بين المعادلة والرحمة: سيرة تاديوس رايخشتاين رائد فيتامين C والكورتيزون

1️⃣ المقدّمة: جذب الانتباه
تنبثق لحظةٌ في تاريخ العلم تبدو وكأنها مشعَّةٌ فجائية أضاءت زوايا مجهولة من جسد الإنسان، وفتحت آفاقاً لم تكن في الحسبان. في صيف يوم 11 ديسمبر 1950، كان العالِم البولندي-السويسري تاديوس رايخشتاين واقفاً على منبر التكريم، حين أعلنت اللجنة النوبلية منحتَه جائزة جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب «لاكتشافها الهرمونات القشرية-الكظريّة، وبنيتها، وآثارها البيولوجية».
لكن خلف هذا الإنجاز الفريد تقف رحلةٌ طويلة، صراعاتٌ وظروفٌ، وتحدّيات إنسانية وعلمية جمّة. هذه هي سيرة Tadeusz Reichstein — أو بالأحرى، قصة رجل نقل الكيمياء من المختبر إلى خدمة البشر. في هذا المقال سنغوص في حياة هذا العالم المميز، نوقب فصول نشأته، تعليمه، انطلاقته المهنية، إنجازاته الكبرى، وتلك اللحظات الإنسانية التي تركت بصمتها، لنختم بالدروس التي نستخلصها من مسيرته.
2️⃣ النشأة والتكوين
وُلد تاديوس رايخشتاين في 20 يوليو 1897م بمدينة ووتسوافك (Włocławek) في الجزء الذي كان يُعرف آنذاك باسم «مملكة بولندا/إمبراطورية روسيا» تحت اسم والدَيه: إيزيدور (Izydor) وغاستاوا (Gastawa Brockmann) من عائلة يهودية بولندية الأصل.
نشأ في سنوات طفولته الأولى بين ووتسوافك ثم كييف (حيث عمل والده مهندساً في مجال السكر)؛ وقد تركت أحداثُ عام 1905 من موجات «البوغْرومات» (مذابح ضد اليهود في روسيا القيصرية) أثراً كبيراً على العائلة، فانتقلت في حوالي عام 1907 إلى سويسرا، حين كان عمر تاديوس نحو 10 سنوات، واستقرت العائلة في زيورخ.
في طفولته، لفتت شغفه بالعلوم الانتباه: كان يطرح أسئلة عن العالم من حوله، وعن كل ما تحمله الطبيعة من أسرار. البيئةُ التي نشأ فيها — هجْرة العائلة، الشعور بالاختلاف، اللغة المتعدّدة — صاغت في داخله انتماءً مزدوجاً: إلى جذوره البولندية-اليهودية، وإلى السويسرية التي احتضنته بعد ذلك.
ومن تلك الأيام المبكرة نشأ عنده شعورٌ بأن للعلم بوابة للوصول إلى كرامة الإنسان، وأن عبور تلك البوابة لا يتحقّق إلا بالتصميم والمثابرة. هذه الخلفية تُفسّر مدى صلابته وتجذّره في مهنية عالية لاحقاً.
3️⃣ التعليم وبداية التكوين المهني
في عام 1916 أُعفي تاديوس من الخدمة العسكرية، وبعدها اجتاز امتحان البكالوريا في مدرسة Oberrealschule في زيورخ، ثم التحق بـ المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا – زيورخ (ETH Zürich) لدراسة الكيمياء.
تخرّج في عام 1920 بدرجة مهندس كيميائي بتفوّق، ثم شرع في دراسة الدكتوراه، والتي نالها عام 1922 تحت إشراف البروفيسور Hermann Staudinger، متخصصاً في الكيمياء الحلقية (heterocyclic compounds).
خلال تلك السنوات، عمل رايخشتاين في الصناعة الكيميائية حول زيورخ، حيث ساعد في تشريح مذاق القهوة وتحليل العطريات والنكهات – تجربة أولى علمية تجريبية، ساعدته على صقل مهاراته التحليلية.
ثم حصل على تأهيل لهيبِليتاتور (Habilitation) في عام 1930، وعمل كمساعد للبروفيسور Leopold Ruzicka في معهد الكيمياء العضوية في ETH زيورخ، الذي كان لاحقاً الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء.
هكذا بدا مشوار-التكوين: من المدرسة الثانوية إلى الجامعة، ومن الصناعة الأولية إلى مختبر الأبحاث الصرف، مُعدّاً نفسه للانطلاق الكبير. إنّ هذا الانتقال من التطبيقات البسيطة إلى الأبحاث المتقدمة شكل قاعدة صلبة لمسيرته العلمية اللاحقة.
4️⃣ الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
بدأ رايخشتاين مساره المهني في سنوات الثلاثين من القرن العشرين، حين شرع في البحث عن طرق صناعية لإنتاج فيتامين C (حمض الأسكوربيك) وتحليل الهرمونات القشرية الكظرية (adrenal cortex hormones).
في جدول زمني مبسّط:
| السنة | الحدث |
|---|---|
| 1933 | توصل إلى طريقة صناعية لإنتاج فيتامين C. |
| 1934 | حصل على لقب أستاذ في سويسرا. |
| 1938 | انتقل إلى جامعة بازل في سويسرا، كأستاذ في الكيمياء الصيدلانية. |
| 1948 | استخدمت أول حقنة مشتقة من الكورتيزون لعلاج التهاب المفاصل الروماتويدي (مع زملائه). |
واجه رايخشتاين في بداياته تحديات عدّة: العداء الاجتماعي للعلماء من أصول يهودية في سياق أوروبا ما بين الحربين العالميتين، الحاجة للحصول على تمويل بحثي، والتداخل بين الصناعة والبحث الأكاديمي. مثلاً، نقلت المصادر أن هناك صراعاً داخل المعهد في زيورخ بين جهة بحثية تمولها شركة Ciba وأخرى شركة Organon، مما دفعه للانتقال إلى بازل.
لكنّه لم يستسلم — بل بالعكس، هذه التحديات دفعت إلى تركيزه والعمل بجدّية أعلى. في بيئة بازل تمكن من تأسيس مختبر قوي، وتشكيل فريق بحثي، والانطلاق نحو إنجازات عالمية.
5️⃣ الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
تعدّ إنجازات تاديوس رايخشتاين من بين أكثر المساهمات العلميّة ذات التأثير على حياة البشر. نذكر منها:
- إنتاج فيتامين C على نطاق صناعي: في عام 1933 توصل رايخشتاين إلى طريقة إنتاج حمض الأسكوربيك الصناعية، ما مكّن من خفض تكلفة الكيلوغرام الواحد من الفيتامين من نحو 7000 دولار في 1933 إلى نحو 127 دولار في 1937.
- اكتشاف وتحليل هرمونات القشرة الكظرية: بين عامي 1934-1944، عزل رايخشتاين وفريقه حوالي 29 مادة من القشرة الكظرية، وحدّد تركيبها الكيميائي، ومنها الكورتيزون والديزوكسوكورتيكوستيرون، ما فتح الباب لعلاجات فعّالة للالتهابات والأمراض المناعية.
- جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب – عام 1950: مُنحت إلى رايخشتاين، مع زميليه Edward Calvin Kendall وPhilip Showalter Hench، «لاكتشافاتهم المتعلقة بهرمونات القشرة الكظرية، تركيبها وآثارها البيولوجية».
قبل إنجاز رايخشتاين وفريقه، كان العلاج بالأربيات الهرمونية محدوداً وغير منظّم، ولم تكن فيتامين C متاحة في نطاق واسع أو بسعر مناسب. وبعد إنجازاته، تغيّر الواقع: أصبحنا نمتلك علاجات فعالة لأمراض المناعة الذاتية، وأصبح فيتامين C متوفّراً تجارياً. بهذا المعنى، إنجازاته ليست فقط لعلم الكيمياء أو الأدوية، بل لصحة الإنسان بشكل عام.
«لقد وصف نفسه بأنه «سويسري من أصل بولندي-يهودي»، لكن إنجازاته جعلت منه مواطناً للعالم».
6️⃣ التكريمات والجوائز الكبرى
إلى جانب جائزة نوبل عام 1950، حاز رايخشتاين على عدة جوائز ومُدنّفات قيمة، منها:
- جائزة جائزة مارسيل بنويست عام 1947 (Marcel Benoist Prize) في سويسرا.
- وسام ميدالية كوبلي عام 1968 من الجمعية الملكية البريطانية (Royal Society) تقديراً لأبحاثه حول فيتامين C والستيرويدات.
- تكريمات من مدينته الأم ووتسوافك، وجامعات عدّة منها باريس، زيورخ، غدانسك.
هذه الجوائز ليس مجرد رموز تقدير، بل شهادات على الأثر العلمي والإنساني للمسيرة التي خاضها، كما أنها رفعت مكانته كمثال يُحتذى به في أوروبا والعالم.
7️⃣ التحديات والمواقف الإنسانية
ليس النجاح وحده ما يميز سيرته، بل أيضاً مواقفه الإنسانية وتجاوزه للتحديات. فقد عانى في بداياته من تداعيات هجرة العائلة والضغط الثقافي واللغوي، وكونه يهودياً في حقبة مليئة بالتوترات.
وعندما بلغت الحرب العالمية الثانية ذروتها، رغم مواقع الأمان في سويسرا، ظل رايخشتاين واعياً لمعاناة الآخرين، وساهم في تقديم دعم للأبحاث، وعمل بجهد درّاسياً حتى بعد تقاعده.
لقد قال:
«إنّ الكيمياء ليست مجرد مزج الموادّ، بل هي بوابة لفهم كيف يعمل الانسان من الداخل والخارج».
هذا الاقتباس يجسد رؤيته: العلم لخدمة الإنسان، لا مجرد نشر الأبحاث.
واحدة من أبرز مواقفه: بعد تقاعده عام 1967، انتقل إلى دراسة علم النبات، وركز على البحث في عالم السرخسيات (ferns)، ونشر أكثر من مئة بحث في هذا المجال حتى وهو في التسعينات من عمره.
هذا يدلّ على شغفه الدائم بالاستكشاف، وعلى أن الإنسان لا يتوقّف عن العمل والتجديد مهما بلغ العمر.
8️⃣ الإرث والتأثير المستمر
إرث Tadeusz Reichstein ليس محصوراً في مختبر أو في رقم، بل امتد ليشمل:
- الطرق الصناعية لإنتاج فيتامين C التي استُخدمت في العالم كله، وجعلت هذا المركّب متاحاً بأسعار معقولة.
- الأساسيات التي وضعت لعلاج الأمراض الهرمونية والمناعية، ما أسهم في إنقاذ ملايين الأرواح.
- إشعال شغف البحث العلمي لدى أجيال من الكيميائيين والبيولوجيين، خصوصاً في أوروبا الوسطى والشرقية.
- مثالاً إنسانياً في المثابرة، والتعلّم مدى الحياة، والاستثمار في ما يفيد البشرية.
- مراكز وأوسمة تحمل اسمه، ومنح دراسية تحمل توقيعه، خاصة في بولندا وسويسرا.
باختصار: تغيّرت قطعة من العالم بفضل ما قام به، واستمرّ تأثيره حتى بعد وفاته في 1 أغسطس 1996م بمدينة بازل، عن عمر ناهز 99 عاماً.
9️⃣ الجانب الإنساني والشخصي
رغم ضخامة الإنجازات العلمية، عاش تاديوس حياةً مليئة بالتواضع والعطاء. تزوّج عام 1927 من هنرييت لويز كوارليس فان أوفورت (Henriette Louise Quarles van Ufford)، وأنجبا ابنة واحدة.
كان معروفاً بكرمه تجاه طلبة-البحث، حيث قدّم منحاً دراسية لطلاب من بولندا، ولم يتوقف عن البحث والعطاء حتى وهو في تسعينيات عمره.
من بين أقواله:
«ليس في العلم شيءٌ أعلى من أن تجعل اكتشافك في خدمة إنسانٍ يعاني».
هذه الكلمات — وإن لم تُحقّق توثيقاً مباشرًا — تعكس توجهه وخلقته.
في حياته اليومية كان بسيطاً، متواضعاً، ولم يسعَ وراء الأضواء بل لِما وراء الأضواء: الفائدة.
🔟 الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
قصة Tadeusz Reichstein هي أكثر من سيرة عالِم ناجح، إنها قصة إيمان بالعلم، وإصرار على أن المعرفة حقٌ للإنسان، وليس امتيازاً لفئة.
منها نستطيع أن نستخلص عدداً من الدروس:
- المثابرة تتغلب على التحديات: من طفل مهاجر إلى عالم حائز نوبل.
- ربط العلم بالإنسانية: ليس الهدف مجرد البحث، بل إن يجعل العالم أفضل.
- التعلّم مدى الحياة: حتى التقاعد لم يكن نهاية، بل بداية جديدة في حقول مختلفة.
- التواضع والكرم العلمي: تأثيره لم يكن فقط في المختبر، بل في القلوب.
- أن يكون الإرث أكبر من الاسم: طريقه لا يُحتسب بالنسبة إلى جائزة أو وظيفة، بل إلى ما تركه وراءه من أثر دائم.
في عصرنا اليوم، حيث يُطلب من العلم أن يشكّل حلولاً للمشاكل الكبيرة (كالأوبئة، المناخ، الأمراض المزمنة)، تكون سيرة تاديوس ريخشتاين تذكيراً بأن العالِم ليس فقط من يجلس خلف أنبوبة اختبار، بل من يحمل رؤيته لتغيير العالم بأدوات العلم والضمير.
بهذا تكون حياة Tadeusz Reichstein، إنجازاته وحياته، نموذجاً يحتذى به لكل من ينطلق في طريق العلم أو السعي نحو التميز الإنساني.



