سير

جورجي دي هيفسي: الكيميائي الذي هرّب العلم في أنابيب الذهب

 المقدمة: عندما تختبئ الجائزة في كأس شاي

في عالم كانت فيه الحرب تأكل الجغرافيا وتلتهم القيم، وبينما كانت النازية تفتش في المعامل والجامعات عن الجوائز والنياشين لضمّها إلى “متحف التفوق الألماني”، كان هناك عالم مجري اسمه جورجي دي هيفسي يذيب ميداليتي جائزة نوبل في كأسٍ زجاجي مليء بالماء الملكي، لينقذها من السلب ويحفظ رمزيّتها العلمية.

لكن هذا الحدث البطولي لم يكن إلّا فصلًا من سيرة عالمية عميقة، تختصرها ثلاث كلمات: العلم، الإنسانية، والإرادة.

 

 النشأة والتكوين: في قلب المجر يولد الشغف

وُلد جورجي كارل دي هيفسي (George Charles de Hevesy) في 1 أغسطس 1885، في مدينة بودابست عاصمة المجر، لعائلة تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية من أصل يهودي. كان والده رجل أعمال مرموقًا، أما والدته فكانت محبّة للعلم والثقافة، مما زرع في جورجي تقديرًا مبكرًا للمعرفة والانضباط.

نشأ وسط أجواء فكرية مشبعة بالتنوير والحرية، وتلقى تعليمه المبكر في مدارس خاصة، حيث برز فضوله نحو الطبيعة والكيمياء منذ سنٍ صغيرة، إذ اعتاد أن يصنع تجاربه الكيميائية البدائية في مرآب العائلة.

 التعليم وبداية التكوين المهني: الكيمياء تسري في دمه

التحق جورجي بجامعة بودابست، ثم انتقل لاحقًا إلى جامعة برلين وفرايبورغ، وهناك تتلمذ على يد عدد من عمالقة الكيمياء مثل فيلهلم أوستفالد وماكس نيرنست، وهو ما شكّل خلفيته العلمية المتينة.

في عام 1908، حصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية من جامعة فرايبورغ. لم تكن الشهادة هدفه، بل بداية رحلته. وسرعان ما بدأ في التنقل بين المختبرات الأوروبية الكبرى ليشغل وظائف بحثية في زيورخ، كوبنهاغن، ومانشستر، حيث عمل إلى جانب أسماء بارزة كـ إرنست رذرفورد.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: اكتشاف نواة مشروع العمر

أثناء عمله في معهد نيلز بور في كوبنهاغن، بدأ هيفسي أبحاثه حول تتبع العناصر المشعة داخل الجسم البشري، وهو ما شكّل نواة مشروعه الأعظم لاحقًا.

لكن الطريق لم يكن مفروشًا بالورود. واجه صعوبات علمية وتقنية، مثل صعوبة التحكم في المواد المشعة، ونقص الدعم المالي في بعض الأحيان. ومع ذلك، فإن شغفه قاده لتخطي هذه التحديات بخطى ثابتة.

📆 جدول زمني مبسط:

السنةالحدث الرئيسي
1885ولادته في بودابست
1908حصوله على الدكتوراه
1911بداية العمل مع نيلز بور
1923نشر أول بحث عن استخدام النظائر
1943نيله جائزة نوبل في الكيمياء
1966وفاته في لوكارنو

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: الأب الروحي لتقنية التتبع الإشعاعي

يُعد جورجي دي هيفسي رائدًا في استخدام النظائر المشعة كـ”متعقّبات” لفهم العمليات الكيميائية والفيزيولوجية داخل الأجسام الحية.
كان أول من أثبت أن النظائر يمكن استخدامها دون أن تُغيّر من طبيعة العنصر الكيميائي، مما مهد الطريق لاستخدامها لاحقًا في الطب النووي، وعلم الأحياء، والصناعة.

📌 يقول هيفسي في أحد اقتباساته:

“في كل ذرة تتبعها، ترى ما كان مخفيًا عنك طيلة قرون.”

بفضل هذا الابتكار، أصبح بالإمكان تتبع امتصاص العناصر داخل جسم الإنسان، ودراسة الأمراض بطرق لم تكن ممكنة من قبل.


 التكريمات والجوائز الكبرى: نوبل تتوّج الرائد

في عام 1943، حصل جورجي دي هيفسي على جائزة نوبل في الكيمياء، عن أعماله في استخدام النظائر المشعة كمتعقبات لفهم التفاعلات الكيميائية.
كانت الجائزة في وقتها أكثر من تكريم علمي، بل اعترافٌ دوليٌ بأهمية هذا المجال الثوري.

ومن بين الجوائز والتكريمات الأخرى:

  • وسام ماكس بلانك من الجمعية الفيزيائية الألمانية
  • عضوية الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم
  • ميداليات شرفية من عدة جامعات ومراكز بحثية

 التحديات والمواقف الإنسانية: الذهب الذي قاوم النازية

من المواقف الشهيرة في حياة هيفسي، أنه خلال الاحتلال النازي للدنمارك، خبّأ ميداليتي نوبل الخاصتين بعالمين يهوديين (ماكس فون لاويه وجيمس فرانك) بإذابتهما في حمض الماء الملكي (خليط من حمض النيتريك والهيدروكلوريك)، حتى لا تقع في أيدي الألمان.

وبعد الحرب، استخرج الذهب من السائل، وأُعيدت صب الميداليتين من جديد! وهو عمل رمزي وإنساني جسّد وفاءه للعلماء واحتقاره للنازية.

 الإرث والتأثير المستمر: من المختبر إلى المستشفى

إن إنجازات جورجي دي هيفسي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، وخاصة في:

  • الطب النووي: حيث تُستخدم تقنياته في فحص الغدة الدرقية والكشف المبكر عن السرطان.
  • الزراعة: لتتبع امتصاص الأسمدة في النباتات.
  • الصناعة: لتحليل المواد وتعقب التسربات المشعة.

بل إن العنصر رقم 108 في الجدول الدوري تمّت تسميته بـ “هافنيوم” (Hafnium) نسبةً إلى كوبنهاغن (Hafnia) التي عمل فيها هيفسي لسنوات طويلة.

 الجانب الإنساني والشخصي: عالم بروح إنسان

بعيدًا عن المعامل، كان هيفسي إنسانًا محبًا للموسيقى، شديد التواضع، يؤمن بأن العلم أداة لخدمة البشرية لا للترف الفكري.
ساهم في عدد من المبادرات لدعم العلماء المضطهدين في أوروبا، خصوصًا في فترة ما بين الحربين العالميتين.

يُذكر له قوله:

“لا شيء يُشبه فرحة أن تضع جزءًا صغيرًا من الحقيقة بين يدي الإنسانية.”

 الخاتمة: الدروس المستفادة من حياة جورجي دي هيفسي

تُعلّمنا سيرة جورجي دي هيفسي أن العلم ليس فقط معادلات وتجارب، بل موقف أخلاقي وإنساني في مواجهة القبح والشر.
من قلب المجر إلى قاعات نوبل، ومن أنابيب المختبر إلى حكايات المقاومة، سطّر هذا الرجل مسيرة خالدة تُجسّد كيف يمكن لعالِم واحد أن يُغيّر العالم، ليس فقط بمعادلاته… بل بمبادئه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى