سير

بيتر ديباي: عبقري الفيزياء الذي غيّر فهمنا للجزيئات

 إشعال الفضول: بداية الحكاية

في زقاق ضيق من شوارع ماستريخت بهولندا، وُلد في صباح يوم 24 مارس 1884 حلم صغير سيغيّر العالم إلى الأبد. ذلك الحلم حمل اسم بيتر جوزيف ويلهلموس ديباي، الطفل الذي سيكبر ليصبح أحد رواد الفيزياء الكيميائية في القرن العشرين، وصاحب البصمة الخالدة في علم الجزيئات.
في عام 1936، وقف ديباي على منصة الشرف ليتسلم جائزة نوبل في الكيمياء، بعد أن أحدث ثورة علمية في فهم البنية الجزيئية للمادة. لم يكن طريقه سهلاً، لكنه سلكه بشغف، وترك إرثًا حيًّا يتردد صداه حتى اليوم في مختبرات الكيمياء والفيزياء.

ملامح التكوين: النشأة والطفولة

وُلد ديباي في مدينة ماستريخت، لعائلة هولندية بسيطة. كان والده مدير مصنع، ووالدته سيدة منزل تهتم بأدق تفاصيل أسرته. في طفولته، جذبته الظواهر الطبيعية من حوله، فكان يمضي ساعات يتأمل حركة المياه، ويطرح الأسئلة التي تتجاوز عمره.
في تلك البيئة البسيطة، لم تكن الفرص متاحة بسهولة، لكن ذكاءه لفت أنظار معلميه، فشجعوه على مواصلة تعليمه. كان يهوى الرياضيات والميكانيكا، وكان يصنع أجهزة بسيطة في المنزل، في محاكاة طفولية مبكرة للعالم الذي سيصبحه لاحقًا.

 خطوات نحو القمة: التعليم والمسار الأكاديمي

في عام 1901، التحق ديباي بـ معهد آخن للتكنولوجيا لدراسة الهندسة الكهربائية، وتخرج منه عام 1905. لم يكن راضيًا بمجرد الشهادة، فسعى لنيل الدكتوراه، والتي حصل عليها في 1908 من جامعة ميونيخ، تحت إشراف الفيزيائي الكبير أرنولد سومرفيلد.
كانت أطروحته تتناول الظواهر الكهرومغناطيسية، وسرعان ما أثبت أنه أكثر من مجرد طالب موهوب؛ بل عقل علمي نادر. بعد عامين فقط، بدأ التدريس في الجامعة ذاتها، وبدأت رحلته الأكاديمية في التألق.

أولى خطوات التأثير: الانطلاقة المهنية

بدأ ديباي في نشر أبحاثه العلمية منذ عام 1912، وتنوعت بين موضوعات الحرارة النوعية، والحيود بالأشعة السينية، والعزوم ثنائية القطب للجزيئات. تولّى مناصب تدريسية في جامعات مرموقة: زيورخ، أوترخت، غوتنغن، لايبزيغ، وبرلين.

أبرز المحطات:

السنة الإنجاز
1912 قانون ديباي للحرارة النوعية في المواد الصلبة
1912 تقديم مفهوم العزم ثنائي القطب الجزيئي
1915 تطوير تقنية الحيود بالأشعة السينية (مع باول شيرر)
1923 صياغة معادلة ديباي–هوكل لتفسير سلوك الأيونات في المحاليل

 التغيير الحقيقي: الإنجازات الثورية

قدم ديباي سلسلة من الإسهامات التي شكلت ثورة علمية في مجاله:

  • قانون الحرارة النوعية (1912): ساعد في تفسير كيفية تغير الحرارة النوعية للمواد الصلبة عند درجات الحرارة المنخفضة، ما دعم لاحقًا تطور ميكانيكا الكم.
  • العزم ثنائي القطب: استخدم هذا المفهوم لتحليل التركيب الجزيئي، وأصبحت وحدة “ديباي” مرجعًا عالميًا لقياس هذه الخاصية.
  • تحليل الأشعة السينية: مع باول شيرر، طوّر تقنية تحليل مسحوق البلورات بالأشعة السينية، والتي فتحت آفاقًا جديدة لفهم البنية البلورية للمواد.
  • معادلة ديباي–هوكل: فسّرت هذه المعادلة سلوك الأيونات في المحاليل الكهارلية، وكانت ثورة في الكيمياء الفيزيائية.

إذا بدا الحل بسيطًا جدًا، فقد يكون غير صحيح علميًا. — بيتر ديباي

 لحظة نوبل: القمة المنتظرة

في 10 ديسمبر 1936، حصل بيتر ديباي على جائزة نوبل في الكيمياء، “لمساهماته في فهم التركيب الجزيئي من خلال دراساته حول العزم ثنائي القطب، وتحليل الأشعة السينية، والخصائص الإلكترونية للغازات”.

كان فوزه تتويجًا لعقود من العمل الدؤوب، وساهم في تعزيز مكانة الفيزياء الكيميائية في البحوث العالمية.

 الإنسان في قلب التحديات

رغم النجاحات، واجه ديباي تحديات شخصية ومهنية. مع تصاعد الاضطرابات السياسية في ألمانيا في الثلاثينات، اضطر إلى مغادرة البلاد. وفي عام 1940، هاجر إلى الولايات المتحدة، واستقر في جامعة كورنيل كأستاذ ومدير لقسم الكيمياء.
واجه لاحقًا مزاعم بأنه تعاون مع النظام النازي، لكن لجنة تحقيق هولندية مستقلة عام 2008 برأته من أي تواطؤ، وأكدت أنه لم يكن مؤيدًا سياسيًا وإنما تابعًا وظيفيًا اضطراريًا.

ما تركه للعالم: الجوائز والإرث

حاز ديباي خلال حياته على العديد من الجوائز:

  • ميدالية لورنتز (1935)
  • ميدالية ماكس بلانك (1950)
  • ميدالية بريستلي من الجمعية الكيميائية الأمريكية (1963)
  • أكثر من 20 دكتوراه فخرية

ترك خلفه أكثر من 200 ورقة بحثية، كما أن اسمه ما زال مرتبطًا بوحدات ومعادلات تدرّس في الجامعات.

الروح خلف الإنجاز

كان ديباي معروفًا بدماثة خلقه وتواضعه، رغم عبقريته. كان يُحب مشاركة المعرفة، ويؤمن بأن “العلم يجب أن يُفهم لا أن يُخيف”. تميز بعلاقته الطيبة مع طلابه، وكان يؤمن بقوة التعاون العلمي متعدد التخصصات.

 ما بعد نوبل: الاستمرار حتى الخلود

ظل ديباي نشطًا علميًا حتى بعد تقاعده من كورنيل عام 1952. واصل الكتابة والإشراف على الأبحاث، حتى وافته المنية في 2 نوفمبر 1966 في إيثاكا، نيويورك، عن عمر يناهز 82 عامًا.

بعد وفاته، تم تكريمه بإطلاق اسمه على العديد من المراكز العلمية، مثل معهد ديباي للفيزياء في أوترخت، وأُدرج ضمن الشخصيات الخالدة في تاريخ الفيزياء والكيمياء.

 أثر خالد

من بدايات متواضعة في هولندا، إلى منصة نوبل العالمية، شكلت رحلة بيتر ديباي قصة إلهام لا تنسى. ليس فقط لأنه فكك أسرار الجزيئات، بل لأنه مثّل نموذجًا لعالم لا تغريه الشهرة، بقدر ما يسحره الاكتشاف.

سيرة بيتر ديباي تظل واحدة من ألمع صفحات تاريخ جائزة نوبل، ودليلًا على أن الفضول والمعرفة قادران على تغيير العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى