جيوبوليتيك الأنظمة الإقليمية: قراءة تحليلية في كتاب د. باسل الحجار

مقدمة
يمثل كتاب “جيوبوليتيك الأنظمة الإقليمية (بين حدود المشروعية وسطوة القوة)” للدكتور باسل الحجار أحد الأعمال الأكاديمية المتميزة التي تتناول البنية الجيوسياسية للأنظمة الإقليمية وتفاعلاتها المعقدة في سياق عالمي يتسم بالتغير الدائم. يتناول الكتاب موضوعًا محوريًا في علم الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك)، إذ يسعى إلى فهم كيف تتشكل الأنظمة الإقليمية، وما العوامل التي تؤثر على استقرارها أو تفككها، مستعرضًا العلاقة الجدلية بين شرعية النظام الإقليمي وقوة الفاعلين فيه.
في هذا المقال، سنعرض أبرز محاور الكتاب، ونحلل مضمونه، مع بيان أهم الأفكار والمفاهيم التي طرحها المؤلف، وأثره في حقل الدراسات الجيوسياسية المعاصرة.
المؤلف والخلفية العلمية
الدكتور باسل الحجار أكاديمي متخصص في الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية. يتمتع بخبرة طويلة في تحليل التفاعلات الإقليمية والعالمية، وله إسهامات علمية متعددة في مجالات الجيوبوليتيك وإدارة النزاعات الدولية. يعكس هذا الكتاب نضجًا علميًا وفكريًا يظهر في طريقة صياغة الأفكار، وغنى التحليل النظري المدعوم بأمثلة واقعية من مناطق متعددة من العالم.
فكرة الكتاب الرئيسية
يتمحور الكتاب حول فرضية مركزية مفادها أن النظام الإقليمي يتأرجح دائمًا بين مشروعية ترتكز إلى قواعد وقيم متفق عليها بين الفاعلين الإقليميين، وبين سطوة القوة التي تستخدمها بعض الأطراف لفرض واقع جيوسياسي يخدم مصالحها.
يرى د. الحجار أن الأنظمة الإقليمية لا تتشكل فقط بفعل التقاء المصالح أو المشتركات الثقافية أو التاريخية، بل كثيرًا ما تفرضها توازنات القوة أو تدخلات قسرية. ومن هنا، فإن فهم طبيعة النظام الإقليمي يتطلب تحليلًا مزدوجًا: دراسة قواعد الشرعية الرسمية، وفهم ديناميكيات القوة الفعلية.
محتوى الكتاب وتحليله
الفصل الأول: مفاهيم أساسية في الجيوبوليتيك
يفتتح المؤلف كتابه بتعريف دقيق لمفهوم “الجيوبوليتيك”، موضحًا أن الجيوبوليتيك ليس فقط دراسة للجغرافيا وتأثيرها على السياسة، بل هو علم قائم على تفسير السلوك السياسي للدول بناءً على مواقعها الجغرافية وإمكاناتها المادية. كما يقدم تعريفًا متمايزًا لمفهوم “النظام الإقليمي”، محددًا إياه بأنه مجموعة من الدول تتفاعل فيما بينها بشكل مكثف وتؤثر الأحداث في إحداها بشكل مباشر على الأخرى.
الفصل الثاني: نشأة الأنظمة الإقليمية
يتناول الحجار في هذا الفصل الظروف التاريخية والسياسية التي تؤدي إلى نشأة الأنظمة الإقليمية. يوضح أن ظهور نظام إقليمي عادة ما يرتبط بحدث مفصلي، كحروب الاستقلال، أو انتهاء استعمار، أو صعود قوى إقليمية جديدة. ومن الأمثلة التي تناولها المؤلف: تشكل النظام العربي الإقليمي بعد الحرب العالمية الثانية، ونشأة النظام الإقليمي في جنوب شرق آسيا بعد الحرب الباردة.
الفصل الثالث: مشروعية النظام الإقليمي
يسبر المؤلف أغوار مفهوم المشروعية في السياق الإقليمي، مبينًا أنها تتأسس على جملة من القواعد والمعايير التي تقبلها الأطراف الفاعلة. تشمل هذه القواعد احترام السيادة، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، التوازن بين المصالح الوطنية، والالتزام بآليات حل النزاعات سلميًا. ولكن يشير الحجار إلى أن هذه المشروعية تبقى هشّة إذا لم تتدعم بقوة مؤسسية حقيقية وآليات ردع ضد الأطراف المتمردة.
الفصل الرابع: سطوة القوة في تشكيل الأنظمة
ينتقل الحجار إلى دراسة الأثر الحاسم للقوة في تشكيل الأنظمة الإقليمية. يؤكد أن الدول القوية إقليميًا تلعب دورًا مزدوجًا: أحيانًا كضامن للنظام، وأحيانًا كمهدد له. ويقدم تحليلات معمقة لحالات مثل:
- دور الولايات المتحدة في تشكيل نظام أمريكا اللاتينية تحت مظلة “مبدأ مونرو”.
- دور مصر في مرحلة الخمسينات والستينات كقوة محورية في النظام العربي.
- دور جنوب إفريقيا في النظام الإقليمي للقارة السمراء بعد نهاية الفصل العنصري.
الفصل الخامس: تحديات الأنظمة الإقليمية
يناقش الكتاب التهديدات التي تواجه الأنظمة الإقليمية مثل:
- النزاعات الحدودية.
- الحروب بالوكالة.
- التدخلات الخارجية.
- تحولات القوى الإقليمية الصاعدة.
ويؤكد الحجار أن استدامة النظام الإقليمي مرهونة بمدى قدرة الفاعلين على إدارة هذه التهديدات ضمن أطر مشروعة ومؤسسية.
الفصل السادس: بين المشروعية والقوة – جدلية دائمة
يختتم المؤلف كتابه بتأكيد أن كل نظام إقليمي يعيش في حالة توتر دائم بين الحفاظ على شرعيته وضمان توازن القوى داخله. وبالتالي، فإن الاستقرار الإقليمي يتطلب ليس فقط اتفاقيات مكتوبة أو مؤتمرات دولية، بل بناء ثقافة سياسية قائمة على الاحترام المتبادل وآليات فعالة لإدارة الخلافات.
منهجية الكتاب وأسلوبه
اعتمد الدكتور باسل الحجار منهجًا تحليليًا-مقارنًا، حيث قارن بين أنظمة إقليمية متنوعة جغرافيًا وتاريخيًا لاستنباط القواسم المشتركة والفوارق الجوهرية. كما يتميز أسلوبه بالوضوح والعمق معًا، حيث لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يسعى دومًا إلى تفسيرها وتأطيرها ضمن سياقات نظرية أوسع.
كما اعتمد الكتاب على مراجع أكاديمية موثوقة باللغتين العربية والإنجليزية، مما عزز مصداقيته الأكاديمية وأضفى عليه طابعًا علميًا رصينًا.
أثر الكتاب وأهميته
يحظى كتاب “جيوبوليتيك الأنظمة الإقليمية” بمكانة مرموقة في حقل الجغرافيا السياسية والدراسات الإقليمية، إذ يقدم إطارًا تحليليًا شاملاً لفهم طبيعة التفاعلات الإقليمية بعيدًا عن التفسيرات الاختزالية أو المثالية. وقد أصبح مرجعًا معتمدًا في عدة برامج أكاديمية، ومرتكزًا للباحثين في فهم الأزمات الإقليمية المعاصرة مثل الصراعات في الشرق الأوسط، وأزمات شرق آسيا.
الخاتمة
يقدم الدكتور باسل الحجار من خلال هذا الكتاب رؤية ناضجة وشاملة لفهم طبيعة الأنظمة الإقليمية، مستندًا إلى تحليل علمي دقيق للعلاقة الجدلية بين المشروعية والقوة. وقد استطاع المؤلف أن يسد فجوة معرفية مهمة في الأدبيات الجيوبوليتيكية العربية، مقدمًا مرجعًا غنيًا لكل دارس أو مهتم بشؤون العلاقات الإقليمية والدولية.
إن كتاب “جيوبوليتيك الأنظمة الإقليمية (بين حدود المشروعية وسطوة القوة)” ليس مجرد عمل أكاديمي تقليدي، بل هو مساهمة فكرية عميقة تعزز فهمنا لتطور النظام العالمي المعاصر وإشكالاته المتجددة.
لمعرفة المزيد: جيوبوليتيك الأنظمة الإقليمية: قراءة تحليلية في كتاب د. باسل الحجار