سير

بويسون... رجل التعليم الذي أعاد تعريف معنى السلام

من ذلك اليوم في 20 ديسمبر 1841، بزغ نجم فرديناند بويسون (Ferdinand Édouard Buisson) الذي سيُسجَّل اسمه في صفحات التاريخ بجائزة نوبل للسلام. لم يكن مجرد إطلاق لقب نوبل على رجل، بل اعترافًا بما قدمه من إنجازات في ميادين التعليم وحقوق الإنسان والدعوة للسلام. رحلة هذا الرجل بدأت من حي بسيط في باريس، لكنها قادته إلى أعلى منصات التكريم العالمي. فكيف صنعت السنوات الطويلة هذه الشخصية الفذّة؟ ولماذا كان فوزه بجائزة نوبل علامة فارقة في سبيل “السلام الدائم”؟

 النشأة والطفولة: ملامح التكوين

وُلد فرديناند بويسون في باريس، فرنسا بتاريخ 20 ديسمبر 1841، في كنف عائلة بروتستانتية متواضعة. والده كان قاضيًا في سانت إتيان، وأمه كانت داعمة لطموحه. نشأ في بيئة اجتماعية متقلبة تحت حكم نابليون الثالث، حيث أثرت أجواء الصراعات السياسية على تكوينه الفكري، فكبر وهو يؤمن بأن التعليم هو السبيل الحقيقي للإصلاح الاجتماعي.

توفي والده وهو في سن المراهقة، ما اضطره إلى ترك الدراسة مؤقتًا لإعالة أسرته. لكنه عاد سريعًا إلى التعليم وبرزت منذ الصغر علامات النبوغ: فضول معرفي، شغف بالفلسفة، ورفضٌ للسلطة المطلقة. رفضه أداء قسم الولاء للإمبراطورية أدى لنفيه إلى سويسرا، وهي لحظة فارقة صقلت استقلاليته ومبادئه.

 التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة

بدأ بويسون تعليمه في مدارس باريس، ثم التحق بـ ليسيه كونكورديه، ومنها إلى الجامعة حيث تخصّص في الفلسفة. حصل على شهادة الإجازة في الفلسفة عام 1865، لكنه تأخر في نيل الدكتوراه حتى عام 1892 بسبب نشاطه السياسي والمهني.

عندما رفض أداء القسم للإمبراطورية، اضطر للهجرة إلى سويسرا حيث درّس في أكاديمية نيشاتيل بين عامي 1866 و1870، وهناك بدأ يضع أفكاره حول التعليم الحديث، وحضر مؤتمر جنيف للسلام في عام 1867 ليطرح فكرته الشهيرة عن “الولايات المتحدة الأوروبية”.

 الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير

بعد عودته إلى فرنسا عام 1871 عقب سقوط نابليون الثالث، عُيّن مفتشًا عامًا للتعليم الابتدائي في باريس. وفيما يلي جدول لأهم محطاته المهنية:

الفترة المنصب أو المشروع التحديات والنجاحات
1871 مفتش التعليم الابتدائي بباريس مقاومة تدخل الكنيسة في التعليم
1879 – 1896 مدير التعليم الابتدائي في فرنسا إرساء قواعد التعليم المجاني والعلماني
1896 – 1902 أستاذ التربية في جامعة السوربون تحرير موسوعة التربية
1902 – 1914 نائب في البرلمان الفرنسي الدفاع عن حقوق المرأة والسلام

خلال توليه إدارة التعليم، دعم قوانين جول فيري الشهيرة عامي 1882 و1886، والتي جعلت التعليم ابتدائيًا، مجانيًا، وإلزاميًا، وغير ديني.

الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي

من أبرز إنجازات بويسون:

  1. قانون التعليم المجاني والإلزامي (1882): أحدث تحولًا في بنية المجتمع الفرنسي، حيث أصبح التعليم متاحًا للجميع.
  2. قانون العلمانية (1905): ساهم في فصل الدين عن الدولة، خصوصًا في المجال التعليمي.
  3. موسوعة التربية والتعليم الابتدائي (1878–1887): مشروع ضخم تعاون فيه مع أكثر من 350 خبيرًا، ليصبح مرجعًا رئيسيًا في علم التربية.

السلام يبدأ بالتعليم، والتعليم يبدأ بحرية الضمير – فرديناند بويسون

لحظة نوبل: القمة المنتظرة

في 10 ديسمبر 1927، منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للسلام مناصفة مع لودفيغ كويْد، تقديرًا لدورهما في تعزيز المصالحة الفرنسية-الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وتأسيس مناخ سياسي مسالم داخل أوروبا.

بيان لجنة نوبل قال:

لقد كرس حياته بلا كلل للدفاع عن حقوق المظلومين، ويمثل أحد أرقى الشخصيات في السياسة الفرنسية.

تفاعل بويسون مع الجائزة كان متواضعًا؛ أهدى الجائزة لمعلمي المدارس الابتدائية الفرنسيين، وتبرع بجزء كبير من قيمتها لمشاريع السلام والتعليم.

 التحديات والإنسان وراء العبقرية

لم يكن طريق بويسون مفروشًا بالورود. فقد تعرض للضغوط الدينية والسياسية، وفُصل من منصبه أكثر من مرة بسبب دفاعه عن التعليم العلماني. كما تعرض للاعتداء الجسدي خلال ندوة عام 1928 على يد طلاب معارضين لفكره.

لكنه لم يتراجع أبدًا. بل بقي مخلصًا لقناعته بأن التعليم الحر هو أساس الديمقراطية، وظل يُدافع عن القيم الإنسانية رغم كل التهديدات والانتقادات.

الجوائز والإرث: ما تركه للعالم

إلى جانب نوبل، حصل بويسون على:

  • وسام جوقة الشرف برتبة ضابط كبير (1924)
  • ميدالية مارسيلين جرين من الأكاديمية الفرنسية
  • أوسمة تقديرية من عدة دول أوروبية

وقد ترك أكثر من 40 مؤلفًا، ومئات المقالات التربوية، وساهم في تطوير مناهج التعليم في فرنسا بشكل جوهري، حتى أصبحت بصمته واضحة في كل مدرسة فرنسية اليوم.

 الجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز

كان بويسون مؤمنًا بقدرة الإنسان على التغيير. شارك في مشاريع خيرية، وأسّس ملاجئ للأطفال بعد الحرب الفرنسية-البروسية. كما كان من أوائل من دعوا إلى حقوق المرأة في التعليم، وأسس جمعيات لمناصرة اللاجئين والمضطهدين.

لا يمكن للمجتمعات أن تبني السلام إلا حين تزرعه أولًا في عقول أطفالها. – فرديناند بويسون

ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود

بعد فوزه بجائزة نوبل، انسحب تدريجيًا من الحياة العامة، واستقر في منطقة Thieuloy-Saint-Antoine حيث واصل الكتابة والتأمل. توفي في 16 فبراير 1932 عن عمر ناهز 90 عامًا.

خلّده الفرنسيون بإطلاق اسمه على أكثر من 100 مدرسة وشارع، ولا يزال يُذكر بوصفه الأب الروحي للتعليم الحديث في فرنسا.

الخاتمة: أثر خالد

من حيّ فقير في باريس، إلى منصة نوبل العالمية، رسم فرديناند بويسون مسارًا ملهمًا لكل من آمن بأن الكلمة والتعليم هما أقوى من السيف. لم يكن عالمًا فقط، بل كان إنسانًا يرى في كل طفل مشروع سلام. سيرة فرديناند بويسون هي حكاية إيمان عنيد بالعلم والضمير والحرية، وهي تلهمنا اليوم كما في الأمس، لنزرع بذور المعرفة ونبني عالمًا أفضل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى