سير

جلين تي. سيبورج: كيميائي غيّر خريطة الجدول الدوري وملامح العصر الذري

1️⃣ المقدمة: حين أعاد عالمٌ واحد رسم حدود المادة

في القرن العشرين، ذلك العصر المليء بالاكتشافات التي غيّرت وجه البشرية، برز اسمٌ سيتردد صداه في كل مختبر وكل كتاب في الكيمياء النووية: جلين تيودور سيبورج (Glenn Theodore Seaborg).
لم يكن مجرد عالم بين العلماء، بل كان الرجل الذي وسّع الجدول الدوري للعناصر وأضاف إليه عشرة عناصر جديدة، ففتح للعالم أبواب الذرّة وأسرار الطاقة النووية.
كان سيبورج مثالًا للعقل المتقد بالإصرار، وللباحث الذي يرى في المعادلات قصيدة منطقية تنبض بالحياة، حتى أصبح اسمه محفورًا على أحد عناصر الجدول الدوري — العنصر رقم 106: السيبورغيوم (Seaborgium) — تكريمًا لإنجازاته التي تجاوزت حدود الزمن والمكان.

2️⃣ النشأة والتكوين: من غابات ميشيغان إلى قاعات العلم

وُلِد جلين تيودور سيبورج في 19 أبريل عام 1912 بمدينة إيشبيمينغ في ولاية ميشيغان الأمريكية، لعائلة سويدية مهاجرة بسيطة الحال.
كان والده، هيرمان ثيودور سيبورج، عاملًا في المناجم، ووالدته سيلما إريكا سيبورج ربة منزل اهتمت بتنشئة أطفالها على قيم الاجتهاد والتعليم.

انتقلت العائلة عام 1922 إلى كاليفورنيا بحثًا عن حياة أفضل، وهناك تفتّحت موهبة جلين في مجال العلوم الطبيعية.
كان صبيًا فضوليًا يعشق قراءة الكتب العلمية والتجارب البسيطة في منزله. ذات مرة قال لاحقًا:

“كنت أرى في كل مادة صلبة عالَمًا صغيرًا ينتظر أن نكشفه.”

في مدرسة ساوث غيت الثانوية (South Gate High School)، أظهر براعة في الرياضيات والكيمياء، فكان يدهش معلميه بسرعة فهمه وتحليله. وكانت تلك البدايات بذور عالمٍ سيغيّر وجه الكيمياء النووية.

3️⃣ التعليم وبداية التكوين المهني

في عام 1929، التحق سيبورج بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA)، حيث درس الكيمياء وتخرّج بدرجة البكالوريوس عام 1934.
ثم تابع دراسته العليا في جامعة كاليفورنيا في بركلي (UC Berkeley)، الجامعة التي أصبحت لاحقًا مهد إنجازاته الكبرى.
في تلك الفترة، تعرّف على العالم الشهير إرنست لورنس، مكتشف السيكلوترون، وهو الجهاز الذي مكّن العلماء من تسريع الجسيمات لاكتشاف عناصر جديدة.

أثر لورنس فيه بعمق، وجعله يرى أن الكيمياء ليست مجرد خلط مواد في أنابيب اختبار، بل بحث في جوهر الكون نفسه.
أطروحته للدكتوراه عام 1937 تناولت نظائر البلاديوم، وكانت بداية رحلته مع الكيمياء الإشعاعية.

4️⃣ الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

بدأ سيبورج عمله البحثي في جامعة بركلي، حيث شارك في تجارب تتعلق بتفاعلات النوى الذرية، وهي تجارب معقدة تتطلب دقة ومهارة عالية.
في عام 1940، حقّق مع زميله إدوين ماكميلان (Edwin McMillan) اكتشافًا سيغيّر مسار العلم: عنصر البلوتونيوم (Plutonium)، العنصر رقم 94 في الجدول الدوري.

لكن طريق المجد لم يكن سهلاً؛ فقد تزامن هذا الاكتشاف مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، مما وضع أبحاثه تحت رقابة مشددة ضمن مشروع “مانهاتن” الأمريكي لتطوير السلاح النووي.
واجه سيبورج حينها صراعًا أخلاقيًا بين رغبته في البحث العلمي الخالص وبين الاستخدام العسكري لنتائج أبحاثه.
ورغم ذلك، استمر في العمل تحت شعار:

“إذا فهمنا الذرّة، يمكننا أن نستخدمها لصالح الإنسان قبل أن تُستخدم ضده.”

5️⃣ الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

منذ عام 1940 وحتى الخمسينيات، كان سيبورج نجم الكيمياء النووية بلا منازع.
إليك جدولًا زمنيًا مبسطًا لأبرز إنجازاته:

السنةالاكتشاف أو الحدثالأثر العلمي
1940اكتشاف البلوتونيوم (Pu-94)فتح الباب لتطوير الطاقة النووية والسلاح الذري.
1941–1951اكتشاف تسعة عناصر جديدة (من الأكتينيوم إلى الكوريوم وأمريسيوم وبركليوم)توسعة الجدول الدوري وفتح مجال الأكتينيدات.
1951حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء مشاركةً مع إدوين ماكميلانتكريم لاكتشافاته في العناصر عبر الاصطناع النووي.
1958ترؤس لجنة الطاقة الذرية الأمريكيةساهم في توجيه أبحاث الطاقة نحو الاستخدام السلمي.
1994إطلاق اسمه على العنصر رقم 106 “سيبورغيوم”أول مرة يُسمى عنصر على اسم عالم حي.

كان سيبورج يؤمن بأن العلم يجب أن يخدم السلام، فدافع بقوة عن الطاقة النووية المدنية واستخدامها في الطب والصناعة والزراعة.

قال مرة:

“ليس الذنب في الذرّة، بل في نوايا البشر.”

6️⃣ التكريمات والجوائز الكبرى

نال سيبورج خلال مسيرته أكثر من 50 وسامًا وجائزة، أبرزها:

  • جائزة نوبل في الكيمياء (1951).
  • الميدالية الوطنية للعلوم (1969) من الرئيس الأمريكي.
  • وسام ألكسندر فون همبولت الألماني تقديرًا لأبحاثه الدولية.
  • عضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة.

وكان إطلاق اسمه على عنصر كيميائي حدثًا غير مسبوق في التاريخ العلمي، مما جعل “سيبورغيوم” رمزًا خالدًا للعطاء العلمي.

7️⃣ التحديات والمواقف الإنسانية

لم يكن سيبورج مجرد عقلٍ علمي بارد، بل إنسانًا يحمل ضميرًا حيًا.
خلال عمله في “مشروع مانهاتن”، شعر بالقلق من القوة المدمّرة للسلاح النووي، فكتب في مذكراته:

“حين شاهدت أول تجربة تفجير نووي، لم أرَ انتصارًا علميًا… بل تذكّرت هشاشة الإنسان أمام علمه.”

بعد الحرب، كرّس وقته للدعوة إلى الرقابة على السلاح النووي، وأسّس برامج تعليمية لتوعية الأجيال بخطر الاستخدام السيئ للعلم.
كما كان مهتمًا بطلاب الكيمياء، يفتح مختبره أمامهم، ويقول دائمًا:

“العالِم الحقيقي هو من يخلق علماء بعده.”

8️⃣ الإرث والتأثير المستمر

إرث جلين سيبورج العلمي لا يزال حاضرًا حتى اليوم.
ساهمت اكتشافاته في تطوير المفاعلات النووية السلمية، وفي علاج السرطان باستخدام النظائر المشعة، وفي فهم تركيب العناصر الثقيلة في الكون.
كما أسهمت دراساته في تحديد هيكل سلسلة الأكتينيدات التي يعتمد عليها الجدول الدوري الحديث.

اليوم، تُدرَّس إنجازاته في المناهج الجامعية حول العالم، ويُذكر اسمه مقرونًا بكبار العلماء مثل ماري كوري وإنريكو فيرمي.

9️⃣ الجانب الإنساني والشخصي

كان سيبورج زوجًا وفيًا لـ هيلين غريغ سيبورج، وأنجب منها ستة أبناء.
عُرف بتواضعه الجم، وكان يمارس رياضة المشي يوميًا حتى أواخر عمره.
شارك في مبادرات خيرية لدعم التعليم العلمي في المدارس العامة، وأسّس صندوقًا لمساعدة الطلاب الموهوبين.

وعندما سُئل في أواخر حياته عن سر نجاحه، أجاب بابتسامة:

“كنت أحاول فقط أن أفهم ما يدور في قلب الذرّة، ففهمتُ ما يدور في قلب الإنسان.”

توفي في 25 فبراير عام 1999 في كاليفورنيا، تاركًا وراءه إرثًا علميًا وإنسانيًا خالدًا.

🔟 الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

قصة سيرة جلين تي. سيبورج ليست مجرد حكاية عن الكيمياء والعناصر، بل عن الإيمان بقدرة الإنسان على تحويل المعرفة إلى نور.
لقد أثبت أن العالِم ليس من يصنع التجارب فقط، بل من يُوازن بين العقل والضمير.

إن حياة جلين سيبورج تعلمنا أن الإبداع العلمي لا قيمة له ما لم يُستخدم لخدمة البشرية، وأن المجد الحقيقي ليس في الشهرة أو الجوائز، بل في الأثر الذي يتركه الإنسان بعد رحيله.

“العلم طريق طويل، لكنه الطريق الوحيد الذي يقودنا إلى المستقبل.” — جلين تي. سيبورج

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى