المخ الأبله: رحلة ممتعة داخل أكثر أعضائنا غموضًا

مقدمة: بين السخرية والعلم
حين نقرأ عنوان كتاب مثل “المخ الأبله” قد يتبادر إلى الذهن أنه كتاب ساخر أو حتى تبسيطي يقلل من شأن العقل البشري، لكن الحقيقة أن المؤلف دين بيرنيت، وهو عالم أعصاب بريطاني شهير، أراد أن يختار عنوانًا مثيرًا وذكيًا ليقربنا من حقيقة محيرة: أدمغتنا أعقد مما نتصور، وفي الوقت ذاته تتصرف أحيانًا بغباء مذهل.
الكتاب الصادر عام 2021 يندرج ضمن كتب تبسيط العلوم وتطوير الذات والعقل، إذ يقدم مزيجًا من المعلومات العلمية الرصينة ممزوجة بروح ساخرة خفيفة تجعل القارئ يستمتع وهو يتعرف على أسرار الدماغ.
بيرنيت لا يكتب كأستاذ جامعي يلقي محاضرة مملة، بل كصديق يجلس معك ويقص عليك كيف أن “المخ”، رغم كونه أعظم ما أبدعته الطبيعة، مليء بالتناقضات، وقد يقودك أحيانًا إلى قرارات غريبة، ويوقعك في أوهام، أو حتى يخدعك في أبسط التفاصيل.
أولاً: الدماغ بين العبقرية والغباء
العقل البشري يُعدّ الإنجاز الأكثر إثارة في مسيرة التطور. فمن خلاله شيّد الإنسان الحضارات، واخترع التكنولوجيا، وكتب الأدب والفن. ومع ذلك، يخبرنا بيرنيت أن نفس هذا الدماغ “العبقري” قد ينسى أين وضع نظارته قبل دقيقة واحدة فقط!
الكتاب يبدأ بعرض هذه المفارقة: كيف يمكن لعضو بالغ القوة أن يكون في الوقت نفسه عرضة للسقطات المضحكة. هنا يكشف الكاتب أن الدماغ لا يعمل وفق معايير الكمال، بل وفق آليات معقدة هدفها البقاء والنجاة، حتى لو أدى ذلك أحيانًا إلى “أخطاء” تبدو لنا غير عقلانية.
أمثلة يوردها المؤلف:
- الميل إلى تصديق الإشاعات ونظريات المؤامرة رغم غياب الأدلة.
- اتخاذ قرارات مالية كارثية بدافع العاطفة لا المنطق.
- المبالغة في الخوف من أحداث نادرة (مثل ركوب الطائرة) مقابل تجاهل مخاطر يومية (مثل قيادة السيارة).
هذه المظاهر ليست سوى دلائل على أن أدمغتنا ليست آلات حاسوبية، بل أجهزة معقدة تتأثر بالعاطفة والتجربة والذاكرة والبيئة.
ثانياً: الذاكرة الخادعة
إحدى أهم القضايا التي يناقشها بيرنيت هي ذاكرة الإنسان. نحن نميل للاعتقاد بأن ذكرياتنا عبارة عن تسجيلات دقيقة لأحداث الماضي، مثل شريط فيديو محفوظ في العقل. لكن العلم أثبت العكس تمامًا.
ما يكشفه الكتاب:
- الذاكرة عملية إعادة بناء وليست عملية تسجيل. في كل مرة نسترجع ذكرى، يعاد تركيبها من جديد وقد تتغير تفاصيلها.
- يمكن زرع ذكريات مزيفة لدى الأشخاص عبر الإيحاء أو التكرار.
- العاطفة تلعب دورًا رئيسيًا: الأحداث المؤلمة أو المثيرة غالبًا ما تُخزن بعمق، لكن قد تُشوه مع الوقت.
بيرنيت هنا يروي قصصًا وتجارب واقعية توضح كيف أن المحاكم مثلًا قد تبني أحكامها على شهادات شهود عيان، بينما هذه الشهادات قد تكون عرضة لأخطاء ذاكرية جسيمة.
ثالثاً: العواطف… المحرك الحقيقي
لا يمكن أن نفهم “غباء” الدماغ دون أن نتأمل في العواطف. بيرنيت يوضح أن الدماغ لم يتطور ليكون منطقيًا بحتًا، بل ليحافظ على بقاء الكائن البشري. ولهذا فإن العاطفة تلعب دورًا محوريًا في قراراتنا.
أمثلة من الكتاب:
- الخوف: آلية بقاء تجعلنا نهرب أو نقاتل، لكنها قد تثير فوبيا غير مبررة.
- الحب: شعور يجعل الإنسان يتخذ قرارات تبدو “متهورة” أحيانًا، لكنها تعزز الترابط الاجتماعي والتكاثر.
- الغضب: انفعال قد يدمر علاقات أو يؤدي لحروب، لكنه في الأصل دفاعي.
العاطفة هنا ليست مجرد خلل، بل جزء أساسي من تصميم الدماغ. لكنها السبب وراء كثير من “الغباء” الذي نشهده في حياتنا اليومية.
رابعاً: لماذا نتخذ قرارات سيئة؟
الدماغ بارع في الحسابات البسيطة، لكنه سيئ للغاية في التعامل مع الاحتمالات والإحصاءات. بيرنيت يبين أن أدمغتنا تميل إلى الاعتماد على الاختصارات الذهنية أو ما يعرف بـ”التحيزات المعرفية”.
أبرزها:
- تحيز التوفر: نبالغ في تقدير احتمال وقوع حدث إذا كنا نتذكر له مثالاً حديثًا.
- تحيز التأكيد: نميل للبحث عن معلومات تؤكد ما نؤمن به مسبقًا ونتجاهل ما يخالفه.
- الوهم بالسيطرة: نعتقد أن لدينا تحكمًا في نتائج عشوائية (مثل المقامرة).
هذه التحيزات تجعل الدماغ “أبله” في مواقف كثيرة، لكنها في المقابل تساعد على سرعة اتخاذ القرار في مواقف الحياة اليومية.
خامساً: الدماغ الاجتماعي
الكتاب يخصص جزءًا مهمًا للحديث عن الدماغ ككائن اجتماعي. بيرنيت يشرح أن أدمغتنا مبرمجة للتفاعل مع الآخرين. فنحن كائنات اجتماعية بالفطرة، والدماغ يستخدم قدرًا هائلًا من طاقته لفهم الإشارات الاجتماعية مثل:
- تعابير الوجه.
- نبرة الصوت.
- لغة الجسد.
إلا أن هذه القدرة نفسها قد تجعلنا عرضة للأخطاء:
- سوء تفسير نوايا الآخرين.
- الانخداع بالكارزما أو المظاهر.
- الوقوع في فخ المقارنات الاجتماعية التي تؤثر على تقدير الذات.
سادساً: المخ والإدمان
يتناول الكتاب موضوع الإدمان بطريقة مبسطة. فالدماغ يملك نظام مكافأة يعتمد على مادة الدوبامين، وهي التي تمنحنا شعورًا باللذة عند القيام بسلوكيات معينة.
لكن المشكلة أن هذا النظام يمكن أن يختطفه:
- المخدرات.
- الألعاب الإلكترونية.
- وسائل التواصل الاجتماعي.
بيرنيت يوضح أن الإدمان ليس “ضعف إرادة” بقدر ما هو خلل في دوائر عصبية تجعل المخ يكرر السلوك بحثًا عن المتعة.
سابعاً: حدود العقل البشري
رغم إنجازاته الهائلة، يذكّرنا بيرنيت أن الدماغ ليس معصومًا. فهناك حدود لما يستطيع القيام به:
- انتباه محدود: لا يمكننا التركيز على أكثر من مهمة بفعالية في وقت واحد.
- طاقة عقلية: التفكير المستمر يستهلك طاقة الجسم بشكل كبير.
- قابلية التضليل: الدماغ يصدق الأوهام البصرية والنفسية بسهولة.
هنا تتجلى فكرة “الأبله”: الدماغ ليس آلة مثالية بل أداة تكيفية.
ثامناً: الكتاب وأثره على القارئ
القوة الحقيقية للكتاب تكمن في أنه لا يكتفي بعرض الحقائق العلمية، بل يجعلك تتأمل نفسك وحياتك اليومية. فجأة تجد تفسيرًا:
- لماذا نسقط في الحب رغم علمنا بعواقبه؟
- لماذا نرتكب نفس الأخطاء؟
- لماذا ننسى التفاصيل الصغيرة ونتمسك بأخرى غير دقيقة؟
الكتاب يمنح القارئ راحة نفسية، لأنه يكشف أن “غباء الدماغ” ليس عيبًا شخصيًا، بل سمة طبيعية مشتركة بين البشر.
أسلوب الكتاب
دين بيرنيت يتميز بأسلوب فريد:
- لغة ساخرة: يجعلك تضحك على مواقفك الخاصة.
- بساطة علمية: يشرح أعقد المفاهيم بأمثلة يومية.
- قصص واقعية: يربط بين التجارب العلمية وحياة الناس.
هذا المزج جعل الكتاب يصل لجمهور واسع، إذ تُرجم لعدة لغات وانتشر بين القراء الذين يبحثون عن فهم مبسط لأدمغتهم.
تاسعاً: الدروس المستفادة
من خلال هذا الكتاب، يمكن تلخيص أهم الدروس:
- الدماغ ليس آلة كاملة: تقبّل أخطائه جزء من تقبل الذات.
- العاطفة ضرورية: لا يمكننا أن نكون عقلانيين تمامًا، والعاطفة ليست دائمًا عدوًا.
- التحيزات جزء منا: إدراكها هو الخطوة الأولى للتغلب عليها.
- الذاكرة مرنة: لا تثق في ذكرياتك بشكل مطلق.
- التواصل الاجتماعي جوهري: أدمغتنا مزودة بآليات للتفاعل، فلا تهمل علاقاتك.
عاشراً: لماذا يجب أن تقرأ “المخ الأبله”؟
الكتاب ليس مجرد رحلة في علم الأعصاب، بل هو مرآة تعكس سلوكياتنا اليومية. إنه كتاب يحررك من وهم الكمال العقلي، ويجعلك أكثر رحمة مع نفسك ومع الآخرين.
فهمك أن “المخ أبله أحيانًا” قد يساعدك على:
- تحسين قراراتك.
- تقبل أخطائك.
- تطوير وعيك بذاتك.
خاتمة
في النهاية، كتاب “المخ الأبله” لدين بيرنيت هو عمل يجمع بين العلم والمرح، بين التبسيط والعمق. إنه يضع أمامنا حقيقة مدهشة: أن أعظم أداة نملكها، أي الدماغ، ليست دائمًا على قدر العبقرية التي نتصورها. لكنها رغم “غبائها” أحيانًا، تظل معجزة التطور وأساس وجودنا الإنساني.
إنه كتاب لكل من يريد أن يعرف نفسه أكثر، ويضحك قليلًا على تناقضاته، ويدرك أن العقل البشري، بذكائه وأخطائه، هو ما يجعلنا بشرًا بكل ما في الكلمة من معنى.
لمعرفة المزيد: المخ الأبله: رحلة ممتعة داخل أكثر أعضائنا غموضًا