جون هوارد نورثروب: سيرة عالم غيّر فهمنا للبروتينات والفيروسات

المقدمة: جذب الانتباه
في عالم العلم، هناك أسماء تُضيء مسيرة البشرية وتترك أثرًا لا يزول. ومن بين هؤلاء يقف جون هوارد نورثروب، الكيميائي والبيوكيميائي الأمريكي الذي فتح أبوابًا جديدة لفهم الحياة على المستوى الجزيئي. لم يكن مجرد باحث في مختبر، بل كان مغامرًا في حقل مجهول، استطاع أن يعزل لأول مرة إنزيمًا وبروتينًا نقيًا، مما غيّر النظرة العلمية إلى طبيعة الحياة. حين نقرأ “سيرة جون هوارد نورثروب”، فإننا لا نقرأ قصة عالم فحسب، بل قصة إصرار إنساني على اكتشاف أسرار الخلق.
النشأة والتكوين
وُلد جون هوارد نورثروب في 5 يوليو 1891 في مدينة يونكرز بولاية نيويورك، وسط أسرة تقدّر التعليم والبحث. والده كان أستاذًا في علم الحيوان بجامعة كولومبيا، وأمه تنحدر من عائلة تهتم بالأدب والمعرفة. هذا المزيج بين العلم والثقافة كوّن منذ طفولته شخصية متوازنة، تميل للتفكير النقدي والاستقصاء.
كان نورثروب طفلًا فضوليًا، يُكثر من طرح الأسئلة. ومن بين المواقف التي يرويها معاصروه أنه كان يراقب الحشرات في الحقول لساعات طويلة، محاولًا فهم أنماط حركتها وتغذيتها. تلك الملاحظات البسيطة كانت نواة لعقل علمي سيكرس حياته لفهم الكائنات على مستوى الجزيئات.
التعليم وبداية التكوين المهني
بدأ نورثروب تعليمه في المدارس المحلية، ثم التحق بـ جامعة كولومبيا حيث حصل على درجة البكالوريوس في العلوم عام 1912. ولأن فضوله العلمي كان لا يشبع، واصل دراسته في نفس الجامعة، لينال درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية عام 1915.
تأثر خلال سنوات دراسته بأساتذة بارزين مثل جاكوب لورنس، الذين رسخوا فيه الإيمان بأن العلم لا يقتصر على التجريب، بل هو أيضًا رحلة فلسفية لفهم الحياة. في هذه المرحلة المبكرة، بدأ اهتمامه بالإنزيمات والعمليات الكيميائية داخل الخلايا، وهو ما سيحدد مسار حياته العلمية لاحقًا.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
بعد نيله الدكتوراه، انخرط نورثروب في العمل البحثي بمعهد روكفلر للأبحاث الطبية. كانت تلك بداية حقيقية لمغامرته مع البروتينات والإنزيمات. إلا أن الطريق لم يكن سهلًا؛ فقد واجه في البداية صعوبات تقنية هائلة في عزل البروتينات وتنقيتها، إذ كانت وسائل المختبر في تلك الفترة بدائية مقارنةً باليوم.
ورغم ذلك، واصل تجاربه بإصرار. في جدول زمني مبسط لمسيرته المبكرة نرى:
- 1915: حصوله على الدكتوراه من جامعة كولومبيا.
- 1916–1918: انشغاله بأبحاث مرتبطة بالجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الأولى.
- 1920: عودته إلى أبحاث البروتينات بمعهد روكفلر.
كل خطوة من هذه المراحل كانت تمهيدًا للقفزة الكبرى التي سيحققها لاحقًا.
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
أعظم إنجازات جون هوارد نورثروب تمثلت في عزل الإنزيمات والبروتينات في صورة نقية متبلورة، وهو ما كان ثورة في علم الكيمياء الحيوية. فقد أثبت أن الإنزيمات ما هي إلا بروتينات، وهو اكتشاف غيّر جذريًا فهم العلماء لطبيعة الحياة.
كما كان من أوائل العلماء الذين قاموا بعزل فيروس في صورة نقية، مما أتاح دراسته بشكل مباشر وفهم طبيعته الكيميائية. وهنا قال نورثروب عبارته الشهيرة:
“لفهم الحياة، يجب أن ندرسها على مستوى الجزيئات التي تُكوّنها.”
لقد أحدثت أعماله قفزة هائلة في الطب وعلم الفيروسات، إذ مهدت الطريق لاكتشاف علاجات قائمة على الإنزيمات وفهم طبيعة الأمراض الفيروسية.
التكريمات والجوائز الكبرى
في عام 1946، حصل جون هوارد نورثروب على جائزة نوبل في الكيمياء مشاركةً مع جيمس ب. سمنر وويندل ستانلي. كان ذلك تكريمًا مستحقًا لاكتشافاته في عزل وتنقية الإنزيمات والفيروسات.
استقبل المجتمع العلمي هذا الفوز بترحاب واسع، إذ رآه العلماء اعترافًا بانتقال الكيمياء الحيوية إلى مستوى جديد من الدقة والموضوعية. كما حصل نورثروب على العديد من التكريمات الأخرى من مؤسسات علمية في الولايات المتحدة وأوروبا.
التحديات والمواقف الإنسانية
وراء إنجازاته العلمية، كان نورثروب إنسانًا بسيطًا، يرفض الأضواء، ويؤمن أن “العلم لا يحتاج إلى بطل، بل إلى فريق”. من أبرز المواقف الإنسانية أنه رغم الجوائز العديدة، كان يُصر على ذكر فضل مساعديه في المختبر، بل واعتبرهم شركاء حقيقيين في النجاح.
كما أنه عُرف بالتواضع، وكان يمضي وقتًا طويلاً في تعليم طلابه وفتح أبواب مختبره للباحثين الشباب.
الإرث والتأثير المستمر
إن إرث جون هوارد نورثروب لم يتوقف عند حدود حياته. فقد ساهمت أبحاثه في تأسيس مجال البيوكيمياء الحديث، وساهمت نتائجه في تطوير علوم الوراثة والطب الجزيئي. واليوم، يعتمد الباحثون في علوم الأدوية وعلم المناعة على أسس وضعها هو وزملاؤه منذ ما يقارب القرن.
الجانب الإنساني والشخصي
خارج المختبر، كان نورثروب محبًا للطبيعة والقراءة. اعتاد قضاء عطلاته في رحلات صيد بسيطة أو في قراءة كتب الفلسفة. كان يؤمن بأن “التوازن بين العقل والروح هو مفتاح الإبداع”.
كما عُرف بتمسكه بالقيم الإنسانية، فقد دعم برامج تعليمية تهدف إلى مساعدة الطلبة الفقراء على الالتحاق بالجامعات، إدراكًا منه بأن المستقبل يحتاج إلى عقول جديدة.
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
تُعلمنا حياة جون هوارد نورثروب أن النجاح العلمي ليس وليد المصادفة، بل هو حصيلة شغف وصبر وتواضع. لقد ترك للعالم إنجازات علمية غيرت فهمنا للإنزيمات والفيروسات، لكنه ترك أيضًا إرثًا إنسانيًا يقوم على الإيمان بالتعاون ونكران الذات.
إن “سيرة جون هوارد نورثروب” ليست مجرد قصة عالم كيمياء، بل قصة إنسان آمن بالعلم كوسيلة لخدمة البشرية. ومن الدروس التي نستخلصها من مسيرته أن السعي وراء الحقيقة قد يكون شاقًا، لكنه في النهاية يُنير دروب الأجيال القادمة.