حبّ الرمان بين الطاهي والقدر: سرّ اللقاء وكشف الهوية في حكايات ألف ليلة وليلة..الليلة٢٣

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال: والله لأعملنّ عملًا ما سبقني إليه أحد. ثم أخذ دواة وقلمًا، وكتب أمتعة البيت، وأن الخشخانة في موضع كذا، والستارة الفلانية في موضع كذا؛ كتب جميع ما في البيت، ثم طوى الكتاب، وأمر بخزن جميع الأمتعة، وأخذ العمامة والطربوش، وأخذ معه الفرجية والكيس وحفظهما عنده.
وأما بنت الوزير فإنها لما كملت أشهرها ولدت ولدًا مثل القمر، يشبه والده من الحسن والكمال والبهاء والجمال، فقطعوا سرّته، وكحلوا مقلته، وسلّموه إلى المرضعات، وسمّوه عجيبًا؛ فصار يومه بشهر، وشهره بسنة. فلما مرّ عليه سبع سنين أعطاه جدّه لفقيه، ووصّاه أن يربيه ويحسن تربيته، فأقام في المكتب أربع سنوات، فصار يقاتل أهل المكتب ويسبّهم ويقول لهم: من فيكم مثلي؟ أنا ابن وزير مصر.
فقامت الأولاد، واجتمعوا يشكون إلى العريف ممّا قاسَوه من عجيب، فقال لهم العريف: أنا أعلّمكم شيئًا تقولونه له لما يجيء فيتوب عن المجيء للمكتب، وذلك أنه إذا جاء غدًا فاقعدوا حوله، وقولوا لبعضكم: والله ما يلعب معنا هذه اللعبة إلا من يقول لنا ما اسم أمه واسم أبيه، ومن لم يعرف اسم أمه واسم أبيه فهو ابن حرام، فلا يلعب معنا.
فلما أصبح الصباح أتوا إلى المكتب، وحضر عجيب، فاحتاطت به الأولاد وقالوا: نحن نلعب لعبة، ولكن ما يلعب معنا إلا من يقول لنا على اسم أمه واسم أبيه. واتفقوا على ذلك، فقال واحد منهم: اسمي ماجد، وأمي علوي، وأبي عز الدين. وقال الآخر مثل قوله، وقال الآخر كذلك، إلى أن جاء الدور إلى عجيب، فقال: أنا اسمي عجيب، وأمي ست الحسن، وأبي شمس الدين الوزير بمصر. فقالوا له: والله إن الوزير ما هو أبوك. فقال عجيب: الوزير أبي حقيقة. فعند ذلك ضحكت عليه الأولاد، وصفقوا عليه وقالوا: أنت ما تعرف لك أبًا، فقُم من عندنا، فلا يلعب معنا إلا من يعرف اسم أبيه. وفي الحال تفرّق الأولاد منه، وقالوا: أباك جدّك الوزير أبو أمك ست الحسن؟ إن أباك ما تعرفه أنت ولا نحن؛ لأن السلطان كان زوّجها للسائس الأحدب، وجاءت الجن فناموا عندها، فإن لم تعرف لك أبًا يجعلوك بينهم ولد زنا. ألا ترى أن ابن البائع يعرف أباه؟ فوزير مصر إنما هو جدك، وأما أبوك فلا نعرفه نحن ولا أنت، فارجع لعقلك.
فلما سمع ذلك الكلام قام من ساعته ودخل على والدته ست الحسن، وصار يشكي لها وهو يبكي، ومنعه البكاء من الكلام. فلما سمعت أمه كلامه وبكاءه التهب قلبها عليه، وقالت له: يا ولدي، ما الذي أبكاك؟ فاحكِ لي قصتك. فحكى لها ما سمعه من الأولاد ومن العريف، وقال لها: يا والدتي من هو أبي؟ قالت له: أبوك وزير مصر. فقال لها: ليس هو أبي، فلا تكذبي عليّ؛ فإن الوزير أبوكِ أنتِ لا أبي أنا، فمن هو أبي؟ فإن لم تخبريني بالصحيح قتلتُ روحي بهذا الخنجر.
فلما سمعت والدته ذِكر أبيه بكت لذِكر ولد عمها، وتذكّرت محاسن حسن بدر الدين البصري، وما جرى لها معه، وأنشدت هذه الأبيات:
أهاجوا الحب في قلبي وساروا، وقد شطّت بهم تلك الديار، وبان العقل مني حيث بانوا، وفارقني هُجوع واصطبار.
وقد ساروا، ففارقني سروري، وقد عُدم القرار، فلا قرار. وأجروا بالفراق دموع عيني، فأدمعها تُجاريها البحار.
إذا ما اشتقت يومًا أن أراهم، وزاد بهم حنيني وانتظاري، يُمثل شخصهم في وسط قلبي غرام واشتياق وادّكار.
أيا من ذكرهم أضحى دثاري، وما لي غير حبهم شعار. أحبّتنا، إليكم ذا التمادي، وكم هذا التباعد والنفـار.
ثم بكت وشهقت، وكذلك ولدها، وإذا بالوزير دخل، فلمّا نظر إلى بكائهما احترق قلبه، وقال: ما يُبكيكما؟
فأخبرته بما اتفق لولدها مع صغار المكتب، فبكى الآخر، ثم تذكر أخاه وما اتفق له معه، وما اتفق لابنته، ولم يعلم بما في باطن الأمر.
ثم قام الوزير في الحال، ومضى حتى طلع إلى الديوان، ودخل على الملك وأخبره بالقصة، وطلب منه الإذن بالسفر إلى الشرق ليقصد مدينة البصرة، ويسأل عن ابن أخيه، وطلب من السلطان أن يكتب له مراسيم لسائر البلاد: إذا وجد ابن أخيه في أي موضع يأخذه.
ثم بكى بين يدي السلطان، فرقّ له قلبه، وكتب مراسيم لسائر الأقاليم والبلاد. ففرح بذلك ودعا للسلطان، وودّعه ونزل في الحال وتجهّز للسفر، وأخذ ما يحتاج إليه، وأخذ ابنته وولدها عجيبًا.
وسافر أول يوم وثاني يوم وثالث يوم حتى وصل إلى مدينة دمشق، فوجدها ذات أشجار وأنهار، كما قال فيها الشاعر:
مِنْ بَعْدِ يَوْمِي فِي دِمَشْقَ وَلَيْلَتِي *** حَلَفَ الزَّمَانُ بِمِثْلِهَا لَا يُغْلَطُ
بِتْنَا وَجَنحُ اللَّيْلِ فِي غَفَلَاتِهِ *** وَمِنَ الصَّبَاحِ عَلَيْهِ فَرْعٌ أَشْمَطُ
وَالطَّلُّ فِي تِلْكَ الْغُصُونِ كَأَنَّهُ *** دُرٌّ يُصَافِحُهُ النَّسِيمُ فَيَسْقُطُ
وَالطَّيْرُ يَقْرَأُ وَالْغَدِيرَ صَحِيفَةً *** وَالرِّيحُ تَكْتُبُ وَالْغَمَامُ يُنَقِّطُ
فنزل الوزير من ميدان الحَصْبَا، ونصب خيامه، وقال لغلمانه: نأخذ الراحة هنا يومين.
فدخل الغلمان المدينة لقضاء حوائجهم: هذا يبيع وهذا يشتري، وهذا يدخل الحمام، وهذا يدخل جامع بني أمية الذي ما في الدنيا مثله.
ودخل المدينة عجيب هو وخادمه يتفرجان، والخادم يمشي خلف عجيب، وفي يده سوط لو ضُرب به جمل لسقط ولم يثر.
فلما نظر أهل دمشق إلى عجيب وقدّه واعتداله، وبهائه وكماله، بديع الجمال، رحيم الدلال، ألطف من نسيم الشمال، وأحلى للظمآن من الماء الزلال، وألذّ من العافية لصاحب الاعتلال؛ تبعوه وصارت الخلق تجري وراءه وتتبعُه، وتقعد في الطريق حتى يجيء عليهم وينظرونه.
إلى أن وقف العبد بالأمر المقدّر على دكّان أبيه حسن بدر الدين، الذي أجلسه فيه الطباخ الذي اعترف عند القضاة والشهود أنه ولده.
فلما وقف عليه العبد في ذلك اليوم وقف معه الخدام، فنظر حسن بدر الدين إلى ولده فأعجبه حين وجده في غاية الحسن، فحنّ إليه فؤاده وتعلق به قلبه، وكان قد طبخ حبّ رمان محلّى، واشتدت به المحبة الإلهية فنادى من الوجد وقال:
يا سيدي، يا من ملك قلبي وفؤادي وحَنَّ إليه كبدي، هل لك أن تدخل عندي وتجبر قلبي وتأكل من طعامي؟
ثم فاضت عيناه بالدموع من غير اختياره، وتذكر ما كان فيه فيما مضى وما هو فيه تلك الساعة.
فلما سمع عجيب كلام أبيه حنّ إليه قلبه، والتفت إلى الخادم وقال له: إن هذا الطباخ حنّ قلبي إليه وكأنه قد فارق ولدًا له، فادخل بنا عنده لنجبر قلبه ونأكل ضيافته؛ لعل الله يجمع شملنا بأبينا بجبرنا خاطره.
فلما سمع الخادم كلام سيده عجيب قال: والله يا سيدي لا ينبغي، كيف نكون أولاد الوزير ونأكل في دكّان الطباخ؟ ولكن أنا أحجب الناس عنك بهذه العصا خوفًا من أن ينظروا إليك، وإلا فما يمكنك أن تدخل الدكّان أبدًا.
فلما سمع حسن بدر الدين كلام الخادم تعجب، والتفت إلى الخادم وقد سالت دموعه على خدوده، وقال له: إن قلبي حبّه.
فقال له الخادم: دعنا من هذا الكلام ولا تدخل.
فعند ذلك التفت أبو عجيب إلى الخادم وقال له:
يا كبير، لأي شيء لا تجبر خاطري وتدخل عندي، يا من كأنّه قسطل أسود وقلبه أبيض، يا من قال فيه بعض واصفيه كذا من المدح.
فضحك الخادم وقال: أي شيء تقول؟ فبالله قل وأوجز.
فأنشد أبو عجيب في الحال هذين البيتين:
لَولا تأدُّبُهُ وحُسنُ ثِقاتِه *** ما كان في دارِ الملوكِ مُحكَّما
وعلى الحريمِ فيا له من خادمٍ *** من حُسنِه خدمتْهُ أملاكُ السَّما
فتعجّب الخادم من هذا الكلام، وأخذ عجيبًا ودخل دكّان الطبّاخ، فغرف حسن بدر الدين زبديّةً من حبّ الرمّان، وكانت ممزوجة باللوز والسكر، فأكلوا جميعًا.
فقال لهم حسن بدر الدين: آنستونا، كلوا هنيئًا مريئًا.
ثم إن عجيبًا قال لوالده: اجلسْ معنا، لعلّ الله يجمعنا بمن نريد.
فقال حسن بدر الدين: يا ولدي، هل بُليتَ على صغر سنّك بفرقة الأحباب؟
فقال عجيب: نعم يا عم، أُحرق قلبي بفراق الأحباب، والحبيب الذي فارقني هو والدي، وقد خرجتُ أنا وجدي نطوف عليه البلاد، فواحسرتاه على جمع شملي به.
وبكى بكاءً شديدًا، وبكى والده لبكائه، وتذكّر فرقة الأحباب، وبُعده عن والده ووالدته، فحنّ له الخادم، وأكلوا جميعًا إلى أن اكتفوا.
ثم بعد ذلك قاما وخرجا من دكّان حسن بدر الدين، فأحسّ أن روحه فارقت جسده وراحت معهم، فما قدر أن يصبر عنهم لحظة واحدة، فأغلق الدكّان وتبعهم وهو لا يعلم أنّه ولده.
وأسرع في مشيه حتى لحقهم قبل أن يخرجوا من الباب الكبير، فالتفت الطواش وقال له: ما لك يا طبّاخ؟
فقال حسن بدر الدين: لما نزلتم من عندي كأن روحي خرجت من جسمي، ولي حاجة في المدينة خارج الباب، فأردتُ أن أرافقكم حتى أقضي حاجتي وأرجع.
فغضب الطواش وقال لعجيب: إنّ هذه أكلة مشؤومة، وصارت علينا مكرمة، وها هو قد تابعنا من موضع إلى موضع.
فالتفت عجيب فرآه، فاغتاظ واحمرّ وجهه، ثم قال للخادم: دعه يمشي في طريق المسلمين، فإذا خرجنا إلى خيامنا وخرج معنا وعرفنا أنه يتبعنا طردناه.
فأطرق رأسه ومشى، والخادم وراءه، فتبعهم حسن بدر الدين إلى ميدان الحصبا، وقد قربوا من الخيام، فالتفتوا فرأوه خلفهم.
فغضب عجيب، وخاف من الطواش أن يخبر جدّه، فامتزج بالغضب مخافة أن يقولوا إنه دخل دكّان الطبّاخ وأن الطبّاخ تبعه.
فالتفت حتى صارت عيناه في عيني أبيه وقد بقي جسدًا بلا روح، ورأى عجيب عينه كأنها عين خائن، وربما كان ولد زنا، فازداد غضبًا، فأخذ حجرًا ورمى به والده، فوقَع الحجر على جبينه فبطحه، فوقع حسن بدر الدين مغشيًّا عليه، وسال الدم على وجهه.
وسار عجيب والخادم إلى الخيام.
أما حسن بدر الدين فإنه لما أفاق مسح دمه، وقطع قطعة من عمامته وعصب بها رأسه، ولام نفسه وقال: أنا ظلمتُ الصبي حيث أغلقت دكاني وتبعته حتى ظن أني خائن.
ثم رجع إلى الدكّان، واشتغل ببيع طعامه، وصار مشتاقًا إلى والدته التي في البصرة ويبكي عليها، وأنشد هذين البيتين:
لا تسألِ الدَّهرَ إنصافًا فتظلمهُ *** ولا تلمْهُ فلم يُخلَق لإنصافِ
خُذْ ما تيسَّر وازوِ الهَمَّ ناحيةً *** لا بُدَّ من كَدَرٍ فيه وإنصافِ
ثم إن بدر الدين استمر مشتغلاً يبيع في طعامه، وأما الوزير عمّه فإنه أقام في دمشق ثلاثة أيام، ثم رحل متوجّهًا إلى حمص، فدخلها ثم رحل عنها، وصار يفتّش في طريقه أينما حلّ وجهه في سيره إلى أن وصل إلى ماردين والموصل وديار بكر، ولم يزل سائرًا إلى مدينة البصرة، فدخلها.
فلما استقرّ به المنزل دخل إلى سلطانها، واجتمع به فاحترمه وأكرم منزله، وسأله عن سبب مجيئه، فأخبره بقصته، وأن أخاه الوزير علي نور الدين.
فترحّم عليه السلطان وقال له: أيها الصاحب، إنه كان وزيري، وكنت أحبه كثيرًا، وقد مات منذ خمسة عشر عامًا، وخلف ولدًا وقد فقدناه، ولم نطلع له على خبر، غير أن أمه عندنا؛ لأنها بنت وزيري الكبير.
فلما سمع الوزير شمس الدين من الملك أن أم ابن أخيه طيبة، فرح وقال: يا ملك، إني أريد أن أجتمع بها.
فأذن له في الحال أن ينزل عندها في دار أخيه.
فنزل شمس الدين ودخل عليها في دار أخيه، وجال بطرفه في نواحيها، وقبّل أعتابها، وتذكّر أخاه نور الدين علي وكيف مات غريبًا وهو مشتاق إليه، فبكى وأنشد هذه الأبيات:
أَمُرُّ على الدِّيارِ دِيارِ ليلى *** أُقَبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
فما حبُّ الديارِ شَغَفنَ قلبي *** ولكن حبُّ من سكن الديارا
ثم دخل من الباب إلى فسحة عظيمة، فوجد بابًا مقوّرًا بالحجر الصوان، مزخرفًا بأنواع من سائر الألوان، فمشى في نواحي الديار ونظرها وجال بطرفه فيها، فوجد اسم أخيه نور الدين مكتوبًا بالذهب على جدرانها، فأتى إلى الاسم وقبّله وبكى وأحرَقَه فراقه، فأنشد هذه الأبيات:
أستخبر الشمس عنكم كلما طلعتْ
وأسأل البرق عنكم كلما لمعَا
أبيتُ والشوق يطويني وينشرني
في راحتَيْه، ولا أشكو له وجعَا
أحبابَنا إن يَكُنْ طالَ المدى فلكمْ
قد قُطّع القلبُ مني بعدَكم قِطعَا
فلو مننتُم على طرْفي برؤيتِكمْ
لكان أحسنَ شيءٍ بينَنا وقعَا
لا تَحسبوا أنني بالغير مشتغلٌ
إن الفؤادَ لحُبّ الغير ما وسِعَا
ثم إنه صار يمشي إلى أن وصل إلى قاعة زوجة أخيه أم حسن بدر الدين البصري، وكانت في مدة غيبة ولدها قد لَزِمت البكاء والنحيب بالليل والنهار، فلما طالت عليها المدة عملت لولدها قبرًا من الرخام في وسط القاعة، وصارت تبكي عليه ليلًا ونهارًا، ولا تنام إلا عند ذلك القبر. فلما وصل إلى مسكنها سمع حسَّها، فوقف خلف الباب فسمعها تُنشِد على القبر هذين البيتين:
بالله يا قبرُ هل زالت محاسنهُ
وهل تغيّر ذاك المنظر النَّضرُ
يا قبرُ لا أنتَ بُستانٌ ولا فلكٌ
فكيف يُجمع فيك الغُصنُ والقمرُ؟
فبينما هي كذلك وإذا بالوزير شمس الدين قد دخل عليها، وسلّم عليها، وأعلمها أنه أخو زوجها، ثم أخبرها بما جرى، وكشف لها عن القصة، وأن ابنها حسن بدر الدين بات عند ابنته ليلةً كاملة، ثم فُقد عند الصباح، وقال لها: إن ابنتي حملت من ولدك وولدت ولدًا، وهو معي، وإنه ولدُكِ وولدُ ولدِكِ من ابنتي. فلما سمعت خبر ولدها وأنه حيّ، ورأت أخا زوجها، قامت إليه ووقعت على قدميه وقبّلتهما، وأنشدت هذين البيتين:
للهِ دَرُّ مُبَشِّري بقدومِهِمُ
فلقد أتى بأطايبِ المسموعِ
لو كان يقنعُ بالخليعِ وهبتُهُ
قلبًا تقطّع ساعةَ التوديعِ
ثم إن الوزير أرسل إلى عجيب ليحضره، فلما حضر قامت له جدته واعتنقته وبكت، فقال لها شمس الدين: ما هذا وقت بكاء، بل هذا وقت تجهيزك للسفر معنا إلى ديار مصر، عسى الله أن يجمع شملنا وشملك بولدك ابن أخي. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم قامت من وقتها، وجمعت جميع أمتعتها وذخائرها وجواريها، وتجهّزت في الحال. ثم طلع الوزير شمس الدين إلى سلطان البصرة وودّعه، فبعث معه هدايا وتحفًا إلى سلطان مصر، وسافر من وقته هو وزوجة أخيه، ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى مدينة دمشق، فنزل على القانون وضرب الخيام، وقال لمن معه: إننا نقيم بدمشق جمعةً إلى أن نشتري للسلطان هدايا وتحفًا. ثم قال عجيب للطواش: يا غلام، إني اشتقتُ إلى الفرجة، فقُم بنا ننزل إلى سوق دمشق، ونعتبر أحوالها، وننظر ما جرى لذلك الطباخ الذي قد كنا أكلنا طعامه وشججنا رأسه، مع أنه قد كان أحسن إلينا ونحن أسأنا إليه. فقال الطواش: سمعًا وطاعة.
ثم إن عجيبًا خرج من الخيام هو والطواش، وحَرّكته القرابة إلى التوجّه لوالده، ودخلا مدينة دمشق، وما زالا سائرَين إلى أن وصلا إلى دكان الطباخ، فوجداه واقفًا في الدكان، وكان ذلك قبل العصر، وقد وافق الأمر أنه طبخ حبَّ رمان، فلما قربا منه ونظره عجيب، حنّ إليه قلبه، ونظر إلى أثر الضربة بالحجر في جبينه، فقال: السلام عليك يا هذا، اعلم أن خاطري عندك. فلما نظر إليه بدر الدين تعلّقت أحشاؤه به، وخفق فؤاده إليه، وأطرق برأسه إلى الأرض، وأراد أن يدير لسانه في فمه فما قدر على ذلك، ثم رفع رأسه إلى ولده خاضعًا متذلّلًا، وأنشد هذه الأبيات:
تمنَّيتُ مَن أهوى فلمّا رأيتُهُ
ذهِلتُ فلم أملكْ لسانًا ولا طرْفَا
وأطرقتُ إجلالًا له ومهابةً
وحاولتُ إخفاء الذي بي فلم يَخفَا
وكنتُ مُعدًّا للعتابِ صحائفًا
فلمّا اجتمعنا ما وجدتُ ولا حرْفَا
ثم قال لهما: اجْبرا قلبي، وكُلا من طعامي، فوالله ما نظرتُ إليك أيها الغلام إلا حنّ قلبي إليك، وما كنتُ اتّبعتك إلا وأنا بغير عقل. فقال عجيب: والله إنك محبّ لنا، ونحن أكلنا عندك لقمة، فلازمتنا عقبها وأردتَ أن تهتكنا، ونحن لا نأكل لك أكلًا إلا بشرط أن تحلف أنك لا تخرج وراءنا ولا تتبعنا، وإلا لا نعود إليك من وقتنا هذا، فنحن مقيمون في هذه المدينة جمعةً حتى يأخذ جدي هدايا للملك. فقال بدر الدين لكم عليَّ ذلك. فدخل عجيب هو والخادم في الدكان، فقدم لهما زبديةً ممتلئةً حبَّ رمان، فقال عجيب: كُلْ معنا لعل الله يفرج عنّا. ففرح حسن بدر الدين، وأكل معهم وهو لم يَغُضَّ طرفه عن النظر في وجهه، وقد تعلَّق به قلبه وصارت كل جوارحه معه. فقال له عجيب: ألم تعلم أني قلت لك إنك عاشق ثقيل؟ فحسبك، لا تُطِلِ النظر إلى وجهي.
فلما سمع بدر الدين كلامه أنشد هذه الأبيات:
لكَ في القلوبِ سريرةٌ لا تُظهرُ *** مطويّةٌ وحديثُها لا يُنشَرُ
يا فاضحَ القمرِ المنيرِ بحُسنِه *** وبوجهِه افتُضِحَ الصباحُ المُسفِرُ
لي في سناكَ أمارةٌ لا تنقضي *** ومعاهدٌ أبدًا تزيد وتكثرُ
فأذوبُ من حُرُقي ووجهُكَ جنّتي *** وأموتُ من ظمئي وريقُكَ كوثرُ
فصار بدر الدين يُلقِّم عجيبًا ساعةً ويُلقِّم الخادم ساعةً، وصبَّ على أيديهما الماء حتى غسلا، وحلَّ فوطة حرير من وسطه فمسح أيديهما بها، ورشّ عليهما ماء الورد من قِمقم كان عنده. ثم خرج من الدكان، ثم عاد بقلتين من شربات ممزوجة بماء الورد الممسَّك، وقدّمها بين أيديهما وقال: تَمِّما إحسانكما. فأخذ عجيب وشرب وناول الخادم، ولم يزالا يشربان حتى امتلأت بطونهما، وشبعا شبعًا على خلاف عادتهما، ثم انصرفا وأسرعا في مشيهما حتى وصلا إلى خيامهما.
ودخل عجيب على جدته أم والده حسن بدر الدين فقبّلته، وتذكّرت ولدها بدر الدين، فتنهدت وبكت، ثم إنها أنشدت هذين البيتين:
لو لم أُرَجِّ بأن الشمل يجتمعُ *** ما كان لي في حياتي بعدكم طمعُ
أقسمتُ ما في فؤادي غيرُ حبِّكمُ *** واللهُ ربّي على الأسرار مطّلعُ
ثم قالت لعجيب: يا ولدي، أين كنت؟ قال: في مدينة دمشق. فعند ذلك قامت وقدّمت له زبدية طعام من حب الرمان، وكان قليل الحلاوة، وقالت للخادم: اقعد مع سيدك.
فقال الخادم في نفسه: والله ما لنا شهية في الأكل. ثم جلس الخادم، وأما عجيب فإنه لما جلس كان بطنه ممتلئًا بما أكل وشرب، فأخذ لقمةً وغمسها في حب الرمان وأكلها، فوجده قليل الحلاوة؛ لأنه كان شبعانًا، فتضجر وقال: أي شيء هذا الطعام الوحش!
فقالت جدته: يا ولدي، أتعِيب طبيخي وأنا طبخته، ولا أحد يُحسن الطبيخ مثلي إلا والدك حسن بدر الدين؟! فقال عجيب: والله يا سيدتي، إن طبيخك هذا غير متقن، نحن في هذه الساعة رأينا في المدينة طبّاخًا طبخ حب رمان، ولكن رائحته يُفتح لها القلب، وأما طعامه فإنه يُشهّي نفسَ المتخوِّم أن يأكل، وأما طعامك بالنسبة إليه فإنه لا يساوي كثيرًا ولا قليلًا.
فلما سمعت جدته كلامه اغتاظت غيظًا شديدًا، ونظرت إلى الخادم.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.