بيرسي و. بريدجمان: رائد الضغوط العالية الذي أعاد تشكيل فهمنا للمادة

المقدمة: حين يتجاوز الإنسان حدود الطبيعة
في عالمٍ يحاول فيه العلماء فهم مخبآت المادة، كان هناك رجل قرّر ألا يكتفي بالمشاهدة من بعيد، بل أراد أن يعرف: كيف تتصرّف الأشياء عندما تُوضع تحت ضغط يفوق ما تتحمله الطبيعة نفسها؟
إنه بيرسي و. بريدجمان، الرجل الذي دفع حدود العلم إلى مناطق لم يصل إليها أحد من قبله، ووضع بصمة لا تُمحى في فيزياء الضغط العالي.
ولعل أعظم ما يُقال عن إنجازاته ما كتبه أحد زملائه:
“لم يكن بريدجمان يطرق باب الطبيعة… بل كان يقتحم مغاليقها.”
هذه هي سيرة بيرسي و. بريدجمان، قصة عالمٍ لم يجعل من التجربة وسيلة فحسب، بل جعل منها فلسفة حياة.
النشأة والتكوين: طفل يبحث عن النظام في عالم فوضوي
وُلد بيرسي ويليامز بريدجمان في 21 أبريل 1882 بمدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. كانت أسرته ذات مستوى ثقافي جيد، إذ عمل والده موظفًا في جامعة هارفارد، ما جعل الطفل يعيش في بيئة تُقدّس المعرفة والدراسة والفضول المعرفي.
تميز بريدجمان منذ طفولته بميول واضحة نحو التجريب. لم يكن يحب اللعب التقليدي؛ بل كان يقضي وقتًا طويلًا يتفحص الأشياء، يفكك الألعاب والآلات الصغيرة ليرى ما بداخلها. كان يسأل أسئلة غير مألوفة بالنسبة لطفل في عمره:
“لماذا تتحرك هذه القطعة بهذا الشكل؟”
“هل يمكن جعلها تعمل تحت حرارة أعلى؟”
هذه الروح الطفولية، النهمة للاكتشاف، كانت اللبنة الأولى في حياة بريدجمان العلمية.
التعليم وبداية التكوين المهني: حين يصبح الشغف مسارًا
دخل بريدجمان جامعة هارفارد في عام 1900، وبدأ دراسة الفيزياء، وهناك اكتشف عالمًا كاملًا يتناغم مع أسئلته الداخلية.
في قاعات هارفارد المختبرية، تعرّف على مفهوم جديد آنذاك: الضغط العالي.
كان معظم الفيزيائيين مشغولين بالكهرباء والضوء والطاقة، بينما جذب انتباه بريدجمان سؤال آخر:
“كيف تتغير خصائص المادة عندما نضغط عليها بما هو أبعد من قدرة الطبيعة نفسها؟”
حصل على درجة الدكتوراه عام 1908، وكانت رسالته بداية مشروع عمره: أجهزة الضغط العالي التي جعلته أشهر من تعامل مع المادة في ظروف قاسية.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: عبقرية صنعتها التجارب والحديد
لم تكن بدايات بريدجمان سهلة. فقد كان عليه ابتكار أدوات من الصفر.
في تلك الفترة، لم تكن أجهزة الضغط العالي متوفرة في السوق، ولم يكن هناك دليل تقني لبنائها. ولذا كان عليه:
- تصميم الآلات
- تصنيع القطع المعدنية بنفسه
- إصلاح الأعطال
- تطوير أنظمة أمان
- كتابة ملاحظاته ومراقبة النتائج بالميكرومتر
بمعنى آخر: كان عالمًا، ومهندسًا، وفنيًّا، وصانع أدوات في الوقت نفسه.
📌 جدول زمني مبسّط لأهم محطات الانطلاقة
| السنة | الحدث |
|---|---|
| 1908 | حصوله على الدكتوراه من هارفارد |
| 1910 | نشر أول بحث عن خصائص المواد تحت الضغط العالي |
| 1915 | تطوير أول جهاز ضغط يصل إلى 20,000 ضغط جوي |
| 1925 | تجاوز ضغط 100,000 ضغط جوي لأول مرة في التاريخ |
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: حين تجاوز ضغط الطبيعة
1. رائد فيزياء الضغط العالي
أكبر إنجازات بيرسي و. بريدجمان هو خلق هذا الحقل العلمي من الأساس.
فقد كان أول من ابتكر أجهزة قادرة على توليد ضغوط هائلة، سمحت بفهم:
- تغير خصائص المعادن
- تحولات المادة
- سلوك البلورات
- الانتقالات الطورية
لقد غيّر بريدجمان الطريقة التي يرى بها العلماء طبيعة المادة، وكان تأثيره كبيرًا لدرجة أن العالم اليوم لا يمكنه تخيل علم الجيولوجيا، وهندسة المواد، وفيزياء الكواكب من دون الأسس التي وضعها.
2. تطوير “ختم بريدجمان”
ابتكر تقنية عبقرية للتحكم في الضغط داخل الأنابيب المعدنية، عُرفت باسم:
Bridgman Seal – “ختم بريدجمان”
التي كانت أساسًا للتجارب المستقبلية في معامل العالم، وهي ما زالت تُستخدم حتى اليوم.
3. فهم التحولات الطورية للمادة
ساهمت أعماله في تفسير كيف تنتقل المادة من:
- الحالة الصلبة إلى الصلبة (من شكل بلوري لآخر)
- الحالة الصلبة إلى السائلة
- الحالة السائلة إلى حالات أخرى غير مألوفة
وقد أحدث هذا ثورة في فيزياء المواد.
4. تأثيره على علوم الكواكب
أظهرت تجارب بريدجمان كيف يمكن للمادة أن تتصرف تحت ضغوط مشابهة لتلك الموجودة في:
- قلب الأرض
- باطن الكواكب العملاقة
- المواد المكونة للنيازك
بهذا أصبح أحد المؤسسين غير المباشرين لعلوم فيزياء الكواكب.
التكريمات والجوائز الكبرى: تتويج مسيرة علمية غير مسبوقة
في عام 1946، حصل بيرسي و. بريدجمان على:
جائزة نوبل في الفيزياء
“تقديرًا لاختراعاته واكتشافاته في مجال الفيزياء تحت الضغوط العالية”.
جاء هذا الفوز تتويجًا لأربعة عقود من العمل الشاق، ومئات التجارب، والآلاف من الساعات التي قضاها داخل غرفة المختبر الضيقة.
كتب في خطاب نوبل:
“إن التجربة ليست وسيلة لفهم الطبيعة فحسب… بل هي طريقة للتفكير.”
التحديات والمواقف الإنسانية: صراع العالم مع الألم والمعنى
على الرغم من نجاحه العلمي، عاش بريدجمان حياة شخصية معقدة.
فقد كان يعاني منذ سنوات طويلة من مشاكل صحية متزايدة، وأزمات نفسية مرتبطة بالتقدم في العمر.
وفي 20 أغسطس 1961، اتخذ قرارًا مأساويًا بإنهاء حياته، تاركًا رسالة قصيرة كتب فيها جملة شهيرة أصبحت محل دراسة:
“يا لها من طريقة سخيفة للموت… ليست بالطريقة التي أريد أن أعيش بها.”
ورغم قساوة الحدث، فإن سيرته بقيت مصدر إلهام من جهة، ودرسًا عميقًا عن ثمن العبقرية من جهة أخرى.
الإرث والتأثير المستمر: أثر لا يُمحى في العلم
تراث بريدجمان العلمي لا يزال حاضرًا بقوة في:
- تقنيات تصنيع المواد الجديدة
- دراسة قلب الأرض
- الصناعات العسكرية
- فيزياء الضغط فوق العالي
- علوم الكواكب
- هندسة المعادن
كما أن كتبه، مثل:
- The Physics of High Pressure
- The Logic of Modern Physics
تعد مرجعيات أساسية للباحثين.
الجانب الإنساني والشخصي: شخصية عميقة وفلسفية
كان بريدجمان صريحًا، صارمًا، ومنضبطًا.
كان يرى في العلم طريقًا للحقيقة، لكنه لم يكن منغلقًا؛ فقد كتب في إحدى مذكراته:
“الفضول هو الشيء الذي يجعل الإنسان يتجاوز حدود ذاته.”
كما كان صديقًا لعدد كبير من العلماء، وداعمًا للمواهب الشابة، ويشجع زملاءه على التفكير بحرية وعدم الخضوع للمسلمات.
الخاتمة: الدروس المستفادة من رحلة بريدجمان
إن سيرة بيرسي و. بريدجمان هي رحلة إنسان آمن بأن الحقيقة لا يمكن أن تُعرف إلا عبر التجربة المباشرة، وأن حدود المعرفة يمكن أن تتوسع كلما توسعت أدواتنا العقلية والتجريبية.
من أهم الدروس:
- الشغف يمكن أن يصبح علمًا.
- التجربة هي الطريق الأقصر لفهم الطبيعة.
- الإبداع يولد حينما يصرّ الإنسان على تجاوز المعتاد.
- العبقرية لا تنفصل عن المعاناة الإنسانية.
لقد كانت إنجازات بيرسي و. بريدجمان علامة فارقة في العلم الحديث، وسيبقى تأثيره ممتدًا لأن العلماء اليوم يبنون على ما أسسه قبل أكثر من قرن.



