قصص

بين الرضا والكرم: حكاية التسليم والحكمة.. الليلة ٤٨

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية النبيلة لما قالت هذا الكلام لذُكِيَّا، وهو يسمعه، أخذته النخوة والحِمية وغيرَة الأبطال، وأراد أن يظهر لها نفسه، ويبطش بها، ولكن رده عنها فرط جمالها، وبدِيع حسنها، فأنشد هذا البيت:

وإذا المَليحُ أتى بذَنَبٍ واحدٍ جاءت محاسنه بألف شفيع

ثم صعدت وهو في أثرها، فنظر كان إذا ظهر الجارية، فرأى أردافها تتلاظم كالأمواج في البحر الرجاج، فأنشد هذه الأبيات:

في وجهها شافعٌ يمحو إساءتها من القلوب، ووجهٌ حيثما شفع إذا تأملته نادت منه عجَبُ البدر في ليلة الإكمال، قد طلع لو أن عفريت بلقيس يصارعها مع وصف قوته في ساعة صراع

ولم يزل سائرين حتى وصلوا إلى باب مقنطر، وكانت قنطرته من رخام، ففتحت الجارية الباب ودخلت ومعها كان، وسار إلى دهليز طويل مقبَّى على عدد قناطر معقودة، على كل قنطرة قنديل من البلّور يشتعل كاشتعال الشمس، فلقيتها الجواري في آخر الدهليز بالشموع المطيبة، وعلى رؤوسهن العصائب المزركشة بالفصوص من أصناف الجواهر، وسارت وهن أمامها وكان وراءها إلى أن وصلوا إلى الدير، فوجد بدائر ذلك الدير أئمة مقابلة لبعضها، وعليها ستور مكَللة بالذهب، وأرض الدير مفروشة بأنواع الرخام المجزَّع، وفي وسطه بركة ماء عليها أربع وعشرون قارورة من الذهب، والماء يخرج منها كالثلج، ورأى في الصدر سريراً مفروشًا بالحرير الملكي، فقالت له الجارية: اصعد

يا مولاي على هذا السرير. فصعد كان فوق السرير، وذهبت الجارية وغابت عنه، فسأل عنها بعض الخدم، فقالوا له: إنها ذهبت إلى مرقدها، ونحن نخدمك كما أمرت. ثم إنها قدمت إليه من غرائب الألوان، فأكل حتى اكتفى، ثم بعد ذلك قدمت إليه طشتًا وإبريقًا من الذهب، فغسل يديه، وخاطره مشغول بعسكره لكونه لا يعلم ما جرى لهم بعده، ويتذكر أيضًا كيف نصيّة أبيه، فصار متحيّرًا في أمره، نادمًا على ما فعل إذ طلع الفجر وبان النهار، وهو يتحسّر على ما فعل، وصار مستغرقًا في الفكر، وأنشد هذه الأبيات:

لم أعْدمِ الحزم ولكِ نِيَّ دُهِيتُ في الأمور، فما حيلتي لو كان من يكشف عني الهوى بريئتُ من حولي ومن قوتي، وإن قلبي في ضلال الهوى صعب وأرجو الله في شدتي

فلما فرغ من شعره رأى بهجة عظيمة قد أقبلت، فنظر فإذا هو بأكثر من عيون جارية كالأقمار حول تلك الجارية، وهي بينها كالبدر بين الكواكب، وعليها ديباج ملكي، وفي وسطها زنار مرصّع بأنواع الجواهر، وقد ضمن خُصَّها وأبرز ردفها، فصارَا كأنهما كُثيب بلور تحت قضيب من فضة، ونهداها كفح رمان؛ فلما نظر كان ذلك كاد عقله أن يطير من الفرح، ونسي عسكره ووزيره، وتأمل رأسها فرأى عليه شبكةً من اللؤلؤ مفصَّلة بأنواع الجواهر، والجوارى عن يمينها ويسارها يرفعن أذياهن وهي تميل أعجابًا، فعند ذلك وثب كان قائمًا على قدميه من هيبة حسنها وجمالها، فصاح: وا حيرتاه من هذا الزنار! وأَنْشد هذه الأبيات:

ثَقِيلة الأرداف ماءلة خَرعُوبَة ناعمة النهْد تكتمتْ ما عندها من جَوّ، ولست أكثرُ الذي عندي خدامُها يمشين من خلفها كالغيل في حلّي وفي عقدي

ثم إن الجارية جعلت تنظر إليه زمانًا طويلًا، وتكرر فيه النظر إلى أن تحققته وعرفته، فقالت له بعد أن أقبلت عليه: قد أفق بك المكان يا كان، كيف كانت ليلتك يا همام بعد ما مضينا وتركناك؟ ثم قالت له: إن الكذب عند الملوك منقصة وعيار، ولا سيما عند أكابر الملوك، وأنت كان ابن عمر النعمان، فلا تنكر نفسك وحسبك، ولا تكتُم أمرك عني، ولا تسمعني بعد ذلك غير الصدق؛ فإن الكذب يورث البغض والعداوة، فقد نفد فِيْك سَهْمُ القَضَاءِ، فَعَلَيْكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا. فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهَا لَمْ يَمْكِنْهُ الإنْكَارُ، فَأَخَذَهَا بِالصِّدْقِ وَقَالَ لَهَا: “أَنَا كَانَ بْنَ عُمَرَ النَّعْمَانِ الَّذِي عَذَّبَنِي الزَّمَانُ، وَأَوْقَعَنِي فِي هَذَا المَكَانِ، فَمَهْمَا شِئْتِ فَافْعَلِيهِ الآن.” فَأَطْرَقَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الأَرْضِ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ التَفَتَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ لَهُ: “طِبْ نَفْسًا وَقَرِّ عَيْنًا، فَإِنَّكَ ضَيْفِي، وَصَارَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ خُبْزٌ وَمِلْحٌ، وَحَدِيثٌ وَمُؤانَسَة؛ فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِي وَفِي عَهْدِي، فَكُنْ آمِنًا، وَحَقُّ المَسِيحِ: لَوْ أَرَادَ أَهْلُ الأَرْضِ أَنْ يُؤْذُوكَ، لَمَا وَصَلُوا إِلَيْكَ إِلَّا أَنْ خَرَجَتْ رُوحِي مِنْ أَجْلِكَ. فَأَنْتَ فِي أَمَانِ المَسِيحِ وَأَمَانِي.”

وَجَلَسَتْ إِلَى جَانِبِهِ فَصَارَتْ تَلْعَبُهُ إِلَى أَنْ زَالَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الخَوْفِ، وَعَلِمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَ لَهَا أَرْبٌ فِي قَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ فِي اللَّيْلَةِ المَاضِيَةِ.

ثُمَّ إِنَّهَا كَلَّمَتْ جَارِيَةً بِلِسَانِ الرُّومِيَّةِ فَغَابَتْ سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيْهَا وَمَعَهَا آلَةٌ مُدَامٌ وَمَائِدَةُ طَعَامٍ، فَتَوَقَّفَ كَانَ عَنْ الأَكْلِ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: “رُبَّمَا وَضَعْتُ شَيْئًا فِي ذَلِكَ الطَّعَامِ.” فَعَرَفَتْ مَا فِي ضَمِيرِه فَالتَفَتَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: “وَحَقُّ المَسِيحِ، لَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، وَهَذَا الطَّعَامُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا تَتَوَهَّمُهُ، وَلَوْ كَانَ خَاطِرِي فِي قَتْلِكَ لَقَتَلْتُكَ فِي هَذَا الوَقْتِ.”

 

ثُمَّ تَقَدَّمَتْ إِلَى المَائِدَةِ، وَأَكَلَتْ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ لَقْمَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَكَلَ كَانَ، فَفَرِحَتِ الجَارِيَةُ وَأَكَلَتْ مَعَهُ إِلَى أَنْ اكْتَفَيَا، وَبَعْدَ أَنْ غَسَلَا أَيْدِيَهُمَا قَامَتْ وَأَمَرَتِ الجَارِيَةَ أَنْ تَأْتِيَ بِالرِّيَاحِينِ وَآلَاتِ الطَّبِّ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالبِلُورِ، وَأَنْ يَكُونَ الطَّبُّ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ المُخْتَلِفَةِ وَالأَنْوَاعِ النَّفِيسَةِ، فَأَتَتْهَا بِجَمِيعِ مَا طَلَبَتْهُ.

 

ثُمَّ إِنَّ الجَارِيَةَ مَلَأَتْ أَوَّلَ قَدَحٍ وَوَضَعَتْهُ قَبْلَهُ كَمَا فَعَلَتْ فِي الطَّعَامِ، ثُمَّ مَلَأَتْ ثَانِيًا وَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ فِي فَمِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: “يَا مُسْلِمُ، انْظُرْ كَيْفَ أَنْتَ فِي أَلَذِّ عَيْشٍ وَمُتْعَةٍ.” وَلَمْ تَزَلْ تَتَّبِعُهُ إِلَى أَنْ غَابَ عَنْ رَشَدِه.

 

وَأَدْرَكَتْ شَهْرَزَادُ الصَّبَاحَ فَسَكْتَتْ عَنْ الكَلَامِ المُبَاحِ.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى