قصص

حكايات الصبر والابتلاء في ليالي شهرزاد.. الليلة ١٧

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية ما زالت تُحَسِّن للشاب التوجَّه معها حتى غلب عليها النوم، فنامت تلك الليلة تحت رجليه، وهي لا تُصدِّق بما هي فيه من الفرح. ثم قالت: فلمّا أصبح الصباح قمنا ودخلنا إلى الخزائن، وأخذنا ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، ونزلنا من القلعة إلى المدينة، فقابلنا العبيد والرئيس وهم يفتشون عليَّ، فلمّا رأوني فرحوا بي، وسألوني عن سبب غيابي، فأخبرتهم بما رأيت، وحكيت لهم قصة الشاب، وسبب مسخ أهل هذه المدينة، وما جرى لهم؛ فتعجبوا من ذلك.

فلمّا رأتني أختاي ومعي ذلك الشاب حسدتاني عليه، وصارتا في غيظ، وأضمرتا المكر لي. ثم نزلنا المركب وأنا بغاية الفرح، وأكثر فرحي بصحبة هذا الشاب، وأقمنا ننتظر الريح حتى طاب لنا الريح، فنشرنا القلوع وسافرنا. فقعدت أختاي عندنا وصارتا تتحدثان، فقالتا لي: يا أختنا، ما تصنعين بهذا الشاب الحسن؟ فقلتُ لهما: قصدي أن أتخذه بعلاً. ثم التفتُّ إليه وأقبلتُ عليه، وقلت: يا سيدي، قصدي أن أقول لك شيئاً فلا تُخالفني فيه. فقال: سمعاً وطاعة. ثم التفتُّ إلى أختيّ وقلت لهما: يكفيني هذا الشاب، وجميع هذه الأموال لكما. فقالتا: نِعْمَ ما فعلتِ. ولكنّهما أضمرتا لي الشرّ.

ولم نزل سائرين مع اعتدال الريح حتى خرجنا من بحر الخوف، ودخلنا بحر الأمان، وسافرنا أياماً قلائل إلى أن قربنا من مدينة البصرة، ولاحت لنا أبنيتها فأدركنا المساء. فلمّا أخذنا النوم قامت أختاي وحملتاني أنا والغلام بفرشنا ورمتانا في البحر. فأما الشاب فإنه كان لا يُحسن العوم فغرق، وكتبه الله من الشهداء، وأما أنا فكنتُ من السالمين.

فلما سقطت في البحر رزقني الله بقطعة خشب فركبتها، وجرت بي الأمواج حتى رمتني على ساحل جزيرة. فلم أزل أمشي في الجزيرة باقي ليلتي، فلما أصبح الصباح رأيت طريقاً فيه أثر مشي على قدر قدم ابن آدم، وكانت الطريق متصلة من الجزيرة إلى البر. وقد طلعت الشمس، فنشَّفت ثيابي فيها وسرت في الطريق، فلم أزل سائرة حتى قربت من البر الذي فيه المدينة، وإذا أنا بحيّة تقصدني وخلفها ثعبان يريد هلاكها، وقد تدلّى لسانها من شدة التعب. فأخذتني الشفقة عليها، فعمدت إلى حجر وألقيته على رأس الثعبان فمات في وقته.

فنشرت الحية جناحين وطارت في الجو، فتعجبت من ذلك. وقد تعبت فنمت في موضعي ساعة، فلمّا أفقت وجدت تحت رجلي جارية وهي تكبس رجلي، فجلست واستحييت منها، وقلت لها: من أنتِ وما شأنك؟ فقالت: ما أسرع ما نسيتِني! أنتِ التي فعلتِ معي الجميل وقتلتِ عدوي، فأنا الحية التي خلصتِني من الثعبان. فإني جنيّة، وهذا الثعبان جني، وهو عدوي، وما نجّاني منه إلا أنتِ. فلمّا نجيتِني منه طرت في الريح، وذهبت إلى المركب التي رماكِ منها أختاكِ، ونقلت جميع ما فيها إلى بيتك وأغرقتها، وأما أختاكِ فإني سحرتهما كلبتين من الكلاب السود؛ فإني عرفت جميع ما جرى لك معهما. وأما الشاب فإنه غرق.

ثم حملتني أنا والكلبتين، وألقتنا فوق سطح داري؛ فرأيت جميع ما كان في المركب من الأموال في وسط بيتي، ولم يَضِعْ منه شيء. ثم إن الحية قالت لي: وحق النقش الذي على خاتم سليمان، إذا لم تُجلدي كل واحدة منهما في كل يوم ثلاثمائة سوط، لجئتُ وجعلتُكِ مثلهما. فقلت: سمعاً وطاعة. فلم أزل يا أمير المؤمنين أضربهما ذلك الضرب وأشفق عليهما.

فتعجب الخليفة من ذلك، ثم قال للصبية الثانية: وأنتِ ما سبب الضرب الذي على جسدك؟

حكاية البنت الثانية أمينة

فقالت: يا أمير المؤمنين، إني كان لي والد فمات وخلّف مالاً كثيراً، فأقمتُ بعده مدة يسيرة، وتزوجت برجل أسعد أهل زمانه، فأقمتُ معه سنة كاملة ومات، فورثتُ منه ثمانين ألف دينار بمقتضى ما خصني به من الفريضة الشرعية. فعملت عشر بدلات، كل بدلة بألف دينار. فبينما أنا جالسة في يوم من الأيام إذ دخلت عليَّ عجوز بوجه مسعوط وحاجب ممسوط، وعيونها مفجرة، وأسنانها مكسّرة، ومخاطها سائل، وعنقها مائل، كما قال فيها الشاعر:

عجوزُ النّحسِ إبليسٌ يراها **تُعلِّمُهُ الخديعةَ من سكوتِ
تقودُ من السياسةِ ألفَ بغلٍ **إذا نفروا بخيطِ العنكبوتِ

 

وكما قال الآخر:
وعَجوزٌ لها الكِهانةُ طبعٌ حلَّلتْ في الحرام ما لا يجوز، بُعبِصَتْ طفلةً، وليطتْ فتاةً، وزنتْ كهلةً، وقادتْ عجوزٌ.

فلما دخلت العجوز سلَّمت عليَّ، وقالت: إن عندي بنتًا يتيمة، والليلة عملتُ عرسها، وأنا قصدي لك الأجر والثواب، فاحضري عرسها؛ فإنها مكسورة الخاطر، ليس لها إلا الله تعالى. ثم بكت وقبَّلت رجلي، فأخذتني الرحمة والرأفة، فقلت: سمعًا وطاعةً. فقالت: جهِّزي نفسك، فإني وقت العشاء أجيء وآخذك. ثم قبَّلت يدي وذهبت، فقمت وهيَّأت نفسي وجهَّزت حالي، وإذا بالعجوز قد أقبلت وقالت: يا سيدتي، إن سيدات البلد قد حضرن، وأخبرتهنَّ بحضورك؛ ففرحن وهن في انتظارك.

فقمتُ وتهيَّأتُ، وأخذت جواري معي، وسرتُ حتى أتينا إلى زقاقٍ هبَّ فيه النسيم وراق، فرأينا بوابةً مقنطرةً بقبة من الرخام مشيَّدة البنيان، وفي داخلها قصر قد قام من التراب وتعلَّق بالسحاب، فلما وصلنا إلى الباب طرقته العجوز ففُتح لنا ودخلنا، فوجدنا دهليزًا مفروشًا بالبسط، معلَّقًا فيه قناديل موقدة وشموع مضيئة، وفيه الجواهر والمعادن معلقة. فمشينا في الدهليز إلى أن دخلنا قاعة لا يوجد لها نظير، مفروشة بالفراش الحرير، معلَّقًا فيها القناديل الموقدة والشموع المضيئة، وفي صدر القاعة سرير من المرمر مرصَّع بالدر والجواهر، وعليه ناموسية من الأطلس.

وإذا بصبية خرجت من الناموسية مثل القمر، فقالت لي: مرحبًا وأهلًا وسهلًا يا أختي، آنستِني وجبرتِ خاطري، وأنشدت تقول:

لو تعلم الدار من قد زارها *** فرحت واستبشرت ثم باسَتْ موضع القدمِ
وأعلنت بلسان الحال قائلةً *** أهلًا وسهلًا بأهل الجود والكرمِ

ثم جلست وقالت: يا أختي، إن لي أخًا، وقد رآك في بعض الأفراح، وهو شاب أحسن مني، وقد أحبَّك قلبُه حبًا شديدًا، وأعطى هذه العجوز دراهم حتى أتتكِ، وعملت هذه الحيلة لأجل اجتماعي بك، ويريد أخي أن يتزوجك بسنة الله ورسوله، وما في الحلال من عيب.

فلما سمعتُ كلامها، ورأيت نفسي قد انحجزت في الدار، قلتُ للصبية: سمعًا وطاعةً. ففرحت وصفَّقت بيديها، وفتحت بابًا فخرج منه شاب مثل القمر كما قال الشاعر:

قد زاد حسنًا تبارك الله جلَّ الذي صاغه وسوَّاهُ
قد حاز كل الجمال منفردًا *** كل الورى في جماله تاهوا
قد كتب الحسن فوق وجنته *** أشهد أن لا مليح إلا هو

فلما نظرتُ إليه مال قلبي له، ثم جاء وجلس، وإذا بالقاضي قد دخل ومعه أربعة شهود، فسلَّموا وجلسوا، ثم إنهم كتبوا كتابي على ذلك الشاب وانصرفوا. فالتفت الشاب إليَّ وقال: ليلتنا مباركة. ثم قال: يا سيدتي، إني أشترط عليك شرطًا. فقلتُ: يا سيدي، وما الشرط؟ فقام وأحضر لي مصحفًا وقال: احلفي لي أنك لا تختارين أحدًا غيري ولا تميلين إليه. فحلفتُ له على ذلك، ففرح فرحًا شديدًا وعانقني، فأخذت محبته بمجامع قلبي، وقدموا لنا السماط، فأكلنا وشربنا حتى اكتفينا، ودخل علينا الليل، فأخذني ونام معي على الفراش، وبِتنا في عناق إلى الصباح، ولم نزل على هذه الحالة مدة شهر، ونحن في هناء وسرور.

وبعد الشهر استأذنته في أني أسير إلى السوق، وأشتري بعض قماش، فأذن لي في المروح، فلبست ثيابي وأخذت العجوز معي، ونزلت إلى السوق، فجلست في دكان شاب تاجر تعرفه العجوز، وقالت لي: هذا ولد صغير مات أبوه، وخلف له مالًا كثيرًا. ثم قالت له: هات أعز ما عندك من القماش لهذه الصبية. فقال لها: سمعًا وطاعةً. فصارت العجوز تثني عليه، فقلتُ: ما لنا حاجة بثنائك عليه؛ لأن مرادنا أن نأخذ حاجتنا منه ونعود إلى منزلنا. فأخرج لنا ما طلبناه وأعطيناه الدراهم، فأبى أن يأخذ شيئًا وقال: هذه ضيافتكم اليوم عندي. فقلت للعجوز: إن لم يأخذ الدراهم أعطيه قماشه. فقال: والله لا آخذ منك شيئًا، والجميع هدية من عندي في قبلة واحدة، فإنها عندي أحسن من جميع ما في دكاني. فقالت العجوز: ما الذي يفيدك من القبلة؟ ثم قالت: يا بنتي، قد سمعتِ هذا الشاب، وما يصيبك شيء إذا أخذ منك قبلة، وتأخذين ما تطلبينه. فقلت لها: أما تعلمين أني حالفة؟! فقالت: خليْه يقبلك، وأنت ساكتة، ولا عليك شيء، وتأخذين هذه الدراهم. ولا زالت تُحسِّن لي الأمر حتى أدخلت رأسي في الجراب ورضيتُ…

 

بذلك، ثم إني غطيت عيني، ودارَيتُ بطرف إزاري من الناس، وحطَّ فمه تحت إزاري على خدي، فلمّا قبَّلني عضَّني عضةً قوية حتى قطع اللحم من خدي، فغُشي عليَّ، ثم أخذتني العجوز في حضنها، فلمّا أفقتُ وجدتُ الدكّان مقفولًا، والعجوز تُظهر لي الحزن، وتقول: “ما دفع الله كان أعظم”. ثم قالت لي: “قومي بنا إلى البيت، واعملي نفسك ضعيفة، وأنا أجيء إليك بدواء تداوين به هذه العضة فتبرأ سريعًا”.

فبعد ساعة قمتُ من مكاني وأنا في غاية الفكر، واشتدّ بي الخوف، فمشيت حتى وصلتُ إلى البيت، وأظهرتُ حالة المرض، وإذا بزوجي داخل، وقال: “ما الذي أصابك يا سيدتي في هذا الخروج؟” فقلتُ له: “ما أنا طيبة”. فنظر إليّ وقال لي: “ما هذا الجرح الذي بخدك، وهو في المكان الناعم؟” فقلتُ: “إني لمّا استأذنتك وخرجتُ في هذا النهار لأشتري القماش، زاحمني جمل حامل حطبًا، فشرمَط نقابي، وجرح خدّي كما ترى، فإن الطريق ضيّق في هذه المدينة”.

فقال: “غدًا أروح للحاكم، وأشكو له فيشنق كل حطّابٍ في المدينة”. فقلت: “بالله عليك لا تتحمّل خطيئة أحد؛ فإني ركبتُ حمارًا نفر بي فوقعتُ على الأرض، فصادفني عود فخدش خدّي وجرحني”. فقال: “غدًا أطلع لجعفر البرمكي، وأحكي له الحكاية، فيقتل كل حمار في هذه المدينة”. فقلت: “هل أنت تقتل الناس كلهم بسببي، وهذا الذي جرى لي بقضاء الله وقدره!” فقال: “لا بد من ذلك”.

وشدّد عليّ ونهض قائمًا، وصاح صيحة عظيمة، فانفتح الباب وطلع منه سبعة عبيد سود، فسحبوني من فراشي ورموني في وسط الدار، ثم أمر عبدًا منهم أن يمسكني من أكتافي ويجلس على رأسي، وأمر الثاني أن يجلس على ركبتي ويمسك رجليّ، وجاء الثالث وفي يده سيف فقال: “يا سيدي، أأضربها بالسيف فأقسمها نصفين، وكل واحد يأخذ قطعة يرميها في بحر الدجلة فتأكلها السمك؟ وهذا جزاء مَن يخون الأيمان والمودّة”، وأنشد هذا الشعر:

إِذَا كَانَ لِي فِيمَنْ أُحِبُّ مُشَارِكٌ
مَنَعْتُ الْهَوَى رُوحِي لِيُتْلِفَنِي وَجْدِي
وَقُلْتُ لَهَا يَا نَفْسُ مُوتِي كَرِيمَةً
فَلَا خَيْرَ فِي حُبٍّ يَكُونُ مَعَ الضِّدِّ

ثم قال للعبد: “اضربها يا سعد”. فجرد السيف وقال: “اذكري الشهادة، وتذكّري ما كان لك من الحوائج وأوصي، فإن هذا آخر حياتك”. فقلتُ له: “يا عبد الخير، تمهّل عليَّ قليلًا حتى أتشهّد وأوصي”. ثم رفعتُ رأسي ونظرتُ إلى حالي، وكيف صرتُ في الذل بعد العزّ؛ فجرت عبرتي وبكيت، وأنشدت هذه الأبيات:

أَقَمْتُمْ فِرَاقِي فِي الْهَوَى وَقَعَدْتُمُ
وَأَسْهَرْتُمُ جَفْنِي الْقَرِيحَ وَنِمْتُمُ
وَمَنْزِلُكُمْ بَيْنَ الْفُؤَادِ وَنَاظِرِي
فَلَا الْقَلْبُ يَسْلَاكُمْ وَلَا الدَّمْعُ يُكْتَمُ
وَعَاهَدْتُمُونِي أَنْ تُقِيمُوا عَلَى الْوَفَا
فَلَمَّا تَمَلَّكْتُمْ فُؤَادِي غَدَرْتُمُ
وَلَمْ تَرْحَمُوا وَجْدِي بِكُمْ وَتَلَهُّفِي
أَأَنْتُم صُدُوفُ الْحَادِثَاتِ أَمِ أَنْتُمُ
سَأَلْتُكُمُ بِاللَّهِ إِنْ مُتُّ فَاكْتُبُوا
عَلَى لَوْحِ قَبْرِي إِنَّ هَذَا مُتَيَّمُ
لَعَلَّ شَجِيًّا عَارِفًا لِوَعْثَةِ الْهَوَى
يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ الْمُحِبِّ فَيَرْحَمُ

فلمّا فرغتُ من شعري بكيتُ، فلمّا سمع الشعر ونظر إلى بكائي، ازداد غيظًا على غيظه، وأنشد هذين البيتين:

تَرَكْتُ حَبِيبَ الْقَلْبِ لَا عَنْ مَلَالَةٍ
وَلَكِنْ جَنَى ذَنْبًا يُؤَدِّي إِلَى التَّرْكِ
أَرَادَ شَرِيكًا فِي الْمَحَبَّةِ بَيْنَنَا
وَإِيمَانُ قَلْبِي لَا يَمِيلُ إِلَى الشِّرْكِ

فلما فرغ من شعره بكيتُ واستعطفتُه، وقلتُ في نفسي: “أتواضع له وألين له الكلام؛ لعلّه يعفو عني من القتل، ولو كان يأخذ جميع ما أملك”. ثم شكوتُ إليه ما أجده، وأنشدته هذه الأبيات:

وَحَقِّكَ لَوْ أَنْصَفْتَنِي مَا قَتَلْتَنِي
وَلَكِنْ حُكْمَ الْبَيْنِ مَا فِيهِ مُنْصِفُ
وَحَمَّلْتَنِي ثِقْلَ الْغَرَامِ وَإِنَّنِي
لَأَعْجَزُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَأَضْعُفُ
وَمَا عَجَبٌ إِتْلَافُ رُوحِي وَإِنَّمَا
عَجِبْتُ لِجِسْمِي بَعْدَكُمْ كَيْفَ يَصْرِفُ

فلمّا فرغتُ من شعري بكيتُ، فنظرني ونهرني وشتمَني، وأنشد هذه الأبيات:

تَشَاغَلْتُمُ عَنَّا بِصُحْبَةِ غَيْرِنَا
وَأَظْهَرْتُمُ الْهِجْرَانَ مَا هَكَذَا كُنَّا
سَنَتْرُكُكُمْ لَمَّا تَرَكْتُم مَرَامَنَا
وَنَصْبِرُ عَنْكُمْ مِثْلَ صَبْرِكُمُ عَنَّا
وَنَهْوَى سِوَاكُمْ مُذْ جَنَحْتُمْ لِغَيْرِنَا
وَنَجْعَلُ قَطْعَ الْوَصْلِ مِنْكُمْ وَلَا مِنَّا

 

فلما فرغ من شعره أقبل على العبد، وقال له: اشطرها نصفين، فليس لنا فيها فائدة. فلما تقدّم العبد إليّ، أيقنت بالموت ويئست من الحياة، وسلّمت أمري لله تعالى، وإذا بالعجوز قد دخلت ورمت نفسها على أقدام الشاب وقبّلتها، وقالت: يا ولدي، بحقّ تربيتي لك تعفو عن هذه الصبية، فإنها ما فعلت ذنبًا يوجب ذلك، وأنت شاب صغير فأخاف عليك من دعائها. ثم بكت العجوز، ولم تزل تلحّ عليه حتى قال: قد عفوت عنها، ولكن لا بد أن أعمل فيها أثرًا يظهر عليها بقية عمرها.

ثم أمر العبيد فجذبوني من ثيابي، وأحضر قضيبًا من سفرجل، ونزل به على جسدي بالضرب، ولم يزل يضربني ذلك الشاب على ظهري وجنبي حتى غبت عن الدنيا من شدّة الضرب، وقد يئست من حياتي. ثم أمر العبيد أنه إذا دخل الليل يحملونني ويأخذون العجوز معهم، ويرمونني في بيتي الذي كنت فيه سابقًا، ففعلوا ما أمرهم به سيّدهم، ورموني في بيتي.

فتعاهدت نفسي وداويت جسمي، فلما شُفيت بقيت أضلاعي كأنها مضروبة بالمقارع كما ترى، فاستمررت في مداواة نفسي أربعة أشهر حتى شُفيت، ثم جئت إلى الدار التي جرى لي فيها ذلك الأمر، فوجدتها خربة، ووجدت الزقاق مهدومًا من أوّله إلى آخره، ووجدت في موضع الدار كيمانًا، ولم أعلم سبب ذلك. فجئت إلى أختي هذه التي من أبي، فوجدت عندها هاتين الكلبتين، فسلّمت عليها وأخبرتها بخبري وبجميع ما جرى لي، فقالت لي: من ذا الذي من نكبات الزمان سليم؟ الحمد لله الذي جعل الأمر بالسلامة.

ثم أخبرتني بخبرها، وبجميع ما جرى لها مع أختيها، وقعدت أنا وهي لا نذكر خبر الزواج على ألسنتنا. ثم صاحبتنا هذه الصبية الدلّالة، وفي كل يوم تخرج فتشتري لنا ما نحتاج إليه من المصالح، واستمررنا على هذه الحالة إلى هذه الليلة التي مضت، فخرجت أختنا تشتري لنا ما نحتاج إليه من المصالح على جري عادتها، فوقع لنا ما وقع من مجيء الحمال والصعاليك، ومن مجيئكم في صفة تجّار، فلما سرنا في هذا اليوم لم نشعر إلا ونحن بين يديك، وهذه حكايتنا.

فتعجّب الخليفة من هذه الحكاية، وجعلها تاريخًا مثبتًا في خزانته.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى