قصص

حكاية الصياد والعفريت: من قمقم سليمان إلى دهاء الإنسان.. الليلة ٣

 

فلما كانت الليلة الثالثة

قالت: بلغني أن الشيخ الثالث صاحب البغلة قال للجنّي: “أنا أحكي لك حكاية أعجب من حكاية الاثنين، وتهب لي باقي دمه وجنايته أيها الجنّي!”
قال: نعم.

فقال الشيخ: “أيها السلطان ورئيس الجان، إن هذه البغلة كانت زوجتي. سافرتُ وغِبتُ عنها سنة كاملة، ثم قضيت سفري وجئت إليها في الليل، فرأيت عبدًا أسود راقدًا معها في الفراش، وهما في كلام وغنج وضحك وتقبيل وهَراش. فلما رأتني عجِلت وقامت إليّ بكوز فيه ماء، فتكلّمت عليه ورشّتني، وقالت: اخرُج من هذه الصورة إلى صورة كلب. فصرتُ في الحال كلبًا، فطردتني من البيت، فخرجت من الباب ولم أزل سائرًا حتى وصلت إلى دكان جزار، فتقدّمت وشرعتُ آكل من العظام. فلما رآني صاحب الدكان أخذني وأدخلني بيته، فلما رأتني بنت الجزار غطّت وجهها مني وقالت: أتجيء لنا برجل وتدخل علينا به؟! فقال أبوها: أين الرجل؟ قالت: إن هذا الكلب سحرته امرأته وأنا أقدر على تخليصه.”

فلما سمع أبوها كلامها قال: “بالله عليك يا بنتي خلّصيه.”
فأخذت كوزًا فيه ماء وتكلّمت عليه، ورشّت عليّ منه قليلًا، وقالت: “اخرج من هذه الصورة إلى صورتك الأولى.”
فصرت إلى صورتي الأولى، فقبّلت يدها وقلت لها: “أريد أن تسحري زوجتي كما سحرتني.” فأعطتني قليلًا من الماء، وقالت: “إذا رأيتها نائمة فارشُ هذا الماء عليها، فإنها تصير كما أنت طالب.”

فوجدتها نائمة فرششت عليها الماء، وقلت: “اخرجي من هذه الصورة إلى صورة بغلة.” فصارت في الحال بغلة، وهي هذه التي تراها بعينك أيها السلطان ورئيس ملوك الجان.”

ثم التفت إليها وقال: “أصحيح؟” فهزّت رأسها وقالت بالإشارة: “نعم، هذا صحيح.”

فلما فرغ من حديثه اهتزّ الجنّي من الطرب، ووهب له ثلث دمه.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح. فقالت لها أختها: “يا أختي، ما أحلى حديثك وأطيبه، وألذّه وأعذبه!”
فقالت: “وأين هذا مما أحدّثكم به الليلة القابلة إن عشتُ وأبقاني الملك؟”
فقال الملك: “والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها؛ لأنه عجيب.”

ثم باتا تلك الليلة متعانقَين إلى الصباح، فخرج الملك إلى محل حكمه، ودخل عليه الوزير والعسكر، واحتبك الديوان، فحكم الملك وولّى وعزل، ونهى وأمر إلى آخر النهار، ثم انفضّ الديوان، ودخل الملك شهريار إلى قصره.

فلما أقبل الليل وقضى حاجته من بنت الوزير، قالت لها أختها دنيازاد: “يا أختي، أتممي لنا حديثك.”
فقالت: “حبًّا وكرامة. بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الثالث لما قال للجنّي حكايةً أعجب من الحكايتين، تعجّب الجنّي غاية العجب، واهتزّ من الطرب، وقال: قد وهبتُ لك باقي جنايته وأطلقتُه لكم.”

فأقبل التاجر على الشيوخ وشكرهم وهنّأهم بالسلامة، ورجع كل واحد إلى بلده.

 

حكاية الصياد مع العفريت

وما هذه بأعجب من حكاية الصياد.

فقال لها الملك: “وما حكاية الصياد؟”
قالت: “بلغني أيها الملك السعيد أنه كان رجل صياد، وكان طاعنًا في السن، وله زوجة وثلاثة أولاد، وهو فقير الحال. وكان من عادته أنه يرمي شبكته كل يوم أربع مرات لا غير.

ثم إنه خرج يومًا من الأيام في وقت الظهر إلى شاطئ البحر، وحطّ مقطفه وطرح شبكته، وصبر إلى أن استقرت في الماء، ثم جمع خيطانها فوجدها ثقيلة، فجرّها فلم يقدر على ذلك، فذهب بالطرف إلى البر، ودقّ وتدًا وربطها فيه، ثم تعرّى وغاص في الماء حول الشبكة، وما زال يعالج حتى أطلعها، ففرح ولبس ثيابه وأتى إلى الشبكة، فوجد فيها حمارًا ميتًا. فلما رأى ذلك حزن وقال: “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.” ثم قال: “إن هذا الرزق عجيب.” وأنشد يقول:

يا خائضًا في ظلام الليل والهلكةْ
أقصِرْ عناكَ فليس الرزقُ بالحركةْ

ثم إن الصياد لما رأى الحمار الميت خلّصه من الشبكة وعصرها، فلما فرغ من عصرها نشرها، وبعد ذلك نزل البحر وقال: “باسم الله.” وطرحها فيه، وصبر عليها حتى استقرت، ثم جذبها فثقلت ورَسَخت أكثر من الأول، فظنّ أنه سمك، فربط الشبكة وتعرّى ونزل وغاص، ثم عالج إلى أن خلّصها وأطلعها على البر، فوجد فيها زيرًا كبيرًا مملوءًا برمل وطين.

فلما رأى ذلك تأّسف وأنشد قول الشاعر:

يا حُرقةَ الدهرِ كُفّي إن لم تَكُفّي فَعِفّي
فلا بحظّي أُعطي ولا بصنعتي كُفّي
خرجتُ أطلب رزقي وجدتُ رزقي تُوفي
كم جاهلٍ في ظهورٍ وعالمٍ متخفّي

ثم إنه رمى الزير، وعصر شبكته ونظّفها، واستغفر الله وعاد إلى البحر ثالث مرة، ورمى الشبكة وصبر عليها حتى استقرت، وجذبها فوجد فيها شقافة وقوارير. فأنشد قول الشاعر:

هو الرزقُ لا حلّ لديك ولا ربطُ
ولا قلمٌ يُجدي عليك ولا خَطُّ

ثم إنه رفع رأسه إلى السماء وقال: “اللهم إنك تعلم أني لم أرم شبكتي غير أربع مرات، وقد رميت ثلاثًا.” ثم إنه سمّى الله ورمى الشبكة في البحر، وصبر إلى أن استقرت وجذبها، فلم يطق جذبها، وإذا بها قد اشتبكت في الأرض، فقال: “لا حول ولا قوة إلا بالله.” فتعرّى…

ثم إنه رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك تعلم أني لم أرمِ شبكتي غير أربع مرات، وقد رميت ثلاثًا. ثم إنه سمّى الله ورمى الشبكة في البحر، وصبر إلى أن استقرت وجذبها، فلم يطق جذبها، وإذا بها قد اشتبكت في الأرض، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فتعرى وغطس عليها، وصار يعالج فيها إلى أن طلع بها إلى البر، وفتحها فوجد فيها قمقمًا من نحاس أصفر مملوءًا، وفمه مختوم برصاص عليه طبع خاتم سيدنا سليمان.

فلما رآه الصياد فرح وقال: هذا أبيعه في سوق النحاس، فإنه يساوي عشرة دنانير ذهبًا. ثم إنه حرّكه فوجده ثقيلًا فقال: لا بد أني أفتحه وأنظر ما فيه، وأدّخره في الخرج، ثم أبيعه في سوق النحاس. فأخرج سكينًا وعالج في الرصاص إلى أن فكّه من القمقم، ووضعه على الأرض، وهزّه لينكب ما فيه، فلم ينزل منه شيء، ولكن خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عنان السماء، وانتشر على وجه الأرض، فتعجب غاية العجب. وبعد ذلك تكامل الدخان واجتمع، ثم انتفض فصار عفريتًا رأسه في السحاب ورجلاه في التراب، برأس كالقبة، وأيدٍ كالمجاديف، ورجلين كالصواري، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، ومنخرين كالإبريق، وعينين كالسراجين، أشعث أغبر.

فلما رأى الصياد ذلك العفريت ارتعدت فرائصه، وتشابكت أسنانه، ونشف ريقه، وعمي عن طريقه. فلما رآه العفريت قال: لا إله إلا الله، سليمان نبي الله! ثم قال العفريت: يا نبي الله، لا تقتلني، فإني لا أعود أخالف لك قولًا، وأمتثل لك أمرًا. فقال له الصياد: أيها المارد، أتقول سليمان نبي الله، وسليمان مات من مدة ألف وثمانمائة سنة، ونحن في آخر الزمان؟ فما قصتك، وما حديثك، وما سبب دخولك في هذا القمقم؟

فلما سمع المارد كلام الصياد قال: لا إله إلا الله، أبشر يا صياد. فقال الصياد: بماذا تبشرني؟ قال: بقتلك في هذه الساعة أشرّ القتلات! فقال الصياد: تستحق على هذه البشارة يا قيم العفاريت زوال الستر عنك، يا بعيد! لأي شيء تقتلني، وأي ذنب يوجب قتلي، وقد خلصتك من القمقم، ونجيتك من قرار البحر، وطلعتك إلى البر؟ فقال العفريت: تمنّ عليّ أي ميتة تموتها، وأي قتلة تُقتلها.

فقال الصياد: ما ذنبي حتى يكون هذا جزائي منك؟ قال العفريت: اسمع حكايتي يا صياد. فقال الصياد: قُل وأوجز في الكلام؛ فإن روحي وصلت إلى قدمي. فقال: اعلم أني من الجن المارقين، وقد عصيت سليمان بن داود أنا وصخر الجن، فأرسل إليّ وزيره آصف بن برخيا، فأتى بي مكرهًا، وقادني إليه وأنا ذليل على رغم أنفي، وأوقفني بين يديه. فلما رآني سليمان استعاذ مني، وعرض عليّ الإيمان والدخول تحت طاعته فأبيت، فطلب هذا القمقم وحبسني فيه، وختم عليّ بالرصاص وطَبَعَه بالاسم الأعظم، وأمر الجن فحملوني، وألقوني في وسط البحر.

فأقمت مائة عام، وقلت في قلبي: كل من خلصني أغنيته إلى الأبد. فمرت مائة عام ولم يخلصني أحد. ودخلت عليّ مائة أخرى، فقلت: كل من خلصني فتحت له كنوز الأرض. فلم يخلصني أحد. فمرّت عليّ أربعمائة عام أخرى، فقلت: كل من خلصني قضيت له ثلاث حاجات. فلم يخلصني أحد؛ فغضبت غضبًا شديدًا، وقلت في نفسي: كل من خلصني في هذه الساعة قتلته، ومكّنته كيف يموت. وها أنت قد خلصتني، ومنيتك كيف تموت.

فلما سمع الصياد كلام العفريت قال: يا لله العجب! أنا ما جئت أخلصك إلا في هذه الأيام! ثم قال الصياد للعفريت: اعفُ عن قتلي يعفُ الله عنك، ولا تهلكني يسلّط الله عليك من يهلكك. فقال المارد: لا بد من قتلك، فتمّن عليّ ميتة تموتها. فلما تحقق ذلك الصياد، راجع العفريت وقال: اعفُ عني إكرامًا لما أعتقتك. فقال العفريت: وأنا ما أقتلك إلا لأجل ما خلصتني! فقال له الصياد: يا شيخ العفاريت، هل أصنع معك مليحًا فتقابلني بالقبيح؟ ولكن لم يكذب المثل حيث قال:

فعلنا جميلًا قابلونا بضده ** وهذا لعمري من فعال الفواجِرِ
ومن يفعل المعروف مع غير أهله ** يُجازى كما جوزي مجير أم عامر

فلما سمع العفريت كلامه قال له: لا تطمع، فلا بد من موتك. فقال الصياد: هذا جني وأنا إنسي، وقد أعطاني الله عقلًا كاملًا، وها أنا أدبر أمرًا في هلاكه بحيلتي وعقلي، وهو يدبر بمكره وخبثه. ثم قال للعفريت: هل صممت على قتلي؟ قال: نعم. فقال له: بالاسم الأعظم المنقوش على خاتم سليمان، أسألك عن شيء وتصدقني فيه. قال: نعم.

فلما سمع العفريت ذكر الاسم الأعظم اضطرب واهتز، وقال له: اسأل وأوجز. فقال له: كيف كنت في هذا القمقم، والقمقم لا يسع يدك ولا رجلك، فكيف يسعك كلك؟ فقال له العفريت: وهل أنت لا تصدق أني كنت فيه؟ فقال الصياد: لا أصدق أبدًا حتى أنظرك فيه بعيني.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى