كتب

تروس ووحوش: كيف تعيد ديان كويل تعريف الاقتصاد من آلة صمّاء إلى منظومة إنسانية؟

 في عالمٍ يزداد تعقيدًا وتشابكًا، بات من الصعب على الإنسان العادي أن يفهم كيف تعمل “الآلة الاقتصادية” التي تحرك كل شيء من حوله: من أسعار السلع في المتاجر، إلى قرارات الحكومات بشأن الضرائب، إلى التأثير العابر للحدود لقرارات البنوك المركزية. في هذا السياق، يأتي كتاب «تروس ووحوش: ما الاقتصاد وما يجب أن يكون»، للكاتبة البريطانية والخبيرة الاقتصادية ديان كويل، كدليل فكريّ عميق وسلس، يسعى إلى تبسيط المفاهيم الاقتصادية، وتحليل أوجه القصور في الفكر الاقتصادي المعاصر، مع اقتراح رؤية جديدة لما يجب أن يكون عليه الاقتصاد في المستقبل.

الكتاب، الذي صدر عام 2025، ينتمي إلى تصنيف تطوير الذات والعلاقات، ويُمكن القول إنه لا يتوجه فقط إلى المختصين، بل يفتح باب الاقتصاد لعامة الناس، بأسلوب يجمع بين الفكر والتحليل القصصي والفلسفة العملية. ومن هنا تنبع قوّته.

 نبذة عن المؤلفة: ديان كويل — صوت نقدي ورؤية إصلاحية

تُعد ديان كويل (Diane Coyle) واحدة من أبرز الاقتصاديين البريطانيين في العقود الأخيرة. شغلت مناصب أكاديمية وإدارية رفيعة، وأسست مبادرات تهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع.

مؤلفاتها السابقة ركزت على التكنولوجيا، والابتكار، وسياسات البيانات، والاقتصاد الرقمي، لكنها في هذا الكتاب تفتح أبوابًا جديدة لتأمل الاقتصاد كأداة إنسانية، وليس فقط آلة حسابية.

 من التروس إلى الوحوش: العنوان دلالي بامتياز

عنوان الكتاب يختزل الصراع الذي يدور بين تصوّرَيْن للاقتصاد:

  • “تروس”: ترمز إلى النظرة التقليدية للاقتصاد كآلة، كل جزء فيها يؤدي وظيفة محددة، ويُفترض أن يعمل بسلاسة وفق قوانين رياضية صارمة.
  • “وحوش”: تُحيل إلى ما هو غير متوقع، متوحش، فوضوي — كناية عن الطبيعة البشرية، العواطف، السياسة، النفوذ، وحتى الحروب والمجاعات.

تسأل كويل بجرأة:

هل الاقتصاد علم دقيق مثل الفيزياء؟ أم هو نتاج لتفاعل البشر ومصالحهم وتحيزاتهم؟

 بنية الكتاب: رحلة فكرية من البسيط إلى المعقد

ينقسم الكتاب إلى عدة فصول مترابطة، تُصاغ بأسلوب سردي يجمع بين الأمثلة الواقعية والنظريات الاقتصادية، ويتدرج من المفاهيم الأولية إلى تحليل معقد للواقع العالمي.

أبرز محاور الكتاب:

  1. الاقتصاد كآلة: الوهم العلمي
  2. لماذا فشل الاقتصاديون في التنبؤ بالأزمات؟
  3. الاقتصاد والبشر: أين موقع الإنسان؟
  4. السياسات العامة بين النظرية والتطبيق
  5. الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي
  6. المناخ والاقتصاد: المسؤولية الكبرى
  7. ما الاقتصاد؟ وما الذي يجب أن يكون عليه؟

 فصول التحليل: الاقتصاد بين النظرية والواقع

 1. الاقتصاد كآلة… ولكنها لا تعمل كما يجب!

تعيد كويل النظر في فكرة الاقتصاد كعلم دقيق. فهي ترى أن المدارس التقليدية، كالكلاسيكية والنيوكلاسيكية، قد بالغت في اختزال الاقتصاد إلى معادلات ونماذج رقمية تفترض أن الإنسان كائن “عقلاني دائمًا”، يسعى لتعظيم منفعته.

لكن الواقع أثبت العكس. الإنسان تحركه العواطف، والمصالح، والثقافة، والخوف، بل وحتى الفوضى. “الاقتصاد ليس مجرد آلة، بل كائن حي يتنفس عبر سلوك البشر”، كما تصف المؤلفة.

 2. فشل التنبؤ بالأزمات: من 2008 إلى جائحة كورونا

تطرح ديان كويل تساؤلاً لاذعًا:

إذا كان علم الاقتصاد قويًا لهذه الدرجة، فلماذا لم يتنبأ بانهيار 2008 أو جائحة كورونا؟

وتُرجع السبب إلى اعتماد الخبراء على نماذج غير مرنة، تغفل عن تعقيدات الواقع، ولا تحسب حسابًا للعوامل النفسية أو المفاجآت غير القابلة للنمذجة.

 

3. الاقتصاد والإنسان: إعادة الاعتبار للبعد الاجتماعي

في هذا الفصل المؤثر، تركز المؤلفة على ضرورة إعادة مركزية الإنسان في التفكير الاقتصادي. لا يكفي النظر إلى الناتج القومي الإجمالي، أو معدلات التضخم، دون التفكير في:

  • جودة الحياة
  • العدالة الاجتماعية
  • توزيع الدخل
  • المشاركة المجتمعية

تقول:

إذا لم يسهم الاقتصاد في تحسين حياة الإنسان، فما الفائدة منه أصلاً؟

السياسات الاقتصادية: بين الممارسة والانفصال الأخلاقي

هنا تكشف كويل كيف أن صناع السياسات كثيرًا ما يتجاهلون الاعتبارات الأخلاقية، ويختبئون وراء “العلم” و”الأرقام” لتبرير قرارات تقشفية أو غير عادلة.

تدعو الكاتبة إلى ما تسميه “اقتصادًا أخلاقيًا”، يعترف بمحدودية المعرفة، ويأخذ في اعتباره تأثير السياسات على الأفراد المهمشين.

 الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي: تحديات جديدة

تخصص المؤلفة فصلًا خاصًا للاقتصاد الرقمي، حيث تسلط الضوء على:

  • البيانات كعملة العصر
  • الاحتكار الرقمي من قبل شركات مثل أمازون وغوغل
  • غياب التشريعات الكافية لحماية الخصوصية
  • تحدي “اللامرئية” الاقتصادية للأعمال الرقمية

تُشير إلى أن النماذج الاقتصادية القديمة لا تستطيع تفسير القيمة في اقتصاد يعتمد على البيانات أكثر من الموارد المادية.

 المناخ والاقتصاد: كوكب يئن تحت وطأة النماذج

تشير كويل إلى فشل الأسواق في تقييم الكوارث البيئية. الرأسمالية بطبيعتها لا تلتفت إلا لما هو مربح، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الغابات، أو إذابة الجليد في القطبين.

تسأل:

لماذا نضع قيمة للذهب ولا نضع قيمة للأشجار؟

وتدعو إلى إعادة صياغة مفاهيم القيمة، لتشمل الاستدامة البيئية، وجودة الهواء والماء، وتأثير السياسات على الأجيال القادمة.

ما الاقتصاد؟ وما الذي يجب أن يكون عليه؟

في الفصل الختامي، تلخص المؤلفة رؤيتها في أن الاقتصاد:

  • ليس علمًا دقيقًا.
  • يجب أن يُعامل كأداة لتحسين الواقع، لا كغاية بحد ذاته.
  • عليه أن يتخلص من “النماذج المغلقة” ويفتح أبوابه للعلوم الأخرى: علم النفس، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، والتاريخ.

 اقتباسات ملهمة من الكتاب

الاقتصاد الجيد لا يُقاس بمدى دقته، بل بمدى صدقه في تمثيل حياة البشر.

العالم ليس حاسوبًا… إنه كائن فوضوي، متشابك، ويحتاج إلى اقتصاد يحاكيه لا يختزله.

إذا لم تكن هناك عدالة، فإن النمو يصبح ظلمًا مقنّعًا.

من تروس إلى بوصلة جديدة: ما الذي يميز هذا الكتاب؟

  • اللغة السهلة: تجعل القارئ العادي يفهم الاقتصاد كما لو كان يتحدث عن حياته اليومية.
  • الأمثلة الواقعية: من الاقتصاد الكلاسيكي إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
  • النبرة الأخلاقية: تدعو لإصلاح اقتصادي شامل، يُعيد بناء الثقة بين المواطن والسياسات.

 الجمهور المستهدف

  • القارئ العادي الذي يريد أن يفهم الاقتصاد دون الحاجة إلى خلفية أكاديمية.
  • طلاب العلوم الاجتماعية والاقتصاد.
  • صانعو السياسات الباحثون عن بوصلة أخلاقية وعملية.
  • كل من يريد رؤية الاقتصاد كأداة للتغيير الإنساني لا مجرد حسابات.

 في الختام: اقتصاد إنساني، لا اقتصاديون بلا قلب

يطرح كتاب «تروس ووحوش» قضية جوهرية: الاقتصاد ليس مجرد تروس ميكانيكية تعمل بمعزل عن البشر. بل هو حقل حيوي، متفاعل، يتحرك في قلب المجتمعات، ويتأثر بهم ويؤثر فيهم.

تدعونا ديان كويل لإعادة التفكير في كل ما كنا نعتقد أنه “حقائق اقتصادية”، وتفتح أمامنا نافذة نحو اقتصاد جديد، أخلاقي، شامل، وتشاركي.

 

لمعرفة المزيد: تروس ووحوش: كيف تعيد ديان كويل تعريف الاقتصاد من آلة صمّاء إلى منظومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى