سير

جوزيف إرلانجر: رائد علم الأعصاب وصانع ثورة فهم الإشارات العصبية

المقدمة: لحظة رائدة في تاريخ العلوم

في عام 1944، كانت الإنسانية غارقة في ظلال الحرب العالمية الثانية، وفي وسط هذا التوتر، أضاءت شخصيتان نور العلم بإعلان حصولهما على جائزة نوبل في الطب. أحدهما كان جوزيف إرلانجر، الذي شارك مع طلابه السابقين هربرت سبنسر جاسر في اكتشاف طبي قطع الطريق أمام فهم أعقد الأسرار العصبية: ألياف الأعصاب ليست موحدة، بل تختلف في سمكها وسرعة انتقال الإشارات فيها، الأمر الذي أكسب هذا الكشف طابعًا ثوريًا في علم وظائف الأعصاب .

النشأة والتكوين: من سان فرانسيسكو إلى قاعات الطب

وُلد جوزيف إرلانجر في 5 يناير 1874 في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، لعائلة من المهاجرين اليهود من مملكة فورتمبرج الألمانية، وكان السادس من سبعة أبناء . تميز إرلانجر في دراسته من البداية، ففي سن مبكرة التحق بجامعة كاليفورنيا في بيركلي وحصل على بكالوريوس في الكيمياء عام 1895 . ثم انتقل إلى مدرسة الطب بجامعة جونز هوبكنز، وأكمل شهادة الطب (M.D.) عام 1899، حيث تخرج في المرتبة الثانية على دفعته .

خلال تدريبه في مستشفى جونز هوبكنز وتحت إشراف الطبيب الشهير ويليام أوسلر، بدأ إرلانجر اهتمامه بالبحث العلمي، حيث أجرى تجارب لاكتشاف الأداء الوظيفي للقلب والكلى، وطوّر جهاز قياس الضغط بكفاءة عالية، ما أكسبه احترامًا سريعًا في الوسط الطبي .

التعليم والتكوين المهني

في عام 1906، عُيّن إرلانجر أول أستاذ لعلم الفسيولوجيا في كلية الطب بجامعة ويسكونسن في ماديسون، حيث بدأ رحلته كمعلم وباحث مؤثر .

بعد ذلك بسنوات، في 1910، انتقل إلى Washington University في سانت لويس، حيث توفّرت له إمكانيات بحثية أكبر. هناك، التقى بطالب متميز هو هربرت سبنسر جاسر، الذي أصبح شريكًا له في رحلة كشف أسرار الأعصاب .

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

خلال الحرب العالمية الأولى، لم يقتصر إرلانجر على العمل الأكاديمي فقط، بل شارك أيضًا في بحوث حول الصدمات الحربية وتأثيرها، ما بيّن تنوع مداركه العلمية .

لكن أهم محطة في مسيرته جاءت في 1922، عندما تعاون مع جاسر في تعديل جهاز oscilloscope لاستكشاف النشاط الكهربائي للأعصاب. بفضلهما، أمكن تسجيل الإشارات العصبية بدقة، وكشفا عن أن الألياف المختلفة في نفس العصب تنقل الإشارات بسرعات متفاوتة حسب سمكها .

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

في 1932، قدَّم إرلانجر وجاسر اكتشافًا غير مسبوق: أن سرعة الإشارة العصبية تتناسب مع سمك الليف العصبي، وأن لكل ليف عتبة إثارة مختلفة ووظيفة مخصوصة . كانت هذه الاكتشافات أساسًا لفهم أفضل للأمراض العصبية وآليات الألم والانعكاس.

في 1944، مُنح إرلانجر وجاسر جائزة نوبل في الطب عن هذا العمل الثوري في علم الأعصاب . وقد أضاف إرلانجر إنسانيته إلى الإنجاز، حين أُهدِي ميداليته لاحقًا إلى الجمعية الأمريكية للفسيولوجيا عام 2025، تأكيدًا على تبنيه للعلم خدمةً للبشرية .

التكريمات والجوائز الكبرى

إلى جانب جائزة نوبل، نال إرلانجر درجات فخرية من جامعات مرموقة مثل جامعة كاليفورنيا، ويسكونسن، وبنسلفانيا، وميشيغان، وغيرها . كما كان عضوًا في الأكاديمية الوطنية للعلوم (1922)، والجمعية الفلسفية الأمريكية (1927) . وقد خدم ضمن قيادات الجمعية الأمريكية للفسيولوجيا، بما في ذلك منصب الرئيس بين 1926–1929، وأسهم في دعم مجلة الجمعية ودعم برامجها الفكرية .

التحديات والمواقف الإنسانية

تفاني إرلانجر في العمل لم يمنعه من أن يكون إنسانًا عصاميًا. عاش إلى أن لامس التسعين، وتوفي في 5 ديسمبر 1965 في سانت لويس بسبب مرض قلبي .

بيته في سانت لويس، حيث عاش من 1917 حتى وفاته، أصبح معلمًا تاريخيًا يُعرف باسم Joseph Erlanger House، وصُنّف من المعالم الوطنية في الولايات المتحدة عام 1976 تقديرًا لمكانته العلمية .

وفي 2009، كرَّمت الجمعية الفلكية الدولية إرلانجر بإطلاق اسمه على فوهة في القمر، تأكيدًا على عظم مساهماته التي أطاحت بالحدود التقليدية للعلوم .

الإرث والتأثير المستمر

مشوار إرلانجر العلمي، خاصة اكتشافاته المتعلقة بالألياف العصبية والإشارات الكهربائية، ما تزال تُدرس في الجامعات العالمية، وتُشكل أساسًا لفهم الأمراض العصبية وتطوير العلاجات الحديثة.

كما يكرّم إرلانجر وجاسر سنويًا في محاضرة Erlanger-Gasser Lecture التي بدأ هذا التقليد في 1989، وتستضيف كبار العلماء في البيولوجيا والطب للحديث عن التطورات المستقبلية في التحكم العصبي والفسيولوجيا .

الجانب الإنساني والشخصي

لم يكتف إرلانجر بإنجازاته العلمية، بل تجسّدت شخصيته أيضاً في تواضعه، التزامه، ووفائه لبيئته. عاش طوال حياته في منزله الذي بناه عام 1903 وسكنه منذ 1917 حتى وفاته، برمز للثبات والانتماء .

خلاصة السيرة: دروس من عبقري عصاري

  • السيرة الذاتية لـجوزيف إرلانجر تكشف عن مزيج جميل بين الطموح، البحث الدقيق، والصدق العلمي.
  • إنجازاته فتحت آفاقاً لفهم الدماغ والجهاز العصبي بعمق أكبر.
  • حياة إرلانجر هي درس في أن الإبداع العلمي لا يحتاج لمظاهر فخمة، بل لفضول، تعاون، وإصرار.
  • الإلهام: إرلانجر علّمنا أن إرث العالِم الحقيقي هو الذي يستمر في النشر، التعليم وتأثير الأجيال، وليس فقط الجوائز أو الشهرة.

جدول زمني مبسّط

السنةالحدث الرئيسي
1874ميلاده في سان فرانسيسكو
1895بكالوريوس في الكيمياء، جامعة كاليفورنيا، بيركلي
1899شهادة الطب من جونز هوبكنز
1906منصبه الأول كأستاذ فسيولوجيا في جامعة ويسكونسن
1910انتقاله إلى جامعة واشنطن – سانت لويس
1922اكتشاف الإشارات العصبية باستخدام الأوسيلوسكوب
1932إثبات العلاقة بين سرعة الإشارة العصبية وسمك الليف العصبي
1944جائزة نوبل في الطب
1946تقاعده كأستاذ فخري
1965وفاته في سانت لويس
1976تصنيف منزله كمعلم تاريخي وطني
1989بدء “محاضرات إرلانجر-جاسر” لتكريم إرثه العلمي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى