المعطف الذي خرج منه الجميع – قراءة في رواية المعطف لنيقولاي غوغول
المعطف لكاتبها الروسي نيقولاي غوغول من كلاسيكيات الأدب الروسي، رواية مؤثرة رغم قصرها، رواية بأبعاد إنسانية.
نيقولاي فاسيليفتش غوغول، كاتب روسي يعد من آوائل الأدباء الروس الذين كرسوا حياتهم لنمط “الرواية الاجتماعية”، ولد غوغل في العام 1809 وتوفي في أوج عطائه في سنة 1852، ورغم هذا العمر القصير إلا أنّ غوغول ترك من خلفه إرثاً أدبياً عظيماً، جعل روسيا تحتفي به طويلاً ولا زالت كذلك.
جمع غوغول بين التأليف المسرحي والقصة القصيرة والرواية، من أهم هاته الأعمال مسرحية “المفتش العام” وروايته “الأنفس الميتة” التي كان يخطط لها أن تكون الجزء الأول من ثلاثية لم يمهله الوقت لأتمامها، كما أنّ روايته المعطف التي سنتعرض لتحليلها، تعد باكورة أعماله، لا وبل أحد أكثر المؤلفات الروسية شهرة على الإطلاق، فهي تحفة فنية ألهمت وأثرت بروعة وجمالية حبكتها في ديستوفسكي هو الآخر، ليقول عنها :”كلنا خرجنا من معطف غوغول”.
_ تحليل قصة رواية المعطف
تدور أحداث قصتنا هاته في مدينة “الليالي البيضاء” سانت بطرسبورغ، حيث يصور لنا من خلالها الكاتب نيكولاي غوغول حياة الموظف البسيط أكاكي أكاكييفتش، المسحوق مادياً واجتماعياً، تارة بين الأنظمة البيروقراطية، وتارة أخرى بين نظرات الناس وسخريتهم التي لاتنتهي. هذة المضايقات التي لم يكن ليجيب عنها أكاكي، إلا حين بلوغ أقصى درجاتها، ليرد بعبارته البئيسة على المحتقرين له “دعني وشأني، لماذا يحلو لك تعذيبي”.
كان أكاكي يقضي اليوم بطوله في نسخ الوثائق، حتى إذا ما انتهى وقت العمل وذهب البقية للتلذذ بأكواب قهوتهم الساخنة، جلس أكاكي في بيته ليتم ما عليه من نسخ حتى التخمة -وهو الشغف ذاته الذي كان غوغول يتعامل به إزاء نسخ أحرف رواياته، حرفاً بحرف- ثم ليخلد بعدها للنوم، آملا في يوم آخر حافل بأوراق جديدة يرسلها الله له لنسخها، وليسد فراغ يومه بها.
وهكذا كانت الأيام تمضي عند موظفنا البسيط هذا – الذي يجسد الموظف المتفاني في عمله باخلاص يمكنه من قضاء اليوم بطوله خلف المكتب دون الشعور بالكلل- لا طعم ولا لون لها غير طعم البؤس ولون الحقارة والمحن، إلى أن يأتي اليوم الذي يعقد فيه أكاكي العزم على كسر رتابة حياته الروتينية، أن يتخلى عن الرضا الذي زرعته فيه كغيره من المطحونين الطبقية اللعينة، ليباشر بعد ذلك في تعلية سقف تطلعاته.
حدث هذا حين اجتاحت سانت بيطرسبورغ موجة صقيع قاسية اهترئ معها معطف أكاكي المرقع من كل الاتجاهات والجوانب، وقد حاول ترقيعه مرة أخرى غير أنه لم يكن بوسع الخياط ايجاد بقعة ليغرس فيها إبرته، حينها فقط سيقتنع أكاكي أن عليه اقتناء معطف جديد، عبر سلسلة من التقشفات أدت به إلى التخلي عن معظم حاجياته الضرورية لشهور عدة، ليصبح أخيراً معطفه جاهزا، يلبسه بكل تفاخر وهو ينظر إليه ويتحسسه في كل مرة بيديه مطمئنا ما إن كان لايزال فوق كتفه.
ولأن الرياح عادة ما تجري عكس السفن، ولأنه يحصل أن لا تبتسم الأقدار السعيدة طويلاً لصاحبها، لم تمر بضع سويعات حتى جرد بطلنا هذا وقت سيره بالمدينة المثلجة من معطفه من قبل أيادي آدمية خبيثة تمتد لتطال أغراض الناس. لم يكن أكاكي بجسده النحيل ليقاوم سرقة معطفه، كما أن استغاثته برجال الأمن وجدت آذان صماء عمقت من شعوره بالوحدانية والدونية، وبعدم اهتمام الآخرين به كأنه حشرة أو قشة تتقاذفها الأقدام في أزقة سانت بطرسبورغ دون أن تتحسس وجودها، ليسقط أكاكي طريح الفراش وتلامس روحه السماء بعد أيام قليلة.
“هكذا اختفى وإلى الأبد كائن بشري لم يفكر في حمايته أحد على الإطلاق، واستأنفت الحياة في سان بيطرسبورغ من دون أكاكي وكأنه لم يكن موجوداً أصلاً”.
بهاته الجمل ودع الكاتب بطله، غير أن نهاية الرواية حملت معها رجوع روح أكاكي للمدينة كبشارة للأخذ بالثأر، وهذا هو جوهر الثورة التي اندلعت بروسيا خلال القرن اللاحق، إذ انبعثت الأرواح الآدمية من تحت الركام بعد أن كانت ترزح لقرون تحت نيران التسلط القيصري بمباركات الكنيسة الأرثودوكسية، وتحت ظلم البرجوازية التي جرت في فلكها!
– تقييمي للرواية:
رواية جديرة بالقراءة، رغم قصرها -وهو السبب الذي جعل البعض يصنفها في خانة القصص- إلا أنها تحتوي على تفاصيل هامة تؤرخ لمرحلة روسيا القيصرية، كشاهد على حقبة جرفتها سيول الثورة خلال القرن اللاحق.
[المصدر: موقع الشانيه]