حكايات من ليالي شهرزاد: صراع الأقدار وأسرار القصور..الليلة ٢٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قام له ورحّب به، وقال له: قُمِ ادخل هذه الليلة على زوجتك، وفي غدٍ أطلع بك إلى السلطان، وأرجو لك من الله كل خير. فقام نور الدين، ودخل على زوجته بنت الوزير.
هذا ما كان من أمر نور الدين، وأما ما كان من أمر أخيه، فإنه غاب مع السلطان مدةً في السفر، ثم رجع فلم يجد أخاه، فسأل عنه الخدم، فقالوا له: من يوم سافرتَ مع السلطان ركب بغلته بعدة الموكب، وقال: أنا متوجه إلى جهة القليوبية، فأغيب يومًا أو يومين؛ فإن صدري ضاق، ولا يتبعني منكم أحد. ومن يوم خروجه إلى هذا اليوم لم نسمع له خبرًا.
فتشوّش خاطر شمس الدين على فراق أخيه، واغتم غمًّا شديدًا لفقده، وقال في نفسه: ما سبب ذلك إلا أني أغلظتُ عليه في الحديث ليلة سفري مع السلطان، فلعله تغيّر خاطره وخرج مسافرًا، فلا بد أن أرسل خلفه. ثم طلع وأعلم السلطان بذلك، فكتب بطاقات، وأرسل بها إلى نوابه في جميع البلاد. وكان نور الدين قد قطع بلادًا بعيدة في مدة غياب أخيه مع السلطان. فذهبت الرسل بالمكاتيب، ثم عادوا ولم يقفوا له على خبر، ويئس شمس الدين من أخيه، وقال: لقد أغظتُ أخي بكلامي من جهة زواج الأولاد، فليت ذلك لم يكن، وما حصل ذلك إلا من قلة عقلي وعدم تدبيري.
ثم بعد مدة يسيرة خطب بنت رجل من تجار مصر، وكتب كتابه عليها ودخل بها. وقد اتفق أن ليلة دخول شمس الدين على زوجته كانت ليلة دخول نور الدين على زوجته بنت وزير البصرة، وذلك بإرادة الله تعالى حتى ينفذ حكمه في خلقه، وكان الأمر كما قالا. فاتفق أن الزوجتين حملتا منهما، وقد وضعت زوجة شمس الدين وزير مصر بنتًا لا يُرى في مصر أحسن منها، ووضعت زوجة نور الدين ولدًا ذكرًا لا يُرى في زمانه أحسن منه، كما قال الشاعر:
وَمُهَفْهَفٍ يُغني النديمَ بريقهِ
عن كأسِه الملأى وعن إبريقهِ
فعلَ المدامَ ولونُها ومذاقُها
في مقلتَيهِ ووجنتَيهِ وريقهِ
وقال آخر:
إن جاءه الحُسنُ كي يُقاسَ به
ينكسُ الحُسنُ رأسَه خَجَلَا
أو قيلَ: يا حُسنُ هل رأيتَ كذا؟
يقولُ: أما نظيرُ ذاك فلا
فسمّوه حسنًا، وفي سابع ولادته صنعوا الولائم، وعملوا أسمطة تصلح لأولاد الملوك. ثم إن وزير البصرة أخذ معه نور الدين، وطلع به إلى السلطان، فلما صار قدّامه قبّل الأرض بين يديه. وكان نور الدين فصيح اللسان، ثابت الجَنان، صاحب حُسن وإحسان، فأنشد قول الشاعر:
هَذا الّذي عمّ الأنامَ بعدلهِ
وسطا فمهّدَ سائِرَ الآفاقِ
اشكرْ صنائعَهُ فليستْ صنائعًا
لكنّهنَّ قلائدُ الأعناقِ
والثمْ أناملَهُ فليستْ أناملًا
لكنّهنَّ مفاتحُ الأرزاقِ
فأكرمهما السلطان، وشكر نور الدين على ما قال، وقال لوزيره: من هذا الشاب؟ فحكى له الوزير قصته من أولها إلى آخرها، وقال له: هذا ابن أخي. فقال: وكيف يكون ابن أخيك ولم نسمع به؟ فقال: يا مولانا السلطان، إنه كان لي أخ وزير بالديار المصرية، وقد مات وخلّف ولدين، فالكبير جلس في مرتبة والده وزيرًا، وهذا ولده الصغير جاء عندي، وحلفت أني لا أزوّج ابنتي إلا له، فلما جاء زوّجته بها، وهو شاب وأنا صرت شيخًا، وقلّ سمعي وعجز تدبيري. والمقصود من مولانا السلطان أن يجعله في مرتبتي، فإنه ابن أخي وزوج ابنتي، وهو أهل للوزارة؛ لأنه صاحب رأي وتدبير.
فنظر السلطان إليه فأعجبه، واستحسن رأي الوزير بما أشار عليه من تقديمه في رتبة الوزارة، فأنعم عليه بها، وأمر له بخلعة عظيمة، وبغلة من خاص مركوبه، وعيّن له الرواتب والجوامك. فقبّل نور الدين يد السلطان ونزل هو وصهره إلى منزلهما وهما في غاية الفرح، وقالا: إن قدَرَ…
هذا المولود مبارك. ثم إن نور الدين توجَّه في اليوم الثاني إلى الملك وقبَّل الأرض، وأنشد هذين البيتين:
سَعَادَاتٌ تُجَدِّدُ كُلَّ يَوْمٍ ** وَإِقْبَالٌ وَقَدْ رَغِمَ الْحَسُودُ
فَمَا زَالَتْ لَكَ الأَيَّامُ بِيضًا ** وَأَيَّامُ الَّذِي عَادَاكَ سُودُ
فأمره السلطان بالجلوس في مرتبة الوزارة، فجلس وتعاطى أمور خدمته، ونظر بين الناس في أمورهم ومحاكماتهم كما جرت به عادة الوزراء. وصار السلطان ينظر إليه ويتعجب من أمره وذكاء عقله وحسن تدبيره، وتفكَّر في أحواله فأحبَّه وقَرَّبه إليه.
ولما انفض الديوان نزل نور الدين إلى بيته وحكى لصهره ما وقع، ففرح. ولم يزل الوزير يربي المولود المسمى حسنًا، حتى مضت عليه أيام. ولم يزل نور الدين في الوزارة حتى إنه لا يفارق السلطان في ليل ولا نهار، وزاد له الجوامك والجرايات حتى اتسع عليه الحال، وصار له مراكب تسافر من تحت يده بالمتاجر وغيرها، وعمَّر أملاكًا كثيرة، ودواوين، وبساتين.
حتى بلغ عمر ولده حسن أربع سنين، فتوفي الوزير الكبير والد زوجة نور الدين، فأُخرج بجنازة عظيمة ووُوري في التراب. ثم اشتغل بعد ذلك بتربية ولده، فلما بلغ أشدَّه أحضر له فقيهًا يقرئه في بيته، وأوصاه بتعليمه وحسن تربيته. فأقرأه وعلَّمه فوائد في العلم بعد أن حفظ القرآن في مدة سنوات. وما زال حسن يزداد جمالًا وحُسنًا واعتدالًا كما قال الشاعر:
قَمَرٌ تَكَامَلَ فِي الْمَحَاسِنِ وَانْتَهَى ** فَالشَّمْسُ تُشْرِقُ مِنْ شَقَائِقِ خَدِّهِ
مَلَكَ الْجَمَالَ بِأَسْرِهِ ** فَكَأَنَّمَا حُسْنُ الْبَرِيَّةِ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِهِ
وقد ربَّاه الفقيه في قصر أبيه، ومن حين نشأته لم يخرج من قصر الوزارة إلى أن أخذه والده الوزير نور الدين يومًا من الأيام، وألبسه بدلة من أفخر ملبوسه، وأركبه بغلة من خيار بغاله، وطلع به عند السلطان وأدخله عليه.
فنظر الملك إلى حسن بدر الدين ابن الوزير نور الدين فاندهش من حُسنه، وأما أهل المملكة فإنه لما مرَّ عليهم أول مرة وهو طالع مع أبيه عند الملك، قد تحيَّروا من فرط حُسنه وجماله ورشاقة قدِّه واعتداله، وتحققوا فيه معنى قول الشاعر:
رَصَدَ الْمُنَجِّمُ لَيْلَهُ فَبَدَا لَهُ ** قَدُّ الْمَلِيحِ يَمِيسُ فِي بُرْدَيْهِ
وَتَأَمَّلَ الْجَوْزَاءَ إِذْ نَثَرَتْ بِهِ ** حَبَّ الْجُمَانِ يَلُوحُ فِي عِطْفَيْهِ
وَأَمَدَّهُ زُحَلٌ سَوَادَ ذَوَائِبٍ ** وَالْمِسْكُ هَادِي الْخَالِ فِي خَدَّيْهِ
وَغَدَتْ مِنَ الْمَرِّيخِ حُمْرَةُ خَدِّهِ ** وَالْقَوْسُ يَرْمِي النَّبْلَ مِنْ جَفْنَيْهِ
وَعُطَارِدُ أَعْطَاهُ فَرْطَ ذَكَائِهِ ** وَأَبَى السِّهَامَ نَظَرَ الْوُشَاةِ إِلَيْهِ
فَغَدَا الْمُنَجِّمُ حَائِرًا مِمَّا رَأَى ** وَالْبَدْرُ بَاسَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ
فلما رآه السلطان أحبَّه وأنعم عليه، وقال لأبيه: “يا وزير، لا بد أنك تحضره معك في كل يوم”. فقال: “سمعًا وطاعة”. ثم عاد الوزير بولده إلى منزله، وما زال يطلع به إلى السلطان كل يوم حتى بلغ الولد من العمر خمسة عشر عامًا.
ثم ضعف والده الوزير نور الدين، فأحضرَه وقال: “يا ولدي، اعلم أن الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء، وأريد أن أوصيك وصايا، فافهم ما أقول لك وأصغِ قلبك إليه”. وصار يوصيه بحسن عشرة الناس وحسن التدبير. ثم إن نور الدين تذكَّر أخاه وأوطانه وبلاده، وبكى على فرقة الأحباب، وسالت دموعه، وقال:
“يا ولدي، اسمع قولي، فإن لي أخًا يُسمى شمس الدين وهو عمُّك، ولكنه وزير بمصر، وقد فارقته وخرجتُ على غير رضاه. والمقصود أنك تأخذ درجًا من الورق وتكتب ما أُمليه عليك”.
فأحضر قرطاسًا وكتب فيه كل ما قاله أبوه، فأملى عليه جميع ما جرى له من أوله إلى آخره، وكتب له تاريخ زواجه ودخوله على بنت الوزير، وتاريخ وصوله إلى البصرة واجتماعه بوزيرها، وكتب وصية موثقة. ثم قال لولده: “احفظ هذه الوصية، فإن ورقتها فيها أصلك وحسبك ونسبك. فإن أصابك شيء من الأمور فاقصد مصر، واستدل على عمك وسلِّم عليه، وأعلمه أني مت غريبًا مشتاقًا إليه”.
فأخذ حسن بدر الدين الرقعة وطواها، ولف عليها خرقة مشمعة، وخاطها بين البطانة والظهارة، وصار يبكي على أبيه من أجل فراقه وهو صغير.
وما زال نور الدين يوصي ولده حسن بدر الدين حتى طلعت روحه، فأقام الحزن في بيته، وحزن عليه السلطان وجميع الأمراء ودفنوه، ولم يزالوا في حزن مدة شهرين. وولده لم يركب ولم يطلع الديوان، ولم يقابل السلطان، وأقام مكانه بعض الحُجّاب، وولّى السلطان وزيرًا جديدًا مكانه، وأمره أن يختم على أماكن نور الدين، وعلى ماله، وعلى عماراته، وعلى أملاكه. فنزل الوزير الجديد وأخذ الحُجّاب، وتوجهوا إلى بيت الوزير نور الدين ليختموا عليه، ويقبضوا على ولده حسن بدر الدين، ويطلعوا به إلى السلطان ليعمل فيه ما يقتضي رأيه. وكان بين العسكر مملوك من مماليك الوزير نور الدين المتوفي، فلم يهن عليه ولد سيده، فذهب ذلك المملوك إلى حسن بدر الدين فوجده منكّس الرأس حزين القلب على فراق والده، فأعلمه بما جرى.
فقال له: “هل في الأمر مهلة حتى أدخل بيتي فآخذ معي شيئًا من الدنيا لأستعين به على الغربة؟”
فقال له المملوك: “اخرج بنفسك ونجِّها.”
فلما سمع كلام المملوك غطّى رأسه بذيله، وخرج ماشيًا حتى صار خارج المدينة. فسمع الناس يقولون: “إن السلطان أرسل الوزير الجديد إلى بيت وزيره المتوفي ليختم على ماله وأماكنه، ويقبض على ولده حسن بدر الدين ويطلع به إليه فيقتله.” فصار الناس يتأسفون على حُسنه وجماله.
فلما سمع كلام الناس خرج إلى غير مقصد، ولم يعلم أين يذهب، فلم يزل سائرًا حتى ساقته المقادير إلى تربة والده. فدخل المقبرة ومشى بين القبور حتى جلس عند قبر أبيه، وأزال ذيله من فوق رأسه. فبينما هو جالس عند تربة أبيه إذ قدم عليه يهودي من البصرة وقال: “يا سيدي، ما لي أراك متغيرًا؟”
فقال له: “إني كنت نائمًا في هذه الساعة، فرأيتُ أبي يعاتبني على عدم زيارتي قبره، فقمت وأنا مرعوب، وخفت أن يفوت النهار ولم أزره فيصعب عليّ الأمر.”
فقال له اليهودي: “يا سيدي، إن أباك كان أرسل مراكب بحارة، وقدِم منها البعض، ومرادي أن أشتري منك وِسق كل مركب قدمت بألف دينار.” ثم أخرج اليهودي كيسًا ممتلئًا من الذهب، وعدّ منه ألف دينار، ودفعه إلى حسن ابن الوزير، ثم قال له اليهودي: “اكتب لي ورقة واختمها.” فأخذ حسن ابن الوزير ورقة وكتب فيها:
“كاتب هذه الورقة حسن بدر الدين ابن الوزير نور الدين، قد باع لليهودي فلان جميع وسق كل مركب وردت من مراكب أبيه المسافرة بألف دينار، وقبض الثمن على سبيل التعجيل.”
فأخذ اليهودي الورقة، وصار حسن يبكي ويتذكر ما كان فيه من العز والإقبال.
ثم دخل عليه الليل وأدركه النوم، فنام عند قبر أبيه، ولم يزل نائمًا حتى طلع القمر، فتدحرجت رأسه عن القبر، ونام على ظهره، وصار وجهه يلمع في ضوء القمر. وكانت المقابر عامرة بالجن المؤمنين، فخرجت جنية فنظرت وجه حسن وهو نائم، فلما رأته تعجبت من حُسنه وجماله وقالت: “سبحان الله! ما هذا الشاب إلا كأنه من الحور العين.”
ثم طارت إلى الجو تطوف على عادتها، فرأت عِفريتًا طائرًا، فسلّمت عليه وسلّم عليها، فقالت له: “من أين أقبلت؟” قال: “من مصر.” فقالت له: “هل لك أن تروح معي حتى تنظر إلى حُسن هذا الشاب النائم في المقبرة؟” قال لها: “نعم.” فسارا حتى نزلا في المقبرة. فقالت له: “هل رأيت في عمرك مثل هذا؟” فنظر العفريت إليه وقال: “سبحان من لا شبيه له! ولكن يا أختي إن أردتِ حدّثتك بما رأيت.” قالت له: “حدثني.”
فقال لها: “إني رأيت مثل هذا الشاب في إقليم مصر، وهي بنت الوزير، وقد علم بها الملك فخطبها من أبيها الوزير شمس الدين…”
ولم يزل نائمًا على قبر أبيه حتى خرجت جنية ونظرت وجه حسن وهو نائم.
له: “يا مولانا السلطان، اقبل عذري وارحم عَبرتي؛ فإنك تعرف أن أخي نور الدين خرج من عندنا ولا نعلم أين هو، وكان شريكي في الوزارة، وسبب خروجه أني جلست أتحدث معه في شأن الزواج، فغضب مني فخرج مغضبًا.”
وحكى للملك جميع ما جرى بينهما، ثم قال للملك: “فكان ذلك سببًا لغيظه، وأنا حالف ألا أزوّج ابنتي إلا لابن أخي من يوم ولدتها أمها، وذلك نحو ثماني عشرة سنة. ومن مدة قريبة سمعت أن أخي تزوّج بنت وزير البصرة وجاء منها بولد، وأنا لا أزوّج ابنتي إلا له كرامةً لأخي. ثم إني أرّخت وقت زواجي، وحمل زوجتي، وولادة هذه البنت، وهي باسم ابن عمها، والبنات كثير.”
فلما سمع السلطان كلام الوزير غضب غضبًا شديدًا، وقال له: “كيف يخطب مثلي من مثلك بنتًا فتمتنعها منه، وتحتج بحجة باردة؟! وحياة رأسي لا أزوّجها إلا لأقل مني برغم أنفك.”
وكان عند الملك سائس أحدب، بحدبة من قدام وحدبة من وراء، فأمر السلطان بإحضاره، وكتب كتابه على بنت الوزير بالقهر، وأمر أن يدخل عليها في هذه الليلة، ويُعمل له زفاف، وقد تركته وهو بين مماليك السلطان، وهم حوله في أيديهم الشموع موقدة، يضحكون عليه ويسخرون به على باب الحمام.
وأما بنت الوزير فإنها جالسة تبكي بين المنقشات والمواشط، وهي أشبه الناس بهذا الشاب، وقد حجروا على أبيها، ومنعوه أن يحضرها. وما رأيتُ يا أختي أقبح من هذا الأحدب، وأما الصبية فهي أحسن من هذا الشاب.”
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.