سير

بول كارر: عبقري الكيمياء الذي كشف أسرار الفيتامينات وغيّر وجه الطب الحديث

✦ المقدمة: رجل الفيتامينات والنور البيولوجي

في زمنٍ كانت فيه الحياةُ لا تزال تحبو على دروب الكيمياء العضوية، برز اسمٌ لامع هزَّ أركان العالم العلمي، وفتح آفاقًا جديدة في فهم أحد أعقد الجوانب الحيوية في الجسم البشري: الفيتامينات. إنه بول كارر (Paul Karrer)، الكيميائي السويسري الذي استطاع أن يُرسي أسسًا جديدة لفهم المواد العضوية، ويقدّم للعالم خريطةً دقيقة لجزيئات الحياة.
نال جائزة نوبل عام 1937، لكن إنجازه الحقيقي يكمن في تحرير الإنسان من الجهل بجسمه، عبر علمه الغزير واكتشافاته الثورية.

✦ النشأة والتكوين: من موسكو إلى زيورخ

وُلد بول كارر في 21 أبريل عام 1889 في العاصمة الروسية موسكو، لأبوين سويسريين.
كان والده يعمل كممثل تجاري، وبتلك الخلفية الدولية، تشكّل وعي كارر منذ الطفولة في بيئةٍ متعددة الثقافات. انتقلت العائلة إلى سويسرا عام 1892، واستقرت في مدينة زيورخ، حيث سيقضي كارر معظم حياته اللاحقة.

منذ سنواته الأولى، أظهر الصبي شغفًا بالعلوم، خصوصًا الكيمياء، وكان مفتونًا بتجارب المختبر البسيطة التي أجراها في البيت. دخل المدرسة الثانوية في زيورخ، وهناك بزغ نبوغه في الرياضيات والكيمياء، ما شجّع عائلته على دعمه أكاديميًا.

✦ التعليم والتكوين العلمي: عبقري الكيمياء العضوية

التحق بول كارر بجامعة زيورخ، ودرس الكيمياء تحت إشراف العالم الشهير ألفريد فيرنر، الذي سيحصل لاحقًا على جائزة نوبل أيضًا.
حصل كارر على درجة الدكتوراه عام 1911، وكانت أطروحته تدور حول المركّبات العضوية المعقدة، وهو المجال الذي سيصبح لاحقًا ملعبه الأثير.

بعد التخرج، عمل مساعدًا في مختبرات فيرنر، ثم انتقل إلى ألمانيا ليعمل في مصانع الكيمياء الدوائية، حيث تعرّف عن كثب على العلاقة بين الكيمياء والطب، الأمر الذي سيؤثر كثيرًا على مسيرته.

✦ الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: بين الحرب والعلم

خلال الحرب العالمية الأولى، عاد كارر إلى سويسرا، حيث بدأ يعمل أستاذًا وباحثًا في جامعة زيورخ.
في ظل التحديات العلمية والاقتصادية التي واجهها العالم في تلك الحقبة، ركّز كارر على تحليل الأصباغ النباتية، وخاصة الكاروتينات، وهي المواد التي تعطي الجزر لونه البرتقالي، والتي تُعتبر مفتاحًا في إنتاج فيتامين A.

ورغم محدودية الموارد، نجح كارر في عزل البنية الكيميائية للكاروتين عام 1930، وربطه بيولوجيًا بفيتامين A، وهو اكتشاف هائل آنذاك.
كان هذا الاكتشاف حجر الأساس في سلسلة أبحاثه المستقبلية.

✦ الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: أبو الكيمياء الحيوية للفيتامينات

▪️ اكتشاف البنية الكيميائية للفيتامين A

واحدٌ من أعظم إنجازات كارر كان في تحديد البنية الكيميائية الدقيقة لفيتامين A، وتأكيد أن الكاروتين في النباتات يمكن أن يتحول إلى فيتامين A داخل الجسم.

“لقد كان أول من ربط بين عالم النبات وصحة الإنسان عبر جسر الكيمياء.” – مجلة Nature، 1937.

▪️ مساهمات في دراسة فيتامينات B2 و E

بعد إنجازه في فيتامين A، واصل كارر أبحاثه في مجال الفيتامينات الأخرى، مثل الريبوفلافين (فيتامين B2)، وساهم في فهم تركيب فيتامين E.
هذه الاكتشافات ساهمت في تمهيد الطريق أمام تصنيع الفيتامينات صناعيًا، وافتتحت عصرًا جديدًا في الطب الغذائي.

▪️ تطوير الصبغات العضوية والبيوكيمياء الضوئية

بالإضافة إلى الفيتامينات، كان له دور بارز في دراسة صبغات النبات مثل الكلوروفيل، وساهم في فهم آليات التمثيل الضوئي والنقل البيولوجي للطاقة.

✦ التكريمات والجوائز الكبرى

جائزة نوبل في الكيمياء – عام 1937:
تقديرًا لأبحاثه في المركّبات النباتية ذات الأهمية البيولوجية.

وسام ميرك، وسام الجمعية الملكية البريطانية، وألقاب شرفية من عدة جامعات عالمية.

● كان عضوًا في الأكاديمية الفرنسية للعلوم، والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.

يقول عنه زميله الكيميائي ريتشارد كون:
“بول كارر لا يُقاس بمختبره فقط، بل بالتغيير العميق الذي أحدثه في العلاقة بين الكيمياء والطب.”

✦ التحديات والمواقف الإنسانية

رغم انشغاله بالبحث، لم ينعزل كارر عن قضايا عصره.
خلال الحرب العالمية الثانية، رفض التعاون مع أي مشاريع علمية تخدم الأهداف العسكرية، وأصرّ على إبقاء علمه في خدمة الإنسان.
كما كان من أوائل الداعمين لمبادرات التغذية في الدول النامية، وقد ساهمت أبحاثه في فهم نقص الفيتامينات وأثره على المجاعات.

✦ الإرث العلمي والتأثير المستمر

بول كارر لم يكن مجرد باحث، بل مؤسس مدرسة كاملة في الكيمياء الحيوية.
خرّج أكثر من 200 عالم، وترك إرثًا علميًا ثريًا، ما زال يُدرّس في كليات الطب والصيدلة حول العالم.

أبحاثه مهدت الطريق لتطوير المكملات الغذائية، والوقاية من أمراض العمى وسوء التغذية، وعززت فهمنا لبيوكيمياء الخلية.

✦ الجانب الإنساني والشخصي

عُرف كارر بتواضعه الشديد، وحرصه على دعم طلابه وتشجيعهم على التفكير النقدي.
كان يرفض الأضواء، ويُفضل العمل في المختبر على الخطابات.
أسّس مؤسسات بحثية، وساهم في نشر العلم بين العامة، مؤمنًا بأن العلم يجب أن يكون في متناول الجميع.

من أبرز أقواله:
“ليست الفيتامينات مجرّد جزيئات، بل مفاتيح لفهم الحياة ذاتها.”

✦ الخاتمة: دروس من حياة بول كارر

إن قصة بول كارر ليست فقط قصة رجل نال جائزة نوبل، بل قصة إنسان آمن بأن العلم وسيلة لتحسين الحياة، ورفض أن يكون العلم حكرًا على النخبة.
من موسكو إلى زيورخ، ومن الجزر إلى الفيتامينات، ترك كارر أثرًا لا يُمحى في مسيرة الطب والكيمياء.

في زمن تتجدد فيه الأسئلة حول الصحة والغذاء والوقاية، ما زالت اكتشافاته تتحدث، وتلهم أجيالًا جديدة من العلماء والأطباء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى