلقت النار في قلبها، وزاد غرامها فيه، وقالت:
والله ما ننام إلا سويّة.
فقال:
معاذ الله.
وغلب عليها، ونام وحده إلى الصباح، فزاد بها العشق والغرام، واشتد بها الوجد والهيام، وأقاما على ذلك ثلاثة أشهرٍ طوال، وهي كلما تقرب منه يمتنع عنها، ويقول:
كل ما هو مخصوص بالسيد حرامٌ على العبد.

فلما طال بها المطال مع غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب، وزادت بها الشجون والكروب، أنشدت هذه الأبيات:

بديعَ الحُسنِ كم هذا التَّجني
ومَن أغراكَ بالإعراضِ عني؟
حويتَ من الرشاقة كلَّ معنى
وحزتَ من الملاحةِ كلَّ فنِّ
وأجريتَ الغرامَ لكلِّ قلبٍ
ووكّلتَ السهادَ بكلِّ جفنِ
وأعرف قبلَك الأغصانَ تُجنى
فيا غصنَ الأراكِ أراكَ تجني
وعهدي بالظِّبا صيدٌ، فما لي
أراك تصيدُ أربابَ المجنِّ؟
وأعجبُ ما أُحدّث عنكَ أني
فُتِنتُ وأنتَ لم تعلمْ بأني
فلا تَسْمَحْ بوَصلكَ لي، فإني
أغارُ عليكَ منك، فكيف مني؟
ولستُ بقايلٍ، ما دمتُ حيًّا:
بديعَ الحُسنِ كم هذا التّجني؟

وأقاما على هذه الحال مدةً، والخوف يمنع غانمًا عنها.
فهذا ما كان من أمر المتيم المسلوب غانم أيوب.

وأما ما كان من أمر زبيدة، فإنها في غيبة الخليفة فعلت بقوت القلوب ذلك الأمر، ثم صارت متحيرة تقول في نفسها:

ما أقول للخليفة إذا جاء وسأل عنها؟ وما يكون جوابي له؟

فدعت بعجوزٍ كانت عندها، وأطلعتها على سرها، وقالت لها:
كيف أفعل، وقوت القلوب قد فرّط فيها الفَرَط؟

فقالت لها العجوز لما فهمت الحال:

اعلمي يا سيدتي أنه قرب مجيء الخليفة، ولكن أرسلي أي نجار، وامريه أن يعمل صورة ميت من خشب، ويُحفَر له قبر، وتوقد حوله الشموع والقناديل، وامري كل من في القصر أن يلبسوا الأسود، وامري جواريك والخدم إذا علموا أن الخليفة أتى من سفره أن يشيعوا الحزن في الدهليز. فإذا دخل وسأل عن الخبر، يقولون له: إن قوت القلوب ماتت، ويُعظِّم الله أجرك فيها، ومن معزّتها عند سيدتنا دفنتها في قصرها.

فإذا سمع ذلك يبكي، ويعزّ عليه، ثم يسهر القرّاء على قبرها لقراءة الختمات. فإن قال في نفسه: إن بنت عمي زبيدة من غيرتها سعت في هلاك قوت القلوب، أو غلب عليه الهيام فأمر بإخراجها من القبر، فلا تفزعي من ذلك، ولو حفروا على تلك الصورة التي على هيئة ابن آدم، وأخرجوها وهي مكفّنة بالأكفان الفاخرة، فإن أراد الخليفة إزالة الأكفان عنها لينظرها، فامْنعيه أنتِ من ذلك، والأخرى تمنعه وتقول له: رؤية عورتها حرام، فيُصدّق حينئذٍ أنها ماتت، ويردها إلى مكانها، ويشكركِ على فعلك، وتخلصين – إن شاء الله تعالى – من هذه الورطة.**

فلما سمعت السيدة زبيدة كلامها رأته صوابًا، فخلعت عليها خلعة، وأمرتها أن تفعل ذلك بعدما أعطتها جملةً من المال.

فشرعت العجوز في ذلك الأمر، وأمرت النجار أن يعمل لها صورة كما ذكرنا، وبعد تمام الصورة جاءت بها إلى السيدة زبيدة، فكفّنتها وأوقدت الشموع والقناديل، وفرشت البُسُط حول القبر، ولبست السواد، وأمرت الجواري أن يلبسن السواد، واشتهر الأمر في القصر أن قوت القلوب ماتت.

ثم بعد مدة أقبل الخليفة من غيبته، وطلع إلى قصره، ولكن ما له شغل إلا قوت القلوب، فرأى الغلمان والخدام والجواري كلهم لابسين السواد، فارتجف فؤاده، فلما دخل القصر على السيدة زبيدة رآها لابسة الأسود، فسأل عن ذلك، فأخبروه بموت قوت القلوب، فوقع مغشيًا عليه، فلما أفاق سأل عن قبرها، فقالت له السيدة زبيدة:

اعلم يا أمير المؤمنين، أنني من معزّتها عندي، دفنتُها في قصري.

فدخل الخليفة بثياب السفر إلى القصر ليزور قوت القلوب، فوجد البُسط مفروشة، والشموع والقناديل موقدة، فلما رأى ذلك شكرها على فعلها، ثم إنه صار حائرًا في أمره، ولم يزل بين مصدق ومكذب، فلما غلب عليه الوسواس أمر بحفر القبر، وأخرجها منه، فلما رأى الكفن وأراد أن يزيله عنها ليراها، خاف من الله تعالى، فقالت العجوز:

رُدّوها إلى مكانها.

ثم إن الخليفة أمر في الحال بإحضار الفقهاء والمقرئين، وقرأوا الختمات على قبرها، وجلس بجانب القبر يبكي حتى غُشي عليه، ولم يزل قاعدًا على قبرها شهرًا كاملاً.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى