كتب

بين الدواء والجودة: رحلة في فكر د. عمر جعوان نحو صناعة دوائية آمنة

المقدّمة

في عصرٍ باتت فيه صناعة الدواء من المحاور الحيوية لأي نظام صحي واقتصادي، يتزايد الاهتمام بـ «الجودة» كعنصر أساسي لا غنى عنه في كل مرحلة من مراحل التصنيع، من المواد الخام إلى المنتج النهائي وإمداده للمستهلك. يأتي كتاب «الجودة والصناعة الدوائية» ليس فقط كمرجع نظري، بل كمحصّلة لتجربة عملية تمتد لأكثر من أربعة عقود من عمل المؤلف في مداخل ومخارج الصناعة الدوائية.
المؤلف يُقدّم لنا في هذا الكتاب رؤية مركّزة لأهمية الجودة وكيفية تحقيقها وإدارتها في صناعة الأدوية، التي تمزج بين العلم، والإدارة، والتنظيم، والممارسة الصناعية.
هدف هذه المقالة هو: التعريف بالكتاب، إبراز محاوره الأساسية، تحليل أهم أفكاره، وربطه بالواقع الصناعي، ثم تقديم توصيات إنشائية على ضوء ما ورد فيه.

عن المؤلف وسياق الكتاب

المؤلف

د. عمر عبدالحفيظ جعوان، يمتلك خبرة تمتد لأكثر من أربعين عاماً في صناعة الأدوية، وهو ما يُشير إليه بنفسه في كتابه:

«… العقود الأربع الماضية التي قضيتُ معظمها في مداخل الصناعات الدوائية ومخارجها…»
لذا، فإن الكتاب إنما هو نتاج تجربة عملية، وليس مجرد جمعاً نظرياً للمفاهيم.

سياق النشر

نُشر الكتاب عام 2023 ضمن تصنيف “كتب عامة” رغم أن موضوعه يرتبط بمجال صناعي وتخصصي، ما يعكس رغبة المؤلف في أن يُنقل المفهوم للممارسين والمهتمين وليس فقط للمتخصصين.
عدد الصفحات بحسب إحدى المصادر هو 138 صفحة.
الناشر: «الآن ناشرون وموزعون».

ما الذي دفع إلى تأليف هذا الكتاب؟

وفقاً للمؤلف، فإن الزخم العملي الطويل في هذا القطاع علمه الكثير، وليس الهدف نقل مفاهيم جديدة بالكامل بل تقديم «انعكاسٍ للمعرفة التي جنيتها والفهم الذي تَكَوَّن لديّ لما يدور في تلك الصناعة».
وبالتالي، الإسقاط العملي لوباء الجودة في الصناعة الدوائية هو محور الكتاب.

موضوع الكتاب: الجودة في الصناعة الدوائية

مفهوم الجودة

ينطلق الكتاب من أن الجودة ليست مفهوماً مهماً فقط، بل هي «حالة مطلوبة في كل جزئية من مكونات الحياة… وهي معرفة ومفهوم وعلم ونظام».
وبهذا، يُعيد المؤلف تأكيد أن الجودة في الصناعة الدوائية لها بعدين: البُعد الإنساني/القيمي (ضمان سلامة الإنسان) والبُعد الصناعي/التقني (ضمان مطابقة المواصفات والمعايير).

لماذا الصناعة الدوائية خصوصاً؟

الصناعة الدوائية تختلف عن كثير من الصناعات الأخرى بسبب أنها «تمسّ صحة الإنسان وحياته». أي أن أي خلل في الجودة قد يؤدي إلى نتائج خطيرة، من تلفِ المنتج إلى مخاطر صحية أو قانونية أو اقتصادية.
لذلك فإن الجودة في هذا السياق لا تقتصر على «إنتاج دواءً صالحاً»، بل على التأكد من أن المنتج فعال، آمن، مُطابق للمواصفات، وموزّع في الوقت المناسب.

التحديات في الصناعة الدوائية

يُشير الكتاب إلى أن الصناعة الدوائية تواجه تحديات متعددة:

  • تنوّع المواد الخام ومورّدوها، الأمر الذي يجعل إدارة الجودة أكثر تعقيداً.
  • الإجراءات التنظيمية الكثيفة والمواصفات الدولية التي يجب الالتزام بها.
  • التحديث التقني والمعدّات، إذ الصناعة تتطلّب استثمارات ضخمة والتزاماً بالتكنولوجيا المتقدمة.
  • سلسلة الإمداد والتوزيع، حيث جودة المنتج يجب أن تُحفظ من لحظة التصنيع حتى وصوله للمستهلك.
  • الضغط الاقتصادي والمنافسة، الأمر الذي قد يدفع بعض المؤسسات لتقصير خطوات الجودة إن لم يكن هناك حافز أو نظام رقابي فعال.

فصول الكتاب ومحاوره الأساسية

رغم أن الكتاب ليس منظّماً بفصول كبيرة مُعلَمة، فإن من خلال ما ورد في المراجع يمكن استخلاص المحاور الرئيسة التالية:

1. مدخل إلى الجودة

في هذا الجزء يعرض المؤلف مفهوم الجودة، تاريخها، وأهميتها في الصناعة عموماً، ثم يخصّها بصناعة الأدوية. يتحدّث عن أن الجودة ليست «رفاهية» بل «ضرورة» في صناعة تشكّل جزءاً من الصحة العامة.

2. الجودة في منظومة التصنيع الدوائية

هنا يتناول المؤلف مراحل التصنيع: من المواد الخام، المكونات النشطة، التجميع، التعبئة، التخزين، والتوزيع. لكل مرحلة منهجيتها الخاصة في ضمان الجودة، مثل التأكد من جودّة المكونات الداخلة، الرقابة أثناء التصنيع، البيئة الصنعية (نقاء الهواء، تعقيم المعدات)، والتعبئة والتغليف.

3. المعايير والمواصفات والممارسات الجيدة (GMP)

من الضروري في الصناعة الدوائية الالتزام بـ Good Manufacturing Practice (GMP) والمعايير الدولية. ويشير المؤلف إلى أن هذه المعايير ليست فقط شكلية، بل تُمثّل ثلاثة أبعاد: الجودة، السلامة، الفعالية.

4. التحديات التشغيلية والشرائح التقنية والجودة المستمرة

يتناول المؤلف موضوع التحديث التقني، تدريب الكوادر، صيانة المعدات، الموثوقية، والتحسين المستمر. فهو يرى أن الجودة ليست مرحلة ثابتة تُنجز، بل نظام ديناميكي يحتاج إلى استمرارية وابتكار.

5. الرقابة الداخلية والخارجية، والتوثيق

يُبرز أهمية وجود نظام رقابة داخلي فعّال، توثيق جيد لكل مرحلة، وكذلك الرقابة الخارجية من الجهات التنظيمية. الوثائق (سجلات الإنتاج، سجلات الجودة، مراجعات ما بعد السوق) تشكّل العمود الفقري لنظام الجودة.

6. الجودة وسلسلة التوريد والتوزيع

لا تنتهي الجودة عند خط الإنتاج فقط، بل تمتد لتشمل سلسلة التوريد—اختيار الموردين، التخزين، النقل، التوزيع، وصولاً إلى المستهلك. أي خلل في أحد هذه المراحل قد يفتّت نظام الجودة.

7. الاتجاهات المستقبلية والتوصيات

في ختام الكتاب، يقدم المؤلف توصياتٍ مختصرة لقطاع الصناعة الدوائية، تُركّز على: الاستثمار في الكوادر، التحديث التقني، الثقافة المؤسسية للجودة، والارتباط بين الجودة والاقتصاد الداخلي والخارجي.

تحليل نقدي لأبرز أفكار الكتاب

الإيجابيات

  1. خبرة عملية: الكتاب واضح في كونه مستنداً إلى تجربة مطوّلة، وليس مجرد تجميع نظري. هذا يعطيه مصداقية.
  2. شمولية الموضوع: يغطي المؤلف تقريباً جميع مراحل الصناعة الدوائية من زاوية الجودة، مما يجعله مرجعاً جيداً لمن يعمل أو يهمّه المجال.
  3. لغة واضحة وموجزة: بالرغم من أن الموضوع تقنيّ، إلا أن المؤلف يسعى لجعله مفهوماً لغير المتخصص، ما يزيد من دوره في التعليم أو التوعية. كمثال، وصفه بأن المفاهيم التي تكونت لديه «مفاهيم مناسبة… لأنها انتقلت إليّ من أساتذة المهنة وقياداتها».
  4. تركيز على الجودة كقيمة وليس فقط تقنية: يرى المؤلف الجودة ليس كميزة تسويقية فحسب، بل كمسؤولية صناعية وإنسانية.

الملاحظات / بعض النقاط التي يمكن النظر فيها

  1. عدم العمق في بعض الجوانب التقنية: نظراً لأن الكتاب موجّه أيضاً لمن غير المتخصصين، قد لا يتعمّق في بعض النماذج أو تحليل القضايا المعقّدة مثل التأثيرات الإحصائية أو تحليل المخاطر التفصيلي.
  2. قلة أمثلة من الواقع العربي: يبدو أن معظم النصوص والأمثلة مستمدة من تجربة المؤلف أو من ممارسات عامة، لكن ربما كان من المفيد إدراج دراسات حالة مفصلة في المنطقة العربية – وهو مجال يحتاجه القارئ العربي.
  3. تحديات التحديث وتكنولوجيا الصناعة المتقدمة: رغم الإشارة إلى أنها ضرورية، إلا أن الكتاب ربما لم يعالج تفصيلياً كيفية تنفيذ التحديث في الدول النامية التي تواجه تحديات بنيوية (مثل نقص التمويل أو البنية التحتية).
  4. ربط الجودة بالاقتصاد الوطني والسياسة الصناعية: في حين أن الجودة تُعرض من زاوية صناعية، كان يمكن توسعة المناقشة لربطها مباشرة بسياسات التصنيع المحليّ، التصدير، المنافسة الدولية، وتوطين التكنولوجيا.

ارتباط الكتاب بالواقع العربي والإقليمي

من المهم ربط ما عرضه الكتاب بما يحدث فعلياً في صناعة الأدوية في الدول العربية والإقليمية:

  • دراسة بعنوان “تأثير تكامل جودة سلسلة التوريد على براعة سلسلة التوريد بشركات قطاع الأعمال العام بالصناعات الدوائية بمصر” أكّدت أن هناك تأثيراً إيجابياً لتكامل الجودة الداخلية والمورد والعميل على فعالية سلسلة التوريد.
  • كذلك، الجائحة العالمية لـCOVID‑19 أعادت التأكيد على أن الصناعات الدوائية بحاجة إلى أن تكون ذات جودة عالية وقادرة على ضمان الأمن الدوائي.
  • في لبنان مثلاً، زيارة تفقدية لمصنع دوائي بيّنت أن “جودة الأدوية العالية” هي هدف واضح، وأن الإنتاج المحلي في الشرق الأوسط يسعى للمواصفات العالمية.

هذه الأمثلة تؤكد أن ما ينادِ به المؤلف من أهمية الجودة ليس نظرية مراكمة بل واقع ملموس في الصناعة الدوائية العربية.

توصيات مُستخلَصة من الكتاب

بناءً على ما ورد في الكتاب وتحليلنا له، إليك توصيات موجهة لمختلف الأطراف المعنيّة:

  1. للمصانع الدوائية:
    • تبنّي ثقافة الجودة بشكل مؤسسي، بحيث يُحمّل كل موظف جزءاً من مسؤولية الجودة وليس فقط إدارة الجودة أو القسم التقني.
    • تحديث التكنولوجيا والمعدات بما يتوافق مع المعايير الدولية (GMP)، والالتزام بالصيانة والتوثيق.
    • اختيار مورّدين ذوي سُمعة معتمدة، وضبط جودة المواد الخام قبل الدخول لخط الإنتاج.
  2. للمؤسسات التنظيمية والهيئات الصحية:
    • تعزيز الرقابة والتوثيق، وإضافة آليات لتقييم الجودة بعد السوق (Post-market surveillance).
    • توفير برامج تدريب مستمرّة للعاملين في الصناعة الدوائية في الدول العربية، لرفع الكفاءة التقنية والإدارية.
  3. للباحثين وأكاديميي الصيدلة والصناعة:
    • مزيد من الدراسات الحقلية في البلدان العربية لقياس واقع الجودة، والتحديات التي تواجهها، وكيفية تطبيق توصيات الكتب مثل هذا في السياق المحلي.
    • إدراج موضوع الجودة في المناهج الأكاديمية الصناعية والصيدلانية، ليس فقط من وجهة النظر التقنية بل من وجهة النظر الإدارية والتنظيمية.
  4. لصانعي القرار الاقتصادي:
    • ربط سياسة التصنيع الدوائي المحلي بتحقيق الجودة، فمنتج ذو جودة عالية يُسهّل التصدير ويعزّز تنافسية الدولة.
    • دعم التحديث والاعتماد الدولي للمصانع الدوائية كمساهمة في الأمن الدوائي الوطني.
  5. للقارئ العام / المهتم:
    • قراءة هذا النوع من الكتب يفتح الأفق لفهم كيف أن «الدواء» ليس مجرد منتج يُشترى ويُؤخذ، بل نظام معقّد من البحث، التصنيع، الجودة، التوزيع، والتوثيق.
    • الوعي بمكانة الجودة في الصحة العامة، وأن أي تقصير فيها قد يكون له تبعات تتعدى الربح أو الإنتاج.

خلاصة

كتاب «الجودة والصناعة الدوائية» لد. عمر عبدالحفيظ جعوان يُشكّل إضافة مهمة للقراءة العربية في حقل صناعة الأدوية، خصوصاً من منظور الجودة. إنه ليس فقط مرجعاً فنياً، بل تأمّلٌ وتجربة خلفتها أربعون عاماً في هذا المجال، عرض فيها المؤلف مفاهيم الجودة، مراحل صناعة الدواء، والتحديات التقنية والإدارية المرتبطة بها.
عند قراءته، يدرك القارئ أن الجودة في هذا القطاع ليست خياراً، بل ضرورة حتمية، وأن الاستثمار في الجودة هو استثمار في صحة الإنسان وفي استدامة الصناعة والاقتصاد.
إذا كان عليّ أن أشدّد على نقطة واحدة فهي: الجودة لا تُحقق بمجرد شرائع أو شهادات، بل بثقافة مؤسسية، التزام مستمر، تحسين دائم، وربط بين التقنية، الإدارة، والممارسة الصناعية.

 

لمعرفة المزيد: بين الدواء والجودة: رحلة في فكر د. عمر جعوان نحو صناعة دوائية آمنة

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى