«تحت سماء واحدة»… نضال برقان يرسم ملامح الإنسان في مرايا الشعر والذاكرة

تمهيد: قراءَةٌ تنفض الغبار عن السماء المشتركة
«تحت سماء واحدة» عنوان يستدعي فورًا الشعور بالاشتراك الإنساني: نفس فضاءٌ يضمنا، نفس نجومٌ تشهد علينا، ونفس أسئلة الوجود التي تتكرر وتتبدل لكنّها لا تنطفئ. يقدم نضال برقان في هذا العمل نصوصًا تتراوح بين الشعر والنصّ الشعري الذي يتداخل فيه العاطفي بالامتعاض، والذاك الحنين الذي يحاول أن يصنع طوق نجاة من الكلمات. بالنسبة للقارئ المعاصر، يصبح هذا الديوان/النص الشعري مساحةٍ للتعرّف على صوت يكتب من موقع الصحافي والشاعر معًا: يقيس بهما نبض المكان ويقرأ بهما ذاكرة اللحظة.
عن المؤلف: الشاعر والإعلامي
نضال برقان معروفٌ كإعلامي وشاعر؛ اشتغل في الحقل الصحافي وتبوأ مواقع تحريرية ثقافية، ويُذكر أنه مديرُ الدائرة الثقافية في جريدة «الدستور» الأردنية، وهو ما يمنحه وجهًا مزدوجًا: قارئًا ناقدًا وممارسًا للكتابة الشعرية في آنٍ واحد. يجمع عمله بين التعامل اليوميّ مع النصوص الثقافية وبين كتابة القصيدة التي تعكس تجربة شخصية واجتماعية في آنٍ معًا. هذه الثنائية تبدو في «تحت سماء واحدة» واضحةً: فالنصوص لا تُكتب من فراغ بل من ممارسة ثقافية واعية ومتابعة للخطاب العام.
الشكل والمكانة: هل هو ديوان أم نص شعري عامّ؟
على منصات البيع والتوزيع ظهر الكتاب كطبعة إلكترونية ومطبوعة تحت عنوان واحد، وتصنيفٍ عامّ أدرجه بعض الموزعين ضمن كتب عامة وأخرى باعتباره نصًا شعريًا/ديوانًا. هذا التباين في التصنيف يعكس طابع النصّ نفسه: فهو نصّ شعري يتسع لقراءةٍ نقدية أدبية لكنه يحمل أيضًا خواصّ تأملية وقصصية تجعل ناشره يدرجه ضمن «الكتب العامة» لكونه موجهًا لجمهور يتجاوز دوائر الشعر الضيقة. في العرض والترويج، شارك المؤلف في أمسيات وفعاليات ثقافية عُرض فيها الكتاب وناقش نصوصه أمام جمهورٍ قرائي.
البنية العامة للمجموعة: خطٌّ بين الخصوصيّة والجماعيّة
يعيش كتاب «تحت سماء واحدة» بين قطبيّين: الخصوصية الحميمية التي تستدعي السيرة والمشهد الداخلي، والجماعية التي تُشير إلى ذاكرةٍ مجتمعية أو إنسانية مشتركة. البنية النصية لا تسير بخطٍ واحد؛ فثمة قصائد قصيرة، نصوص تأملية طويلة، وعناوين تبدو كجُملٍ مفصولة من دفتر يوميات. هذه التنويعات تمنح القارئ إيقاعات مختلفة: أحيانًا يتباطأ عند بيت واحد يتوهج، وأحيانًا يطير مع صورةٍ زاخرةٍ بتتابعٍ استعاري. النتيجة: ديوانُ قراءاتٍ متعدّدةٍ، قابلٌ لأن يُعاد قراءته مرّاتٍ ويكشف عن طبقاتٍ خفية مع كل قراءة.
الموضوعات والمحاور الرئيسة
1. الانتماء والهوية تحت سماءٍ واحدة
المحور الأبرز هو فكرة الانتماء الإنساني تحت سماءٍ واحدة—ألا تكون السماء فاصلًا بيننا، بل سندًا يذكّرنا بوحدة التجربة البشرية. تتناول النصوص أسئلة الهجرة والحنين والهوية، لكنها تفعل ذلك من منظار إنسانيٍّ يتجاوز الخطاب القومي المباشر، فيميل إلى إعادة صياغة الانتماء كحالة وجودية لا كوثيقة سياسية.
2. الصدمة والوجع: شعر كاستنطاق للجراح
تحت فيض الصور، تعالج قصائد برقان جراحًا شخصيةً وجماعية. ليس ألمًا مُسقطًا على شكل إشارات بسيطة، بل ألمٌ مشحونٌ بصياغةٍ لحنية: تكرار رموز، استدعاء لوجوهٍ أو أماكن، وتحرّكٌ مكثفٌّ حول الخسارة والغياب. هذه المعالجة تُظهر القدرة على تحويل الوجع إلى مادة جمالٍ تُقرأ وتعيد تركيب المعنى.
3. الذاكرة والتاريخ اليومي
تُوظّف النصوص الذاكرة كأداة لاستدعاء تفاصيل صغيرة—من لحظات علاج إلى ليلٍ طويلٍ—تتحول إلى مشاهد كونية. وبهذه الطريقة، يصبح اليومي صورةً للتاريخ: الذكريات الشخصية تُثبّت كخرائطٍ لمجتمعٍ في مرحلةٍ من التحوّل.
4. اللغة كمساحة مقاومة
تعكس لغة الكتاب تصعّدًا بين البساطة والبلاغة. لا يتعالى الشاعر على القارئ بكلماتٍ معقدة؛ بل يُعيد تشكيل المفردة ببساطةٍ تكمُن فاعليتها في تراكيبها وموسيقاها الداخلية. اللغة هنا ليست مجرد أداة وصف، بل فعلُ مواجهةٍ للعيْن التي تُمضي في الحياة بلا توقف.
الأسلوب اللغوي والبلاغي: بين الصورة والإيحاء
أسلوب نضال برقان في «تحت سماء واحدة» يميل إلى الانضباط الموسيقي: جُملُه قصيرةٌ أحيانًا، ومتوسّطة الطول أحيانًا أخرى، لكنه يحافظ على نبرةٍ قريبةٍ من المتلقي. تستند الصورة الشعرية إلى تشبيهاتٍ غير مبتذلة، واستعاراتٍ لا تهمل البعد الرمزي. كما أن التكرار المنطقي، سواء على مستوى كلمة أو عبارة، يساعد في بناء نسيجٍ شعريٍّ له وقع الطقس. هذا الأسلوب يجعل النص قابلاً لأن يُؤدلج على نحوٍ عاطفي دون أن يفقد عمقه الفكري.
قراءة مقربة لثلاث نصوص/قصائد منتخبَة
(ملاحظة: بسبب حقوق النشر وقلة توافر نصوص كاملة على الإنترنت، سنعتمد قراءة وصفية وتحليلية وليست اقتباسية حرفية طويلة.)
النص الأول: «عنوانٌ يقصّ فتحه على الحزن»
أحد النصوص الافتتاحية يحمل إحساسًا بالحضور الحزين؛ يبدأ من مشهدٍ يومي ثم يتوسّع ليشمل تذكّرًا ونداءً للعالم. التقنية الأدائية التي يستخدمها الشاعر—التوقف التكراري، العتبات اللغوية، والتحولات المفاجئة في المخيلة—تُنتج لحظة شعرية قابعة بين الرثاء والتصالح.
النص الثاني: «نصّ مواجهةٍ للغريب/المنفى»
في نصٍ آخر يبدو أن الشاعر يتناول تجربة النزوح أو الغربة. ليس الحديث بالتقنية الإعلامية عن الهجرة، بل عن الجرح العاطفي الذي يتركه الفراق: تفاصيلٌ صغيرة عن عاداتٍ ضائعة، رائحةٍ، بيتٍ تركته يد. هنا يبرع برقان في تحويل الفقد إلى مادة شعرية، دون استعراضٍ أو تصنع.
النص الثالث: «نصّ تأملي عن السماء والنجوم»
عنوان الكتاب نفسه يتجسد في نصٍ يتأمل في السماء كرمزٍ للضمير الكوني. يربط الشاعر بين النجوم والوجوه، بين الليل والذاكرة، في مشهدٍ شعريٍّ يجعل القارئ يشعر بأن اليقظة والاحتمال مشتركان تحت سماءٍ واحدة.
الإيقاع والموسيقى الداخلية
الشعر في هذا العمل يأخذ موسيقى داخلية تختلف عن الوزن العمودي التقليدي؛ هو إيقاع نثري متحرِّك يتجاوز القيود الموزونية الصارمة لكنه يحافظ على إيقاعٍ داخليٍّ متكررٍ يجعل النص يُقرأ بصوتٍ واضح. تكراراتُ كلماتٍ أو عباراتٍ تصبح بمثابة ميلوديا تعيد تشكيل هواجس القصيدة. هذا الأسلوب يخدم موضوعات الكتاب المتصلة بالذاكرة والحنين والوجود.
الجماهير والنقد: كيف قُوبِل العمل؟
شارك الكتاب في أمسياتٍ ثقافية ونقاشاتٍ، من بينها أمسيات في مكتبة عبد الحميد شومان وبرامج ثقافية إذاعية، إضافة إلى إعلان الناشر ووجوده على منصات بيع الكتب (نسخة إلكترونية ومطبوعة). هذه الفعاليات تشير إلى اهتمامٍ قرائي ونقدي محليّ، خصوصًا في دوائر التثقيف والمكتبات. أما من حيث النقد المقارن للقصيدة العربية المعاصرة، فالنصوص التي يحملها الكتاب توضع ضمن تيارٍ يسعى للمزج بين الحسّ الفردي والهمّ العام، وهو تيارٌ معاصر ينتشر لدى شعراء يمزجون بين المشهد الصحافي والمشهد الشعري.
دلالة العنوان: «تحت سماء واحدة» كبيان إنساني
العنوان هو مفتاح قراءة الكتاب؛ يعبر عن دعوةٍ للتماهي والتقارب، لا للتمييز أو العزلة. في زمن تتسع فيه الفجوات الاجتماعية والسياسية، يُذكّر العنوان بأن هناك سماءً واحدة تُشاهدنا جميعًا، وأنّ وجودنا المشترك يفرض علينا نوعًا من المسؤولية الإنسانية. هذا المعنى يتحول إلى تقنية شعرية داخل النصوص: استدعاءاتُ السماء كمرآةٍ ومشهدٍ يربط بين الحكايات الفردية والذاكرة العامة.
لماذا يستحقّ الكتاب القراءة؟
- صوتٌ معاصر: نضال برقان لا يسعى للتقليد؛ صوته يمثل تجربة إعلامية-شعرية معًا، ما يمنحه رؤية مرجعية مميزة.
- توازن بين البساطة والعمق: اللغة متاحة لكنها غنية بالصور والدلالات؛ هذا يجعل الديوان مناسبًا لقرّاء الشعر المحترفين والجدد على حدٍ سواء.
- قابلية التأويل: النصوص تفتح على قراءاتٍ متعددة، ما يمنحها طول نفس ثقافي ونقدي.
- لحظات جمالية صادقة: قصائد تحتوي على صورٍ تقشف فيها الكلمات لكنها تكثف المعنى، وهذا ما يحتاجه الشعر المعاصر كي يبقى مؤثّرًا.
قيود قد يلاحظها القارئ
ليس كل نص في المجموعة يصل إلى نفس مستوى العمق أو القدرة على المسك، فبعض القطع تختزن صورًا جميلة لكنها لا تتوسع لتشكيل تجلي كاملٍ للمعنى، وهو أمر طبيعي في أي مجموعة شعرية متنوِّعة. كذلك، القرب من الأسلوب الصحافي في بعض اللحظات قد يجعل بعض النصوص أقرب إلى النثر الأدبي منه إلى قصيدةٍ مغنّاةٍ تمامًا، وهو خيار فني قد يُحبه بعض القرّاء ويحرج آخرين.
مكان الكتاب في المشهد الأدبي المعاصر
يُعدُّ «تحت سماء واحدة» إضافة نوعية إلى المشهد الشعري العربى المعاصر الذي يشهد تجاربٍ متعدّدة لكتابٍ يمزجون بين الكتابة الصحافية والإبداع الشعري. مثل هذه التجارب توفّر قراءةً متوازنةً للعالم: من جهة حسّ نقدي قد يكتبه الإعلامي، ومن جهة أخرى حسُّ داخلي شعريٌّ يُنتج نصوصًا لا تُنطق بالخبر بل تُحكى بالاستعارة والمشهد. إن مشاركة الكتاب في فعاليات ومكتبات مرموقة دليل على تواجده في مسارات نقدية وقراءية مهمة بالنسبة للجمهور المحلي والإقليمي.
خاتمة: قراءةٌ تعيد تركيب السماوات
«تحت سماء واحدة» ليس مجرد مجموعة نصوصٍ بل دعوةٌ للوقوف مع الشعر كمرآةٍ للوجود: يراعي تفاصيل اللحظة ويحوّلها إلى صيغٍ تجعل القارئ يشعر بأنه ليسَ وحده. نضال برقان، بصفته شاعرًا وإعلاميًا، يقدم في هذا الكتاب مزيجًا من الحذر والاندفاع: الحذر في انتقاء الكلمة، والاندفاع في توظيف الصورة كي تبقى حيّة. للمقبلين على قراءة الديوان أقول: اقرؤوه ببطءٍ، دعوا الصورة تتوّسع في داخلكم، واسمحوا للسماء أن تُعيد ترتيب أسئلتكم.
لمعرفة المزيد: «تحت سماء واحدة»… نضال برقان يرسم ملامح الإنسان في مرايا الشعر والذاكرة



