حكايات السحر والعجب من ألف ليلة وليلة.. الليلة ١٣

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك الثاني قال للصبية: يا سيدتي، لما رفستِ القبة رفْسًا قويًا، قالت لي المرأة: إن العفريت قد وصل إلينا، أما حذرتك من هذا؟ والله لقد آذيتني، ولكن انجُ بنفسك، واطلع من المكان الذي جئتَ منه. فمن شدة خوفي نسيت نعلي وفأسي، فلما طلعتُ درجتين التفت لأنظرهما، فرأيت الأرض قد انشقت، وطلع منها عفريت ذو منظر بشع، وقال: ما هذه الزعجة التي أرعبتِني بها؟ فما مصيبتك؟ فقالت: ما أصابني شيء غير أن صدري ضاق، فأردت أن أشرب شرابًا يشرح صدري، فنهضتُ لأقضي أشغالي، فوقعتُ على القبة. فقال لها العفريت: تكذبين يا فاجرة. ونظر في القصر يمينًا وشمالًا، فرأى النعل والفأس، فقال لها: ما هذا إلا متاع الإنس، مَن جاء إليك؟ فقالت: ما نظرتُهما إلا في هذه الساعة، ولعلّهما تعلّقا معك. فقال العفريت: هذا كلام محال لا ينطلي عليَّ يا عاهرة.
ثم إنه عرّاها وصلبها بين أربعة أوتاد، وجعل يعاقبها ويقرّرها بما كان؛ فلم يهن عليَّ أن أسمع بكاءها، فطلعتُ من السلم مذعورًا من الخوف، فلما وصلت إلى أعلى الموضع رددتُ الطابق كما كان، وسترته بالتراب، وندمت على ما فعلت غاية الندم، وتذكرت الصبية وحسنها، وكيف يعاقبها هذا الملعون، وهي له معه خمس وعشرون سنة، وما عاقبها إلا بسببي. وتذكرت أبي ومملكته وكيف صرتُ حطّابًا، فقلت هذا البيت:
إذا ما أتاكَ الدهرُ يومًا بنكبةٍ
فيومٌ ترى يُسرًا ويومٌ ترى عُسرَا
ثم مشيتُ إلى أن أتيتُ رفيقي الخياط، فلقيتُه من أجلي على مقالي النار وهو لي في الانتظار، فقال: إني بتُّ البارحةَ وقلبي عندك، وخفتُ عليك من وحش أو غيره، فالحمد لله على سلامتك. فشكرته على شفقته عليَّ، ودخلتُ خلوتي، وجعلتُ أتفكر فيما جرى لي، وألوم نفسي على رفسي هذه القبة. وإذا بصديقي الخياط دخل عليَّ، وقال لي: في الدكان شخص أعجمي يطلبك، ومعه فأسك ونعلك، قد جاء بهما إلى الخياطين، وقال لهم: إني خرجت وقت أذان المؤذن لأجل صلاة الفجر، فعثرتُ بهما، ولم أعلم لمَن هما، فدلوني على صاحبهما. فدلّه الخياطون عليك، وها هو قاعد في دكاني، فاخرج إليه واشكره، وخذ فأسك ونعلك.
فلما سمعتُ هذا الكلام اصفرّ لوني، وتغيّر حالي، فبينما أنا كذلك وإذا بأرض المحلة قد انشقت، وطلع منها الأعجمي، وإذا هو العفريت، وقد كان عاقب الصبية غاية العقاب، فلم تُقِرّ له بشيء. فأخذ الفأس والنعل، وقال لها: إن كنتِ جرجريس من ذرية إبليس فأنا أجيء بصاحب هذه الفأس والنعل. ثم جاء بهذه الحيلة إلى الخياطين، ودخل عليَّ ولم يمهلني، بل اختطفني وطار بي، وعلا بي، ونزل بي، وغاص في الأرض وأنا لا أعلم بنفسي، ثم طلع بي القصر الذي كنتُ فيه، فرأيت الصبية عريانة، والدم يسيل من جوانبها، فقطرت عيناي بالدموع. فأخذها العفريت وقال لها: يا عاهرة، هذا عشيقك. فنظرت إليَّ وقالت له: لا أعرفه ولا رأيته إلا في هذه الساعة.
فقال لها العفريت: أهذه العقوبة ولم تُقِرّي؟! فقالت: ما رأيته عمري، وما يحل من الله أن أكذب عليه. فقال لها العفريت: إن كنتِ لا تعرفينه، فخذي هذا السيف واذهبي عنقه. فأخذت السيف وجاءتني ووقفت على رأسي، فأشرتُ لها بحاجبي، ودمعي يجري على وجنتي، فنهضت وغمزتني، وقالت: أنت الذي فعلت بنا هذا كله. فأشرت لها أن هذا وقت العفو ولسان حالي يقول:
يترجمُ طرفي عن لساني لتعلموا
ويبدو لكم ما كان صدري يُكتمُ
ولما التقينا والدموعُ سواجمٌ
خرستُ وطرفي بالهوى يتكلمُ
تشير لنا عمّا تقول بطرفها
وأومي إليها بالبنان فتفهمُ
حواجبُنا تقضي الحوائج بيننا
فنحن سكوتٌ والهوى يتكلمُ
فلما فهمت الصبية إشارتي رمت السيف من يدها، يا سيدتي، فناوَلني العفريت السيف وقال لي: اذهب عنقها وأنا أطلقك ولا أنكد عليك. فقلت: نعم. وأخذت السيف، وتقدمت بنشاط، ورفعت يدي، فقالت لي بحاجبها: أنا ما قصّرتُ في حقك. فهملت عيناي بالدموع، ورميت السيف من يدي، وقلت: أيها العفريت الشديد والبطل الصنديد، إذا كانت امرأة ناقصة عقل ودين لم تستحل ذبح عنقي، فكيف يحل لي أن أذبح عنقها، ولم أرها عمري؟ فلا أفعل ذلك أبدًا، ولو سُقيت من الموت كأس الردى. فقال العفريت: أنتما بينكما مدة، أخذ السيف وضرب يد الصبية فقطعها، ثم ضرب الثانية فقطعها، ثم قطع رجلها اليمين، ثم قطع رجلها اليسار، حتى قطع أربعها بأربع ضربات، وأنا أنظر بعيني، فأيقنت بالموت. ثم أشارت إليَّ بعينيها فرآها العفريت، فقال لها: “قد زنيتِ بعينك”. ثم ضربها فقطع رأسها، والتفت إليَّ وقال: “يا إنسي، نحن في شرعنا إذا زنت الزوجة يحل لنا قتلها، وهذه الصبية اختطفتها ليلة عرسها وهي بنت اثنتي عشرة سنة، ولم تعرف أحدًا غيري، وكنت أجيئها في كل عشرة أيام ليلةً واحدة في زي رجل أعجمي، فلما تحققت أنها خانتني قتلتها.
وأما أنت، فلم أتحقق أنك خنتني فيها، ولكن لا بد أني ما أخليك في عافية، فتمَنَّ عليَّ أي ضرر”.
ففرحتُ يا سيدتي غاية الفرح، وطَمِعتُ في العفو، وقلت له: “وما أتمنّاه عليك؟”.
قال: “تمنَّ عليَّ أي صورة أسحرك فيها: إما صورة كلب، أو صورة حمار، أو صورة قرد”.
فقلت له، وقد طمعت أنه يعفو عني: “والله إن عفوت عني يعفُ الله عنك بعفوك عن رجل مسلم لم يؤذك”. وتضرّعتُ إليه غاية التضرع، وبقيت بين يديه وقلت له: “أنا مظلوم”.
فقال لي: “لا تطِل عليَّ الكلام، أما القتل فلا تخف منه، وأما العفو عنك فلا تطمع فيه، وأما سحرك فلا بد منه”. ثم شق الأرض، وطار بي إلى الجو حتى نظرت إلى الدنيا تحتي كأنها قطعة ماء، ثم حطّني على جبل، وأخذ قليلًا من التراب، وهمهم عليه وتكلم ورشّني، وقال: “اخرج من هذه الصورة إلى صورة قرد”. فمن ذلك الوقت صرت قردًا ابن مائة سنة.
فلما رأيت نفسي في هذه الصورة القبيحة بكيت على روحي، وصبرت على جور الزمان، وعلمت أن الزمان ليس لأحد. وقد انحدرت من أعلى الجبل إلى أسفل، وسافرت مدة شهر، ثم ذهبت إلى شاطئ البحر المالح، فوقفت ساعة، وإذا أنا بمركب في وسط البحر قد طاب ريحها وهي قاصدة البر، فاختفيت خلف صخرة على جانب البحر، وسرت حتى أتيت وسط المركب.
فقال واحد منهم: “أخرجوا هذا المشؤوم من المركب”. وقال آخر: “نقتله”. وقال آخر: “اقتلوه بهذا السيف”. فأمسكت طرف السيف وبكيت وسالت دموعي، فحنَّ عليَّ الريس وقال لهم: “يا تجار، إن هذا القرد استجار بي وقد أجرته، وهو في جواري، فلا أحد يتعرض له ولا يشوش عليه”.
ثم إن الريس صار يُحسن إليَّ، ومهما تكلمت به أفهمه وأقضي حوائجه كلها، وأخدمه في المركب. وقد طاب لها الريح مدة خمسين يومًا، فرسينا على مدينة عظيمة، وفيها عالم كثير لا يحصي عددهم إلا الله تعالى.
فساعة وصولنا أوقفنا مركبنا، فجاءتنا مماليك من طرف ملك المدينة، فنزلوا المركب وهنّأوا التجار بالسلامة، وقالوا: “إن ملكنا يهنّئكم بالسلامة، وقد أرسل إليكم هذا الدرج الورق، وقال: كل واحد يكتب فيه سطرًا”.
فقمت وأنا في صورة القرد، وخطفت الدرج من أيديهم، فخافوا أني أقطعه وأرميه في الماء، فنهروني وأرادوا قتلي، فأشرت لهم أني أكتب. فقال لهم الريس: “دعوه يكتب، فإن لخبَط الكتابة طردناه عنا، وإن أحسنها اتخذته ولدًا، فإني ما رأيت قردًا أفهم منه”.
ثم أخذت القلم، واستمددت الحبر، وكتبت سطرًا بقلم الرقاع، ورقّمت هذا الشعر:
لقد كتب الدهر فضل الكرامِ
وفضلكَ للآن لا يُحسبُ
فلا أيتمَ اللهُ منك الورى
لأنك للفضل نعم الأبُ
وكتبت بالقلم الريحاني هذا الشعر:
له قلمٌ عمَّ الأقاليمَ نفعُهُ
وعمَّ جميعَ العالمينَ منافعُ
وخمسةُ أنهارٍ أنا مالكُ التي
تسيل على الأقطار خمسٌ أصابعُ
وكتبت بقلم الثلث هذين البيتين:
وما من كاتبٍ إلا سيفنى
ويبقي الدهرُ ما كتبتْ يداهُ
فلا تكتبْ بخطك غير شيءٍ
يسرك في القيامة أن تراهُ
وكتبت تحته بقلم المشق هذين البيتين:
إذا فتحتَ دَواةَ العزِّ والنِّعمِ
فاجعل مدادَكَ من جودٍ ومن كرمِ
واكتبْ بحبرٍ إذا ما كنت معتذرًا
بذاكَ شرَّفتَ فضلًا نسبة القلمِ
ثم ناولتهم ذلك الدرج الورق، فطلعوا به إلى الملك، فلما تأمّل الملك ما في ذلك الدرج لم يعجبه خط أحد إلا خطي، فقال لأصحابه: “توجَّهوا إلى صاحب هذا الخط، وألبسوه هذه الحُلّة، وأركبوه بغلة، وهاتوه بالنوّبة، وأحضروه بين يديَّ”.
فلما سمعوا كلام الملك تبسموا، فغضب منهم، ثم قال: “كيف آمركم بأمرٍ فتضحكون عليَّ؟!”
فقالوا: “أيها الملك، ما نضحك على كلامك، بل الذي كتب هذا الخط قرد، وليس هو آدميًا، وهو مع ريس المركب”.
فتعجب الملك من كلامهم، واهتز من الطرب، وقال: “أريد أن أشتري هذا القرد”. ثم بعث رسلًا إلى المركب، ومعهم البغلة والحُلّة، وقال: “لا بد أن تُلبسوه هذه الحُلّة، وتُركبوه البغلةَ، وتأتوا به”. فساروا إلى المركب، وأخذوني من الريس، وألبسوني الحُلّة؛ فاندهش الخلائق، وصاروا يتفرجون عليّ. فلما طلعوا بي إلى الملك ورأيته، قبّلتُ الأرض بين يديه ثلاث مرات، فأمرني بالجلوس فجلست على ركبتيّ، فتعجب الحاضرون من أدبي، وكان الملك أكثرهم تعجبًا.
ثم إن الملك أمر الخلق بالانصراف فانصرفوا، ولم يبقَ إلا الملك والخواص ومملوك صغير وأنا. ثم أمر الملك بطعام، فقدّموا سفرة طعامٍ فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، فأشار إليّ الملك أن آكل، فقمتُ وقبّلتُ الأرض بين يديه سبع مرات، وجلست آكل معه.
وقد ارتفعت السفرة، وذهبتُ فغسلت يديّ، وأخذت الدواة والقلم والقرطاس، وكتبت هذين البيتين:
مَنَاحِرُ الضَّانِ تِرْيَاقٌ مِنَ الْعِلَلِ *** وَأَصْحُنُ الْحَلْوَى فِيهَا مُنْتَهَى أَمَلِي
يَالَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَدِّ السِّمَاطِ إِذَا *** مَاجَتْ كُنَافَتُهُ بِالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ
وكتبت أيضًا هذين البيتين:
إِلَيْكِ اشْتِيَاقٌ يَا كُنَافَةَ زَائِدٍ *** وَلَيْسَ غِنًى لِي عَنْكِ كَلَا وَلَا صَبْرُ
فَلَا زِلْتِ أَكْلِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ *** وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ
ثم قمت وجلست بعيدًا، فنظر الملك إلى ما كتبته وقرأه، فتعجب، وقال: “هل يكون عند قرد هذه الفصاحة وهذا الخط؟ والله إن هذا من أعجب العجب!”
ثم قدّم للملك شطرنج، فقال الملك: “أتلعَب؟” فقلت برأسي: نعم. فتقدمتُ وصففتُ الشطرنج، ولعبت معه مرتين فغلبته، فحار عقل الملك، وقال: “لو كان هذا آدميًا لفاق أهل زمانه”.
ثم قال لخادمه: “اذهب إلى سيدتك، وقل لها: كلّمي الملك حتى تجيء فتتفرج على هذا القرد العجيب”. فذهب الطواش، وعاد ومعه سيدته بنت الملك، فلما نظرت إليّ غطّت وجهها، وقالت: “يا أبي، كيف طاب على خاطرك أن ترسل إليّ فِيران الرجال الأجانب؟”
فقال: “يا بنتي، ما عندي سوى المملوك الصغير والطواش الذي ربّاك، وهذا القرد، وأنا أبوك، فممن تغطّين وجهك؟” فقالت: “إن هذا القرد ابن ملك، واسم أبيه إيمار صاحب جزائر الأبنوس الداخلة، وهو مسحور، سحره العفريت جرجرِيس الذي هو من ذرية إبليس، وقد قتل زوجته بنت ملك أقناموس، وهذا الذي تزعم أنه قرد إنما هو رجل عالم عاقل”.
فتعجب الملك من ابنته، ونظر إليّ وقال: “أحقّ ما تقول عنك؟” فقلت برأسي: نعم. وبكيتُ. فقال الملك لابنته: “من أين عرفتِ أنه مسحور؟” فقالت: “يا أبتِ، كان عندي وأنا صغيرة عجوز ماكرة ساحرة، علّمتني صناعة السحر، وقد حفظته وأتقنته، وعرفت مائة وسبعين بابًا من أبوابه، أقلّ بابٍ منها أنقل به حجارة مدينتك خلف جبل قاف، وأجعلها لُجّة بحر، وأجعل أهلها سمكًا في وسطه”.
فقال أبوها: “بحق اسم الله عليك أن تُخلِّصي لنا هذا الشاب حتى أجعله وزيري، وهل فيكِ هذه الفضيلة ولم أعلم؟ خلّصيه حتى أجعله وزيري؛ لأنه شاب ظريف لبيب”. فقالت له: “حبًّا وكرامة”.
ثم أخذت بيدها سكينًا، وعملت دائرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.