جيرتي كوري.. العالمة التي كسرت القيود وحوّلت الشغف إلى اكتشاف خالد

المقدمة
في عالمٍ كان يضج بالتحولات العلمية والاجتماعية في بدايات القرن العشرين، ووسط مجتمعٍ لم يكن يتقبل بسهولة فكرة أن امرأة يمكن أن تكون في مصاف العلماء الكبار، بزغ نجم جيرتي تيريزا كوري (Gerty Theresa Cori) لتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ العلم. لم تكن مجرد باحثة تسعى وراء المجد، بل كانت روحًا علمية لا تعرف المستحيل. لقد قادها شغفها بالكيمياء الحيوية إلى اكتشافٍ غيّر مسار الطب الحديث، وفتح الأبواب أمام فهم أعمق لآليات الطاقة في جسم الإنسان.
كانت جيرتي رمزًا للمثابرة في وجه القيود الاجتماعية، وصوتًا نسائيًا في ميدانٍ كان يُعد حكرًا على الرجال. قصة حياتها ليست مجرد سيرة علمية، بل حكاية عن الشغف والوفاء، إذ امتزجت فيها ملامح العالمة المبدعة بالزوجة المخلصة، والإنسانة التي آمنت أن “العلم لا يعرف جنسًا، بل يعرف شغفًا وإصرارًا”.
النشأة والتكوين
ولدت جيرتي تيريزا رادنيتز في 7 أغسطس 1896 في مدينة براغ التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية. نشأت في عائلة يهودية متوسطة الحال، كان والدها “أوتو رادنيتز” مدير مصنع للسكر، ورغم الظروف الصعبة التي مرت بها العائلة خلال الاضطرابات السياسية، إلا أن والديها حرصا على أن تنال ابنتهم تعليمًا راقيًا.
منذ طفولتها، أبدت جيرتي ميولًا واضحة نحو العلوم، واهتمت بقراءة الكتب الطبية والعلمية أكثر من القصص الخيالية. كانت تقول في إحدى رسائلها:
“كنت أؤمن أن وراء كل معجزة جسدية قانونًا علميًا ينتظر أن نكتشفه.”
هذا الإيمان المبكر جعلها ترى في العلم وسيلة لفهم الحياة لا لمجرد دراستها، وهو ما مهد طريقها نحو مسيرة استثنائية.
التعليم وبداية التكوين المهني
بدأت جيرتي دراستها الثانوية في مدارس للفتيات في براغ، لكن شغفها بالعلوم جعلها تسعى لدخول كلية الطب في جامعة كارل في براغ، وهو أمر لم يكن معتادًا للفتيات في ذلك الوقت. بعد جهد كبير، التحقت بالجامعة عام 1914، وهناك التقت بزميلها كارل كوري (Carl Cori)، الذي سيصبح لاحقًا شريك حياتها العلمي والإنساني.
كانت فترة دراستها مليئة بالصعوبات؛ فالحرب العالمية الأولى ألقت بظلالها على أوروبا، ومع ذلك واصلت دراستها بتفوق، وتخرجت عام 1920 بدرجة الطب والجراحة.
لم يكن طريقها نحو البحث العلمي مفروشًا بالورود، إذ واجهت نظرات الشك والتمييز من زملائها والأساتذة، لكنها كانت تردّ دائمًا بالإنجاز والصبر.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
بعد تخرّجها، عملت جيرتي في أحد المستشفيات في فيينا، حيث بدأت اهتمامها بأمراض الغدد والتمثيل الغذائي. وفي العام ذاته، تزوجت من زميلها كارل كوري، واتخذا معًا قرارًا حاسمًا بتكريس حياتهما للبحث العلمي.
في عام 1922، قرر الزوجان الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية بحثًا عن فرص أفضل للبحث والتطوير. عملا في البداية في “معهد ألباني للبيولوجيا”، لكن التحديات لم تكن قليلة. فبينما حصل كارل على وظيفة علمية مرموقة، لم يُسمح لجيرتي بالعمل كباحثة متكافئة بسبب كونها امرأة.
كانت تتقاضى نصف راتب زوجها، وتُمنع من الوصول إلى بعض المختبرات، لكن ذلك لم يثنِها عن متابعة العمل ليلًا ونهارًا. كتبت في إحدى مذكراتها:
“لم يكن التحدي في قلة المال أو ضيق المكان، بل في أن تُقنع العالم بأنك قادرة على أن ترى ما لا يراه سواك.”
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
بلغت رحلة البحث ذروتها حين توصّل الزوجان كوري إلى اكتشاف دورة تحول الغلايكوجين إلى جلوكوز والعكس في جسم الإنسان، وهي العملية الحيوية التي تمنح الجسم الطاقة. عُرفت هذه الدورة لاحقًا باسم “دورة كوري” (Cori Cycle).
كان لهذا الاكتشاف أثر بالغ في فهم اضطرابات التمثيل الغذائي، مثل داء السكري وأمراض العضلات، وفتح المجال أمام تطوير أساليب علاجية جديدة.
في عام 1947، مُنحت جيرتي كوري وكارل كوري جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا مناصفةً مع العالم الأرجنتيني “برناردو هوساي”، لتصبح أول امرأة في التاريخ تحصل على جائزة نوبل في الطب، وثالث امرأة فقط تنال الجائزة في أي مجال علمي حتى ذلك الحين.
تُعد جيرتي نموذجًا فريدًا في التعاون العلمي بين الزوجين، فقد شكّلت مع كارل ثنائيًا يُضرب به المثل في التكامل بين العقلين.
كتب عنها أحد زملائها في جامعة واشنطن:
“كانت جيرتي أكثر من نصف الفريق؛ كانت القلب النابض للفكرة، والعقل الذي لم يتوقف عن التساؤل.”
التكريمات والجوائز الكبرى
لم تتوقف إنجازات جيرتي عند جائزة نوبل، بل حصلت على العديد من التكريمات خلال حياتها وبعد وفاتها.
- في عام 1947، تم تعيينها أستاذة في جامعة واشنطن في سانت لويس، لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ الجامعة.
- نالت جائزة غارفان ميدالية الجمعية الكيميائية الأمريكية تقديرًا لأبحاثها الرائدة في الكيمياء الحيوية.
- كما أُدرج اسمها في قائمة النساء الرائدات في العلم التي تصدرها الأكاديمية الوطنية الأميركية.
ومع ذلك، كانت تعتبر أن أعظم تكريم نالته هو رؤية طلابها وهم يواصلون طريق البحث الذي بدأته، فقد كانت تقول:
“كل اكتشاف يولد من رحم الشك، وكل عالم يبدأ حين يسأل: لماذا؟”
التحديات والمواقف الإنسانية
وراء كل نجاح لجيرتي قصة تحدٍ مرير. فإلى جانب التمييز ضد النساء، عانت من مرض نادر في نخاع العظم في سنواتها الأخيرة، أدى إلى تدهور صحتها تدريجيًا. ومع ذلك، لم تتوقف عن العمل، بل واصلت الإشراف على طلابها حتى الأيام الأخيرة من حياتها.
كتب زوجها كارل بعد وفاتها قائلًا:
“كانت جيرتي تعمل حتى وهي تتألم. لم أعرف في حياتي شجاعة توازي إصرارها على أن يكون للعلم صوت حتى في لحظات الصمت.”
كانت إنسانيتها تتجلى في دعمها للباحثات الشابات، إذ كانت تفتح أبواب مختبرها لكل امرأة طموحة، مؤمنة بأن الفرص لا تُمنح، بل تُنتزع بالإرادة والعلم.
الإرث والتأثير المستمر
رغم وفاتها في 26 أكتوبر 1957، فإن إرث جيرتي كوري ما زال حيًا في أروقة الجامعات والمختبرات.
تم تأسيس “منحة كوري للأبحاث الطبية” باسمها، لدعم النساء في مجالات العلوم الحيوية. كما أن العديد من المعاهد العلمية حول العالم تحتفي بذكراها سنويًا باعتبارها رمزًا للعلم والعدالة المعرفية.
لقد مهدت الطريق لعشرات العالمات اللاتي جئن بعدها، مثل روزاليند فرانكلين وريتا ليفي مونتالشيني، وغيرهن ممن واصلن كسر الحواجز في وجه التمييز العلمي.
يمكن القول إن جيرتي لم تكتشف دورة الغلايكوجين فقط، بل اكتشفت أيضًا دورة الإصرار الإنساني، حيث يتحول الشغف إلى معرفة، والمعرفة إلى إرث خالد.
الجانب الإنساني والشخصي
بعيدًا عن المختبرات، كانت جيرتي إنسانة بسيطة محبة للطبيعة والموسيقى. كانت تقضي أوقات فراغها في قراءة الأدب الروسي، وتهتم بالحدائق والنباتات.
كانت علاقتها بزوجها كارل مثالًا على الشراكة الفكرية والعاطفية في آنٍ واحد، إذ لم يكن عملهما مجرد تعاون مهني، بل امتدادًا لحب عميق قائم على الاحترام المشترك للعلم والحياة.
كانت تؤمن بأن “العلم شكل من أشكال الجمال”، وأن “كل خلية في الجسد تروي قصة الخلق والتطور”.
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
تُعد سيرة جيرتي تيريزا كوري درسًا خالدًا في معنى الإصرار والوفاء للعلم. لقد أثبتت أن الشغف أقوى من القيود، وأن المرأة قادرة على أن تكون منارة في ميادين الفكر والعلم.
من خلال اكتشافاتها، لم تغيّر جيرتي فقط فهم الإنسان لجسده، بل غيّرت نظرة العالم لدور المرأة في صناعة المستقبل.
إنها حكاية العالمة التي آمنت أن “الحياة تجربة علمية كبرى”، وأن القيمة الحقيقية للعالم لا تقاس بعدد الجوائز، بل بما يتركه من أثر في عقول وقلوب الآخرين.