جون كوكروفت… الرجل الذي فكّ أسر الذرة وأطلق شرارة العصر النووي

المقدمة: من شرارة الحلم إلى تفكيك الذرّة
في زمنٍ كان فيه الإنسان يحلم بفهم أسرار الكون، برز عالم إنجليزي هادئ الملامح، يحمل في عقله وهجًا من العبقرية وفي قلبه إيمانًا عميقًا بالعلم كوسيلة لخدمة البشرية. ذلك هو جون دوغلاس كوكروفت (John Douglas Cockcroft)، الرجل الذي استطاع عام 1932، مع زميله إرنست والتون (Ernest Walton)، أن يحقق إنجازًا غيّر مسار التاريخ العلمي: تفكيك الذرّة لأول مرة في التاريخ باستخدام مسرّع للجسيمات.
 لقد كان ذلك الحدث لحظة فارقة، نقلت العالم من مجرد ملاحظة المادة إلى السيطرة على قلبها، لتبدأ قصة جديدة في عالم الفيزياء والطاقة النووية، قصة ستخلّد اسم كوكروفت في ذاكرة العلم إلى الأبد.
النشأة والتكوين: بدايات في قرية هادئة
وُلد جون كوكروفت في 27 مايو 1897 في قرية صغيرة تُدعى تودموردن (Todmorden) في مقاطعة يوركشاير بإنجلترا، وسط بيئة بسيطة يغلب عليها الطابع الصناعي. كان والده يعمل في تجارة القطن، بينما كانت والدته مثالًا للحنان والانضباط، تغرس في أبنائها حبّ المعرفة والجدّ.
في طفولته، لم يكن كوكروفت طفلًا صاخبًا أو مغامرًا؛ بل كان يميل إلى التأمل والتجريب الهادئ. يُروى أنه في سن العاشرة، صنع نموذجًا بسيطًا لمحرك كهربائي باستخدام قطع معدنية قديمة وأسلاك نحاسية. كان ذلك الموقف الأول الذي كشف عن شغفه العميق بالكهرباء والطاقة، وهو الشغف الذي سيقوده لاحقًا إلى فكّ أسرار الذرّة نفسها.
التعليم وبداية التكوين المهني
التحق كوكروفت بمدرسة هولسورث الثانوية، حيث أظهر تفوقًا واضحًا في الرياضيات والفيزياء. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، تطوّع للعمل في فيلق المهندسين الملكي البريطاني، وهناك صقل مهاراته في الهندسة التطبيقية والإلكترونيات، وهي تجربة ستؤثر بعمق في مسيرته العلمية اللاحقة.
بعد الحرب، عاد إلى مقاعد الدراسة والتحق بـ جامعة مانشستر، حيث درس الرياضيات التطبيقية تحت إشراف العالم الشهير إرنست رذرفورد، الذي يُعدّ “أب الفيزياء النووية”. كان اللقاء بين رذرفورد وكوكروفت لحظة فارقة، إذ وجد الطالب في أستاذه ملهمًا فكريًا وصديقًا فكريًا، بينما رأى رذرفورد في كوكروفت عقلًا تحليليًا نادرًا.
نال كوكروفت درجة البكالوريوس في عام 1920، ثم الماجستير في عام 1921، لينتقل بعدها إلى جامعة كامبريدج، وتحديدًا إلى مختبر كافنديش العريق، الذي كان آنذاك مركزًا عالميًا للبحوث في الفيزياء الذرية.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
في مختبر كافنديش، بدأ كوكروفت رحلته الحقيقية. كانت عشرينيات القرن العشرين فترة ثورية في علم الفيزياء، حيث بدأت النظرية الكمية تتشكل، وبدأت الأسئلة تتكاثر حول بنية النواة وإمكانات اختراقها.
 انضم كوكروفت إلى زميله إرنست والتون في مشروع طموح هدفه تحقيق ما كان يُعد مستحيلًا: قصف نواة الذرّة بجسيمات عالية الطاقة لتفكيكها.
لكنّ التحدي الأكبر كان الموارد التقنية. لم تكن هناك أجهزة قادرة على تسريع الجسيمات إلى السرعات المطلوبة. لذلك قرر كوكروفت أن يبني بنفسه المسرّع الكهربائي، مستخدمًا مبدأ الفولتية العالية في تسريع البروتونات.
 عمل الرجلان لسنوات في ظروف شاقة، وسط فقرٍ في التمويل وقلة في الدعم، حتى قال كوكروفت في إحدى رسائله:
“لم يكن لدينا سوى الحلم، وبعض الأسلاك، والكثير من الإصرار.”
جدول زمني مختصر لانطلاقته المهنية:
| السنة | الحدث البارز | 
|---|---|
| 1920 | تخرّج من جامعة مانشستر بدرجة البكالوريوس. | 
| 1921 | نال الماجستير والتحق بجامعة كامبريدج. | 
| 1928 | بدأ تعاونه مع إرنست والتون في مشروع تسريع البروتونات. | 
| 1932 | نجح في تفكيك نواة الذرّة لأول مرة في التاريخ. | 
| 1939 | عُيّن أستاذًا في جامعة كامبريدج. | 
| 1944–1946 | عمل في مشاريع الطاقة النووية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية. | 
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
تفكيك الذرّة: الحدث الذي غيّر وجه العالم
في 14 أبريل 1932، سجّل التاريخ لحظة الانتصار: استطاع كوكروفت ووالتون قصف نواة ذرة الليثيوم بالبروتونات، ما أدى إلى انشطارها إلى ذرتين من الهيليوم.
 لقد كانت تلك أول تجربة تفكّ فيها نواة ذرة اصطناعيًا، وهو إنجاز فتح الباب أمام ولادة الطاقة النووية والعصر الحديث في الفيزياء.
قال رذرفورد حينها، وهو يهنئ تلميذيه:
“لقد فتحتم بابًا لن يُغلق أبدًا.”
هذا الإنجاز لم يكن مجرد انتصار علمي؛ بل شكّل الأساس لما عرف لاحقًا بمفاعلات الطاقة النووية والمستشفيات الإشعاعية والتقنيات الطبية الحديثة.
تطوير الطاقة الذرية السلمية
خلال الحرب العالمية الثانية، تم استدعاء كوكروفت للمشاركة في مشروع تطوير الطاقة الذرية في بريطانيا، لكنه كان من أوائل الأصوات التي دعت إلى استخدام الذرّة لأغراض سلمية فقط.
 بعد الحرب، أسس مشروعًا بحثيًا لتطوير مفاعلات نووية لأغراض الطاقة، وليس للأسلحة، مؤمنًا أن “العلم يجب أن يضيء العالم لا أن يحرقه”.
التكريمات والجوائز الكبرى
لم تمر إنجازات كوكروفت دون تقدير عالمي. ففي عام 1951، نال مع زميله إرنست والتون جائزة نوبل في الفيزياء “عن أعمالهما الرائدة في تحويل العناصر من خلال قذفها بجسيمات مسرعة”.
 كما حصل على وسام الاستحقاق البريطاني ووسام فارس الإمبراطورية البريطانية، وتم منحه لقب سير (Sir)، ليصبح السير جون كوكروفت.
إضافة إلى ذلك، شغل مناصب علمية مرموقة، أبرزها مدير مختبر كافنديش ورئيس هيئة الطاقة الذرية البريطانية.
 وقد قال عنه الفيزيائي نيلز بور ذات مرة:
“كوكروفت ليس مجرد عالم ذرة؛ إنه ضمير العلم في زمنٍ تتصارع فيه القوى على الذرّة.”
التحديات والمواقف الإنسانية
لم تكن حياة كوكروفت سهلة رغم بريق نجاحاته. فقد عاش صراعًا داخليًا حول استخدام الطاقة النووية في الحرب، خاصة بعد قصف هيروشيما وناغازاكي عام 1945.
 روى بعض زملائه أنه بكى عند سماعه الخبر، وقال:
“لم نكسر نواة الذرّة لنكسر قلوب البشر.”
كان مؤمنًا أن مسؤولية العلماء لا تنتهي عند المختبر، بل تبدأ حين يستخدم العالم معرفته في توجيه الإنسانية نحو الخير.
 كما أنه كان يولي اهتمامًا كبيرًا لتعليم الأجيال الجديدة من الفيزيائيين، وحرص على إنشاء برامج بحثية متقدمة في جامعة كامبريدج تُعنى بتطبيقات الفيزياء في الطب والصناعة.
الإرث والتأثير المستمر
لا يزال تأثير جون كوكروفت حاضرًا حتى اليوم في كل مفاعل نووي يولّد طاقة نظيفة، وفي كل جهاز تصوير إشعاعي يساعد على إنقاذ حياة إنسان.
 فقد وضع الأساس لفكرة أن الطاقة الذرية يمكن أن تكون أداة بناء لا دمار، وأن العلم، مهما كان معقدًا، يمكن أن يوجَّه لخدمة الإنسانية.
كذلك، أسهمت أبحاثه في تطوير تقنيات المسرّعات الخطية، التي تُستخدم اليوم في فيزياء الجسيمات والطب الإشعاعي، وهو ما جعل اسمه يتردد في كبرى المختبرات حول العالم.
الجانب الإنساني والشخصي
رغم عبقريته العلمية، كان كوكروفت إنسانًا بسيطًا في حياته اليومية. أحبّ القراءة والموسيقى الكلاسيكية، وكان يقضي عطلاته في المشي عبر ريف يوركشاير متأملًا الطبيعة.
 تزوّج من إديث لانكستر وأنجب منها أربعة أبناء، وكان يرى في عائلته مصدر إلهام وراحة.
 وفي حديث صحفي عام 1960، قال عبارته الشهيرة:
“أعظم طاقة عرفها الإنسان ليست في الذرّة، بل في المحبة.”
هذه الجملة أصبحت شعارًا يتردد في أروقة الجامعات التي تحمل اسمه، تعبيرًا عن فلسفته التي جمعت بين العلم والإيمان بالإنسان.
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
رحل جون كوكروفت عن العالم في 18 سبتمبر 1967 عن عمر ناهز 70 عامًا، لكنه ترك إرثًا خالدًا في تاريخ العلم الحديث.
 من سيرته نتعلم أن العبقرية ليست فقط في الاكتشاف، بل في الوعي الأخلاقي لما نكتشفه. لقد كان نموذجًا للعالم الذي يدرك أن المعرفة مسؤولية بقدر ما هي قوة.
سيرة جون كوكروفت تُلهم كل باحث وكل إنسان بأن الحلم، مهما بدا مستحيلًا، يمكن أن يتحقق إذا امتزج بالعلم والإصرار والضمير.
 إنجازات جون كوكروفت ليست مجرد إنجازات علمية، بل هي قصة إنسان آمن بأن الضوء أقوى من الانفجار، وأن الذرّة يمكن أن تكون مفتاحًا للسلام لا سلاحًا للحرب.
 
 


